[move=up]العرب في أميركا والغرب:
أولوية سؤال "من نحن" على "ماذا نريد"
صبحي غندور*[/move]
لقد تعايش الأميركيون في الماضي مع جملةٍ من الحروب الخارجية، وسقط لهم عشرات الألوف من الجنود ضحايا لهذه الحروب، لكن لم تتأثَّر طبيعة الحياة الأميركية بنتائج هذه الحروب الخارجية بالشكل والمستوى اللذين يبدوان الآن في حرب أميركا على "الأشباح الإرهابيين" داخل الأراضي الأميركية ..
أيضاً، عاش الأميركيون في السابق مخاوف استخدام الأسلحة النووية خلال فترة الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، لكن لم تتحوَّل هذه المخاوف إلى حالة رعبٍ جماعيٍّ عام كما الحال عليه الآن في الحياة الأميركية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. وتترك هذه الحالة النفسية الأميركية آثارها الكبيرة على نمط الحياة السياسية في المجتمع الأميركي، وعلى الاقتصاد الأميركي نفسه، بل أيضاً على التوازن القائم بين السلطات، وعلى الحرّيات العامَّة، وعلى ما كان سمةً عامَّة للحياة السياسية الأميركية: أي حرّية نقد السلطات الحاكمة.
فأميركا اليوم هي غير أميركا بالأمس. أميركا اليوم أصبح الحاكم فيها يملك سلطاتٍ شبه مطلقة، ليس بحكم تغييراتٍ في الدستور بل من خلال قوانين فرضتها نتائج أحداث 11 سبتمبر من جهة، أو من خلال المناخ العام الذي تقوده وتصنعه الإدارة الحالية الحاكمة، من جهة أخرى.
ثلاث سنوات تقريباً مضت على صدمة التفجيرات الإرهابية في أميركا، ورغم ذلك لم يقدِّم أيّ مسؤولٍ سياسي أو أمني استقالته، كما هو التقليد الأميركي المعهود بإعلان بعض الأشخاص تحمّل المسؤولية بعد وقوع حوادث ما ترتبط بوجود تقصير بشري.
فأحداث 11 سبتمبر 2001 لها نكهة خاصَّة، فالملامة الأميركية الرسمية هي فقط على الإرهابيين وما خلفهم من أصولٍ دينية أو أثنية، وليس مرغوباً لدى الرسميين الحاكمين فتح ملفات التقصيرات الأمنية والسياسية الأميركية تحت أيّة حجّة لأنَّ ذلك يضرّ بمعركة أميركا مع الإرهاب العالمي !
ورغم ضخامة حملة قيادات الحزب الديمقراطي وتركيز وسائل الإعلام على الموضوع، فإنَّ الأمر شهد تراجعاً ملحوظاً بمجرّد أن قامت الحكومة بهجومٍ إعلامي وسياسي مضاد محوره أنَّ الحملة سبَّبها قرب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم وأنَّه لا يجوز إخضاع المسائل الوطنية الكبرى لصراعاتٍ حزبية ومحلية. وقد رافق هذا الهجوم الرسمي المضاد إطلاق تحذيرات أمنية متكررة من أعلى المستويات حول إمكان استهداف مدنٍ كبرى بعملياتٍ إرهابية جديدة. فانتقل الاهتمام العام الأميركي من تشكيكٍ بالسلطات الحاكمة سياسياً وأمنياً إلى تنفيذٍ لأوامر هذه السلطات من حيث الإجراءات الأمنية المطلوبة لمواجهة الخطر الإرهابي الكبير.
إذ كيف يمكن ممارسة الحرية والديمقراطية في مجتمعٍ خائف، وهو يريد الأمن أولاً قبل الممارسة السياسية الديمقراطية وترف المحاسبة على الماضي؟!
