لا تنم ها هنا

    • لا تنم ها هنا

      المكان يلفه صمت مهيب .... الموت هو الاسم الوحيد الذي يتردد صداه في تلك القاعة السوداء .. شهقات ... صرخات .... تمزق سكون المكان ... سواد قاتل ... يجعل الشيب يتسابق في شعيرات الرضع .. لا شيء هناك .. يعادل مرارة ما تحس به تلك الغريبة ... التي انزوت في مكان منفرد ... يقاسمها المكان كثيرات ... لكنها أبداً مختلفة ... ملامحها المجهولة ... مريبة ... القريب منها يكاد يحس بأنفاسها الملتهبة ... الكون يتمايل في عينيها ... لا الشمس هي الشمس ولا النهار هو النهار .... ولا اليوم هو اليوم .... كل شيء تحطم في لحظة عابرة .... تغرق في تخيلاتها حتى تصل بها أفكارها المتعبة إلى صورة جسده المسجى فتصرخ لاطمة رأسها وتتصارخ النسوة بعدها .... تحس أن كل شيء لا شيء ... العدم يسيطر على حواسها ... القبر الضيق الذي يلف عزيزها ... يحبس أنفاسها ... وتسير بمفردها إلى الباب الخارجي ... الكل لاهٍ بما فيه من هم وكدر ... لا أحد يلحظ هذه الصغيرة ... ذات الضفيرتين المشعثتين والقدمين الحافيتين .... تسير بخطوات متثاقلة .. وكأنها جاوزت السبعين من عمرها ... تتأمل الشارع ... الصامت ... الكل يودع عزيزها ... الكل هناك ... لكن أين هنا؟؟؟ تتساءل ببراءة ... وتسير ... تقطع الطرق وحيدة ... تهتف ببراءة ( تعلمي أن تسيري بمفردك ... إنه لن يساعدك مجدداً ) تتعثر في خطاها ... الغبار يعلو ثيابها السود .... ولكنها ما زالت تسير ... تمسح ثيابها بوهن .... وتتأمل ثوبها الذي اشترته برفقته ... وتبتسم بألم ... ما أصعب أن تبتسم!!! تتراقص في عينيها صورة لكأس ماء .... تمر بلسانها على شفتيها ... ترطبهما ... تتأمل الطريق الفارغ الذي تصفر فيه الريح وتتمتم ( لا بأس ... هو أيضاً لا يشرب الماء بالتأكيد ) تمسح بكفيها دمعتها اليتيمة .... هي أيضاً مثل دمعتها يتيمة .... اليوم أيقظته كعادتها ... لكنه لم يكن كعادته ... آآآآآآآآآآآآآآآآآه ما بال جسدك بارد....؟؟؟؟؟؟؟ أيها الدافئ أبداً ... يتأرجح الكون بعينيها .... تفترش التراب ... تضم ركبتيها إلى جسدها المنهك .... تسند رأسها على ركبتيها وتبكي .... تقوم ثانية وهي تقول( ودعيه ... بسرعة قبل أن يغّيبوه) ... تسير بتثاقل حتى تسمع صوت الشيخ ... يقول ( الله أكبر) .... تشعر بالألم يزول ... لا تحس بشيء ... سوى بجسدها يتراكض ... سارت بسرعة هذه المرة ... ولم تتعثر ... وجدت باب المقبرة مفتوحاً .... تقدمت ببطء.. المكان مزدحم ... الكل يصلي ... انتظروا؟؟؟؟ ماذا هناك؟؟؟؟؟ ما هذا البياض ؟؟؟؟؟ تختلس النظر بين تلك الأجسام الضخمة ... وتتسارع دقات قلبها ... يتلاعب بها الخوف .... تصل للبياض ... ترى أعيناً تعلوها الدهشة ... الكل مذهول ... وهي مثلهم تماماً ... مندهشة ... مشدوهة .... تحاول رفع الحجب البيضاء عن الجسد المسجى .... ذات الخمسة أعوام .... تتحدث بطلاقة ..... يتيمته تتحدث ( من هذا؟؟؟؟؟؟؟) ... تفك الحجب .. بصعوبة ... الكل يتأمل بصمت ... لا أحد يجرأ على التحرك ... يطالعها وجهه الوضاء ... تنفرج ابتسامة حلوة على شفتيها وتهتف ( إنه بابــــــــــــــــا)....... ( أبي ... ماذا فعلوا بك؟؟؟؟ إنهم يخنقونك ... ساعدوني ارفعوا هذا عن أبي ..ز حتى يستيقظ .... أبي قم ..... قم عن التراب ... فما يليق لك النوم ها هنا .. يا أبتاه ... قم وصلِ معهم .... افتح عينيك .... قم يا أبي ... لم أنت نائم؟؟؟؟؟؟) وتصرخ ... يتردد صوت صرخاتها في أنحاء المقبرة ..... القبور في كل مكان ... تتأمل الصغيرة حفرته ... وتتساءل( هل ستضعونه هنا مع جدي .... لا .... لا ... أحضروه للمنزل ... ضعوه على سريره لينام ....) ثم تعانقه ( ما بال رائحتك مختلفة يا أبي......... بابا ..... أجبني يا بابا) ... تتعالى أصوات بكاء المصلين ... يتقدم أحدهم ليرفعها عن جسد والدها .... صرخت ... ثم هدأت ... لم يسمعوا لها صوتاً ... حركوها .... لكنها كانت قد نامت ... بجوار والدها للأبد ..................