فالسلطات الأميركية الحاكمة (السياسية والأمنية) وسَّعت دائرة المتَّهمين بالإرهاب لتشمل دولاً وجماعاتٍ ومنظمات بحيث لم يعد الأميركي العادي يعلم من أيّة جهة قد تأتيه ريح الإرهاب، إضافةً إلى استمرار حملات التشويه غير الرسمية على المواطنين الأميركيين من أصولٍ عربية أو من الدول الإسلامية عموماً، بحيث يتواصل الرعب من الداخل مع مصادر الخوف من الخارج.
صحيحٌ أنَّ المواقف والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الرسميين الأميركيين ترفض الخلط بين الإسلام والعرب من جهة وبين "الإرهابيين" وجنسياتهم من جهةٍ أخرى، لكن بعض وسائل الإعلام الأميركية (العامَّة والمحلية) تبثّ في كثيرٍ من الأحيان ما هو مصدر خوفٍ وشكٍّ وريبة في كلِّ عربي وكلِّ مسلم في أميركا والعالم.
وصحيحٌ أنَّ المجتمع الأميركي هو نسيج مركَّب من أصولٍ عرقيةٍ ودينيةٍ متعدَّدة، لكنْ هذا "الموزاييك" هو مصدر خطرٍ وضعفٍ أحياناً، كما هو سبب قوة أميركا وسلامها الاجتماعي. فالدستور الأميركي والقانون الأميركي لا يميّزان على أساس خصوصياتٍ دينية أو عرقية، لكن في الإعلام الأميركي وبعض المؤسسات والهيئات الأهلية المحلية في أكثر من ولاية، من هم يمارسون الآن هذا التمييز ضدَّ العرب والمسلمين، كما مارسوه ضدَّ أقلياتٍ أخرى في مراحل زمنيةٍ مختلفة.
الجالية العربية والجالية الإسلامية تنتميان إلى أصول عرقية ودينية متنوعة، إذ أنَّ حوالي نصف تعداد الجالية العربية هم من أتباع الديانة المسيحية، وينتمون في أصولهم الوطنية إلى بلدان لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والأردن، بينما أكثر من نصف عدد الجالية الإسلامية (حوالي 7 مليون) ينتمون في أصول أوطانهم إلى بلدان غير عربية (من بلدان آسيا وأفريقيا غير العربية) إضافةً إلى عددٍ من الأميركيين الذين اختاروا الإسلام ديناً لهم ومعظمهم من الأميركيين السود.
إذن، أكثر من نصف الجالية العربية هم من المسيحيين العرب، وأكثر من نصف الجالية الإسلامية هم من أصولٍ غير عربية. ولا يمكن وضعهم جميعاً (العرب والمسلمين في أميركا) في "سلَّةٍ واحدة" من الناحتين الدينية والعرقية.
حدثت، وتحدث، إساءات عشوائية ضدَّ البعض لكنَّها إساءات فردية لا تميّز أصلاً بين عربيٍّ وغير عربي، بين مسلمٍ وغير مسلم، بل قد وصلت إلى حدِّ التعرّض إلى أبناء جالية "السيخ" الذين هم من غير العرب ومن غير المسلمين!!
لكنْ سيكون صعباً (إنْ لم يكن مستحيلاً) تكرار تجربة اليابانيين الأميركيين مع العرب والمسلمين في أميركا.
إضافةً لذلك، من المهمِّ الأخذ بعين الاعتبار، المتغيّرات الدستورية والقانونية التي حدثت في المجتمع الأميركي خلال نصف القرن الماضي، وكلّها متغيّرات إيجابية تناهض العنصرية والتمييز على أساس اللون أو الدين أو العرق أو الثقافة. وهناك عامل مؤثر أيضاً، هو حجم المصالح الأميركية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي والتي ستتضرَّر كثيراً في حال الإساءة الجماعية للعرب والمسلمين في أميركا.
هل يعني ذلك أنَّ العرب والمسلمين في أميركا هم في أمانٍ واستقرارٍ وسلام؟ لا، طبعاً. فالمخاطر المحدِقة بهم هي قائمة على المستوى الفردي في أكثر من ولايةٍ أميركية، تماماً كما هو حال عموم العرب والمسلمين في كل البلدان الغربية!
وهذه المخاطر القائمة الآن هي حصيلة مزيجٍ مركَّب من أسبابٍ داخليةٍ في الغرب، كما لها أيضاً مصادرها الخارجية. فالمجتمعات الغربية – والأميركي منها خاصَّة - تتحكَّم في ردود أفعالها السلبية الآن مشاعر الغضب من الهجوم الإرهابي الذي فاجأ العالم كلّه يوم 11 سبتمبر 2001 والذي استخدم الطائرات المدنية ضدَّ آلافٍ من الأبرياء وبشكلٍ لم يتصوَّره خيال في السابق. وحينما يكون المتَّهم (جماعات إرهابية عربية وإسلامية) فإنَّ الغضب الغربي سيتمحور حول كلَّ العرب والمسلمين أينما كان، ثم كيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما أضيف إليه ما زرعته لسنواتٍ عديدة أجهزة إعلامية (مسيَّرة من قبل جماعاتٍ صهيونية وعنصرية حاقدة) من زعمٍ حول "الخطر الإسلامي" القادم إلى الغرب!؟ وكيف سيكون أيضاً حجم هذا الغضب إذا ما صدر عن جهلٍ عام بالإسلام وبالعرب وبقضايا العرب والمسلمين؟ وكيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما اقترن بممارساتٍ سلبيةٍ خاطئة قام ويقوم بها عدد من العرب والمسلمين حتى في داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من تضخّم عدد المهاجرين إليها وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد (من مختلف بلدان العالم) من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية !
أيضاً، فإنَّ مشكلة المجتمع الأميركي تحديداً، أنَّ حكوماته المتعاقبة في القرن الماضي كانت منغمسةً جداً في عدَّة قضايا دولية وفي أكثر من حربٍ خارجية حتى وصلت إلى حدِّ الانفراد بقيادة العالم، بينما المواطن الأميركي العادي أكثر جهلاً من أيِّ مواطن دولةٍ غربيةٍ أخرى بقضايا العالم، وبالجغرافيا وبالتاريخ، وحتى بالنسبة لتاريخ أميركا وجغرافيتها! فالرفاهية الأميركية واتساع الأرض الأميركية وعزلتها الجغرافية عن باقي العالم، كلّها عوامل أدّت إلى عدم اهتمام الإنسان الأميركي العادي بما يحدث حوله في العالم وإلى تقبّل ما تقدّمه له أحياناً الحكومات الأميركية ووسائل الإعلام من أكاذيب وتضليل، كمسلَّماتٍ حول "الآخر" في العالم الآخر.
لذلك غاب التوازن لعقود طويلة بين مدى حجم التورّط الأميركي الرسمي في قضايا العالم، وبين مدى فهم المواطن الأميركي العادي لهذه القضايا ولما يحدث حوله في العالم، إلى حين صدمة 11 سبتمبر التي كانت بمثابة صحوة من غفوةٍ زمنيةٍ طويلة، لكن الصحوة حصلت بعد كابوسٍ مرعب أخلَّ بالتوازن الجسدي والعقلي والنفسي لعموم الأميركيين.
هنا تصبح المسؤولية في التعامل مع هذا الواقع الأميركي الجديد مسؤولية مزدوجة على الطرفين: العرب والمسلمين من جهة، والأميركيين والغربيين من جهةٍ أخرى.
فكلُّ الساحة مفتوحة لأبناء "السوء" لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على "دعاة الخير" من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية. وكما هناك العديد من الحاقدين في الغرب وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من أبناء أميركا والغرب الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود. وكما تلقًَّت الجمعيات والمؤسسات العربية والإسلامية في أميركا التهديدات ورسائل الشتم من بعض الأفراد الأميركيين، كذلك تلقَّت من مواطنين آخرين العديد من مظاهر الدعم والتأييد والتضامن والرسائل التي تسأل عن ماهيَّة الإسلام والمسلمين والعرب، وترفض أسلوب الحقد العنصري ضدَّهم وضدَّ دينهم وثقافتهم.
وإذا كان الغرب تحكمه الآن حالة "الجهلوقراطية" عن الإسلام والعرب والقضايا العربية، فإنَّها فرصة مهمَّة (بل هي واجب) على العرب والمسلمين في الغرب أن يتعاملوا مع هذه الحالة (بأسلوب الحوار الهادئ والمقنع) لاستبدال "الجهلوقراطية" الغربية بالمعرفة الفكرية السليمة عن الإسلام والعرب.
لكن "فاقد الشيء لا يعطيه"، لذلك هي أولوية موازية لأولوية التعامل المعرفي مع "الآخر"، بأن يعمل العرب والمسلمون في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية وبالفرز بين ما هو "أصيل" وما هو "دخيل" على الإسلام والثقافة العربية. كذلك، فمن المهمّ التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية في أميركا والغرب، وبين غيرها من المؤسّسات في هذه المجتمعات، إضافةً إلى الحوار المباشر عبر الإعلام والإنترنت واللقاءات الخاصَّة.
هي مهمَّة مزدوجة الآن أمام العرب والمسلمين في أميركا والغرب: تحسين وإصلاح "الجسم" (الواقع) بشكلٍ متزامنٍ مع تحسين وإصلاح "الصورة"، وبناء الذات السليمة مع بناء المعرفة السليمة لدى النفس ولدى الآخر.
فالمرحلة الآن – وربّما لفترةٍ طويلة - هي مرحلة إقناع المواطن الأميركي والغربي عموماً، بمن نكون "نحن" أكثر ممّا هي "ما الذي نريده"، وهي مرحلة تضعنا أمام خيارين: إمَّا السقوط أيضاً مع الغربيين في فخِّ نظرية "صراع الحضارات" و"الخطر الإسلامي" القادم من الشرق، أو محاولة انتشال بعض هذا الغرب من هذا الكمين الذي تستفيد منه فقط إسرائيل وكلّ أعداء العرب والمسلمين.
أولوية سؤال "من نحن" على "ماذا نريد"
صبحي غندور*[/move]
لقد تعايش الأميركيون في الماضي مع جملةٍ من الحروب الخارجية، وسقط لهم عشرات الألوف من الجنود ضحايا لهذه الحروب، لكن لم تتأثَّر طبيعة الحياة الأميركية بنتائج هذه الحروب الخارجية بالشكل والمستوى اللذين يبدوان الآن في حرب أميركا على "الأشباح الإرهابيين" داخل الأراضي الأميركية ..
أيضاً، عاش الأميركيون في السابق مخاوف استخدام الأسلحة النووية خلال فترة الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، لكن لم تتحوَّل هذه المخاوف إلى حالة رعبٍ جماعيٍّ عام كما الحال عليه الآن في الحياة الأميركية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. وتترك هذه الحالة النفسية الأميركية آثارها الكبيرة على نمط الحياة السياسية في المجتمع الأميركي، وعلى الاقتصاد الأميركي نفسه، بل أيضاً على التوازن القائم بين السلطات، وعلى الحرّيات العامَّة، وعلى ما كان سمةً عامَّة للحياة السياسية الأميركية: أي حرّية نقد السلطات الحاكمة.
فأميركا اليوم هي غير أميركا بالأمس. أميركا اليوم أصبح الحاكم فيها يملك سلطاتٍ شبه مطلقة، ليس بحكم تغييراتٍ في الدستور بل من خلال قوانين فرضتها نتائج أحداث 11 سبتمبر من جهة، أو من خلال المناخ العام الذي تقوده وتصنعه الإدارة الحالية الحاكمة، من جهة أخرى.
ثلاث سنوات تقريباً مضت على صدمة التفجيرات الإرهابية في أميركا، ورغم ذلك لم يقدِّم أيّ مسؤولٍ سياسي أو أمني استقالته، كما هو التقليد الأميركي المعهود بإعلان بعض الأشخاص تحمّل المسؤولية بعد وقوع حوادث ما ترتبط بوجود تقصير بشري.
فأحداث 11 سبتمبر 2001 لها نكهة خاصَّة، فالملامة الأميركية الرسمية هي فقط على الإرهابيين وما خلفهم من أصولٍ دينية أو أثنية، وليس مرغوباً لدى الرسميين الحاكمين فتح ملفات التقصيرات الأمنية والسياسية الأميركية تحت أيّة حجّة لأنَّ ذلك يضرّ بمعركة أميركا مع الإرهاب العالمي !
ورغم ضخامة حملة قيادات الحزب الديمقراطي وتركيز وسائل الإعلام على الموضوع، فإنَّ الأمر شهد تراجعاً ملحوظاً بمجرّد أن قامت الحكومة بهجومٍ إعلامي وسياسي مضاد محوره أنَّ الحملة سبَّبها قرب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم وأنَّه لا يجوز إخضاع المسائل الوطنية الكبرى لصراعاتٍ حزبية ومحلية. وقد رافق هذا الهجوم الرسمي المضاد إطلاق تحذيرات أمنية متكررة من أعلى المستويات حول إمكان استهداف مدنٍ كبرى بعملياتٍ إرهابية جديدة. فانتقل الاهتمام العام الأميركي من تشكيكٍ بالسلطات الحاكمة سياسياً وأمنياً إلى تنفيذٍ لأوامر هذه السلطات من حيث الإجراءات الأمنية المطلوبة لمواجهة الخطر الإرهابي الكبير.
إذ كيف يمكن ممارسة الحرية والديمقراطية في مجتمعٍ خائف، وهو يريد الأمن أولاً قبل الممارسة السياسية الديمقراطية وترف المحاسبة على الماضي؟!
فالسلطات الأميركية الحاكمة (السياسية والأمنية) وسَّعت دائرة المتَّهمين بالإرهاب لتشمل دولاً وجماعاتٍ ومنظمات بحيث لم يعد الأميركي العادي يعلم من أيّة جهة قد تأتيه ريح الإرهاب، إضافةً إلى استمرار حملات التشويه غير الرسمية على المواطنين الأميركيين من أصولٍ عربية أو من الدول الإسلامية عموماً، بحيث يتواصل الرعب من الداخل مع مصادر الخوف من الخارج.
صحيحٌ أنَّ المواقف والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الرسميين الأميركيين ترفض الخلط بين الإسلام والعرب من جهة وبين "الإرهابيين" وجنسياتهم من جهةٍ أخرى، لكن بعض وسائل الإعلام الأميركية (العامَّة والمحلية) تبثّ في كثيرٍ من الأحيان ما هو مصدر خوفٍ وشكٍّ وريبة في كلِّ عربي وكلِّ مسلم في أميركا والعالم.
وصحيحٌ أنَّ المجتمع الأميركي هو نسيج مركَّب من أصولٍ عرقيةٍ ودينيةٍ متعدَّدة، لكنْ هذا "الموزاييك" هو مصدر خطرٍ وضعفٍ أحياناً، كما هو سبب قوة أميركا وسلامها الاجتماعي. فالدستور الأميركي والقانون الأميركي لا يميّزان على أساس خصوصياتٍ دينية أو عرقية، لكن في الإعلام الأميركي وبعض المؤسسات والهيئات الأهلية المحلية في أكثر من ولاية، من هم يمارسون الآن هذا التمييز ضدَّ العرب والمسلمين، كما مارسوه ضدَّ أقلياتٍ أخرى في مراحل زمنيةٍ مختلفة.
الجالية العربية والجالية الإسلامية تنتميان إلى أصول عرقية ودينية متنوعة، إذ أنَّ حوالي نصف تعداد الجالية العربية هم من أتباع الديانة المسيحية، وينتمون في أصولهم الوطنية إلى بلدان لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والأردن، بينما أكثر من نصف عدد الجالية الإسلامية (حوالي 7 مليون) ينتمون في أصول أوطانهم إلى بلدان غير عربية (من بلدان آسيا وأفريقيا غير العربية) إضافةً إلى عددٍ من الأميركيين الذين اختاروا الإسلام ديناً لهم ومعظمهم من الأميركيين السود.
إذن، أكثر من نصف الجالية العربية هم من المسيحيين العرب، وأكثر من نصف الجالية الإسلامية هم من أصولٍ غير عربية. ولا يمكن وضعهم جميعاً (العرب والمسلمين في أميركا) في "سلَّةٍ واحدة" من الناحتين الدينية والعرقية.
حدثت، وتحدث، إساءات عشوائية ضدَّ البعض لكنَّها إساءات فردية لا تميّز أصلاً بين عربيٍّ وغير عربي، بين مسلمٍ وغير مسلم، بل قد وصلت إلى حدِّ التعرّض إلى أبناء جالية "السيخ" الذين هم من غير العرب ومن غير المسلمين!!
لكنْ سيكون صعباً (إنْ لم يكن مستحيلاً) تكرار تجربة اليابانيين الأميركيين مع العرب والمسلمين في أميركا.
إضافةً لذلك، من المهمِّ الأخذ بعين الاعتبار، المتغيّرات الدستورية والقانونية التي حدثت في المجتمع الأميركي خلال نصف القرن الماضي، وكلّها متغيّرات إيجابية تناهض العنصرية والتمييز على أساس اللون أو الدين أو العرق أو الثقافة. وهناك عامل مؤثر أيضاً، هو حجم المصالح الأميركية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي والتي ستتضرَّر كثيراً في حال الإساءة الجماعية للعرب والمسلمين في أميركا.
هل يعني ذلك أنَّ العرب والمسلمين في أميركا هم في أمانٍ واستقرارٍ وسلام؟ لا، طبعاً. فالمخاطر المحدِقة بهم هي قائمة على المستوى الفردي في أكثر من ولايةٍ أميركية، تماماً كما هو حال عموم العرب والمسلمين في كل البلدان الغربية!
وهذه المخاطر القائمة الآن هي حصيلة مزيجٍ مركَّب من أسبابٍ داخليةٍ في الغرب، كما لها أيضاً مصادرها الخارجية. فالمجتمعات الغربية – والأميركي منها خاصَّة - تتحكَّم في ردود أفعالها السلبية الآن مشاعر الغضب من الهجوم الإرهابي الذي فاجأ العالم كلّه يوم 11 سبتمبر 2001 والذي استخدم الطائرات المدنية ضدَّ آلافٍ من الأبرياء وبشكلٍ لم يتصوَّره خيال في السابق. وحينما يكون المتَّهم (جماعات إرهابية عربية وإسلامية) فإنَّ الغضب الغربي سيتمحور حول كلَّ العرب والمسلمين أينما كان، ثم كيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما أضيف إليه ما زرعته لسنواتٍ عديدة أجهزة إعلامية (مسيَّرة من قبل جماعاتٍ صهيونية وعنصرية حاقدة) من زعمٍ حول "الخطر الإسلامي" القادم إلى الغرب!؟ وكيف سيكون أيضاً حجم هذا الغضب إذا ما صدر عن جهلٍ عام بالإسلام وبالعرب وبقضايا العرب والمسلمين؟ وكيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما اقترن بممارساتٍ سلبيةٍ خاطئة قام ويقوم بها عدد من العرب والمسلمين حتى في داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من تضخّم عدد المهاجرين إليها وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد (من مختلف بلدان العالم) من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية !
أيضاً، فإنَّ مشكلة المجتمع الأميركي تحديداً، أنَّ حكوماته المتعاقبة في القرن الماضي كانت منغمسةً جداً في عدَّة قضايا دولية وفي أكثر من حربٍ خارجية حتى وصلت إلى حدِّ الانفراد بقيادة العالم، بينما المواطن الأميركي العادي أكثر جهلاً من أيِّ مواطن دولةٍ غربيةٍ أخرى بقضايا العالم، وبالجغرافيا وبالتاريخ، وحتى بالنسبة لتاريخ أميركا وجغرافيتها! فالرفاهية الأميركية واتساع الأرض الأميركية وعزلتها الجغرافية عن باقي العالم، كلّها عوامل أدّت إلى عدم اهتمام الإنسان الأميركي العادي بما يحدث حوله في العالم وإلى تقبّل ما تقدّمه له أحياناً الحكومات الأميركية ووسائل الإعلام من أكاذيب وتضليل، كمسلَّماتٍ حول "الآخر" في العالم الآخر.
لذلك غاب التوازن لعقود طويلة بين مدى حجم التورّط الأميركي الرسمي في قضايا العالم، وبين مدى فهم المواطن الأميركي العادي لهذه القضايا ولما يحدث حوله في العالم، إلى حين صدمة 11 سبتمبر التي كانت بمثابة صحوة من غفوةٍ زمنيةٍ طويلة، لكن الصحوة حصلت بعد كابوسٍ مرعب أخلَّ بالتوازن الجسدي والعقلي والنفسي لعموم الأميركيين.
هنا تصبح المسؤولية في التعامل مع هذا الواقع الأميركي الجديد مسؤولية مزدوجة على الطرفين: العرب والمسلمين من جهة، والأميركيين والغربيين من جهةٍ أخرى.
فكلُّ الساحة مفتوحة لأبناء "السوء" لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على "دعاة الخير" من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية. وكما هناك العديد من الحاقدين في الغرب وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من أبناء أميركا والغرب الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود. وكما تلقًَّت الجمعيات والمؤسسات العربية والإسلامية في أميركا التهديدات ورسائل الشتم من بعض الأفراد الأميركيين، كذلك تلقَّت من مواطنين آخرين العديد من مظاهر الدعم والتأييد والتضامن والرسائل التي تسأل عن ماهيَّة الإسلام والمسلمين والعرب، وترفض أسلوب الحقد العنصري ضدَّهم وضدَّ دينهم وثقافتهم.
وإذا كان الغرب تحكمه الآن حالة "الجهلوقراطية" عن الإسلام والعرب والقضايا العربية، فإنَّها فرصة مهمَّة (بل هي واجب) على العرب والمسلمين في الغرب أن يتعاملوا مع هذه الحالة (بأسلوب الحوار الهادئ والمقنع) لاستبدال "الجهلوقراطية" الغربية بالمعرفة الفكرية السليمة عن الإسلام والعرب.
لكن "فاقد الشيء لا يعطيه"، لذلك هي أولوية موازية لأولوية التعامل المعرفي مع "الآخر"، بأن يعمل العرب والمسلمون في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية وبالفرز بين ما هو "أصيل" وما هو "دخيل" على الإسلام والثقافة العربية. كذلك، فمن المهمّ التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية في أميركا والغرب، وبين غيرها من المؤسّسات في هذه المجتمعات، إضافةً إلى الحوار المباشر عبر الإعلام والإنترنت واللقاءات الخاصَّة.
هي مهمَّة مزدوجة الآن أمام العرب والمسلمين في أميركا والغرب: تحسين وإصلاح "الجسم" (الواقع) بشكلٍ متزامنٍ مع تحسين وإصلاح "الصورة"، وبناء الذات السليمة مع بناء المعرفة السليمة لدى النفس ولدى الآخر.
فالمرحلة الآن – وربّما لفترةٍ طويلة - هي مرحلة إقناع المواطن الأميركي والغربي عموماً، بمن نكون "نحن" أكثر ممّا هي "ما الذي نريده"، وهي مرحلة تضعنا أمام خيارين: إمَّا السقوط أيضاً مع الغربيين في فخِّ نظرية "صراع الحضارات" و"الخطر الإسلامي" القادم من الشرق، أو محاولة انتشال بعض هذا الغرب من هذا الكمين الذي تستفيد منه فقط إسرائيل وكلّ أعداء العرب والمسلمين.