رواية - حب أخضر

    • رواية - حب أخضر

      حب أخضر - رواية

      -1-

      -1-


      طلّ من سرة الشرق ، تدرجت معه ملامح عديدة مع هالة موشورية في المجيء المحير الذي راح يكشف رويدا رويدا عن فسحة كانت مخبأة في طيات الجانب المهمل من الفضول .. إطار لأفق برونزي ، قرويون وقرويات .. أصحاب غبطة ، أزقة ووهاد ، مصافحة ولهفة .. واحد نظراته من فطيرة الوعد .. وآخر تحُوْطه قبضة هيئة واجمة يتوعد باستكشاف لغز دون المضي إليه ، وثالث حضوره خطف النظرات .. أنهضوا بلدة بحالها من وعكة الهدوء وأقحموا حواسها في رهبة ، تحسست أحدهم حسناء ، دارا أمام أنظار الجميع حول مرج صغير كطفلين .. تابعتهما العيون التي جعلا منها جزءا من مغامرتهما الساحرة .. نزل رابع على درج من شفق مكدود.. اقترب دون معابر .. ملأت طلته فسحة أوسع من المكان الذي يشغله بكثير.. اقتربت منه الشرفة كبساط ريح : دهشة وجه ، لسعة برد ، مناشير غسيل ، بجامة رطبة معلقة على مسمار طويل ، جهاز راديو عتيق ، قطعة قماش شلحتها ريح في زاوية ، سؤال واقف في حنجرة الصمت كطفل خائف .. ومباشرة مع كل هؤلاء دخل في حوار جرئ .. أوحت إشاراته إلى تواضع لافت .. فاض المكان به .. خصخص ملكيته للوقار وجعلها تنداح حتى مع غصن زهرة جوري يابس .. خلع ما تبقى من التباطؤ عن مسيرة أيام خلت بشيء من المبالغة .. وقف كصديق قديم يستعجله رفقاؤه الذين سبقوه في تسجيل حضورهم المبكر للذهاب إلى مكان آخر ، بحجة أن هذه الشرفة تخلو ممن يرنو إليهم .. والجرأة فاسدة كعلبة سردين تجاوزت تاريخ صلاحيتها.. والانتظار هنا كالضحك على اللحى.. وضع صديق يده على صمته الفائر من اقتراحات متكررة ، وترك الآخر يعبر عن جواه كأنه يجالسه لأول مرة ، من بين أكوام العتب والاعتذارات الشفوية وجد فرصة للراحة والمماحكة .. وبعد ثرثرة انتهت بلَوْمٍ .. وضع ختما بالشمع الأحمر على حمرة خده منتظراً، ودون أن يبدي أي انفعال أو جلجلة متوقعة منه ، جانبهم الجلوس باحترام ، حدث همس من جهة جليسه :" ستبقى يا عزيزي كساعي بريد يحمل الرسائل ، لا يهمه أن يعرف ما فيها .. أنت كمضرب عن التمتع بأشياء متاحة له، ولغيره على عكس أصحاب المطالب ، ينتقد نفسه بأنه قليل التحمل ، بينما هو كمثل جندي مجهول .."
      تجاوزت الشرفة حدودها لتضم إليها قوافل مستعارة من شحنة الفراغ وحيز الضوء والانضباط والدوافع ونظائر الأشياء .. وكأن العالم اختصرته بقعة بوسع موطئ كلمة .. غابت مقطورة المدى مع أول نجمة غاربة كطفل أسكته ثدي أمه الممتلئ.. غالبَ فرص التدخل غير المناسبة.. تفاعل الحوار بدفء ، غنج الحسناء أشاع رؤية متشابهة لدى الجميع ، مما دفعها إلى المزيد من التألق الممزوج بأجوبة على أسئلة طرحت نفسها بقوة ، تكلم وكأنه في موقع للدفاع عن أمر خفي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه .. اكتفى بهز رأسه أمام أحدهم .. و شرح لآخر بأن الرسول لا يمكنه المرور إلا بعد استئذان وليس بجندي يقتحم ، ووظيفته الأساسية في هذه اللحظة هي الصبر والهدوء عند قدمي العاشقين .. تحمّل مشادة حول تهمته بالصبر .. تجنب ما يدور كتعامله الرزين مع نجمة آفلة ينتظر عودتها ، وبقي كعادته لا يتدخل إلا عندما يُتاح له ، بشّر بنزهة جميلة دون أن يبين الأسباب ، أتهم بتحمل أعباء يقظة في وقت غير مناسب ، وبأنه يحمل أحيانا مناظير ليلية للتجسس، ورؤية ما لا يجوز رؤيته..
      .. ابتلعت خبراته كل هذا الاستعجال ، وترك مهمة الدفاع لآخر متفهمٍ ، والذي وضّح : ليس له علاقة بالقصص السيئة ، ولا بأي شخص يحمل سلاحا أو أفكارا خلاسية .. وتوجد حرية للجميع بـ.. و ما العيب في أن ينزل على هيئة شيخ لملاقاتنا ..؟
      حدث رد لا يخلو من تهكم :
      - عن أية حرية تتكلم مادامت الخطوة التالية تستعد لترحيلي بغض النظر عن المكان شرفة كان أم باب ؟
      - لا توجد خطوة تالية .
      - قصدك أنني غير موجود ؟!
      - أقصد الخطوة التالية موجودة فيك ، أنتَ الخطوة التالية..
      تداخلت خطوط غير بيانية ، متشعبة كأغصان برق محموم.. استباحت الفسحة للحظات ..
      كاد الحوار يطول لولا تدخل شكل غريب لبنية غير مألوفة لها رائحة زواريب ضيعة منسية ، انحنت إجلالا ، ثم التفت إلى شفق بدا على بعد لمحة بصر من جهة ميسم الشرق ، وبعيد عن العتمة التي تبصبص من وراء النافذة مسافة دهر ، تهيأ له ذلك المشهد الذي يتكرر كلما ألحت عليه الضرورة بشيء من المودة، أو طلب منه جليس آخر بلهفة المستعجل والمدفوع من الخلف للعبور ، وكأنه تحت سطوة ما، عبّر عنها أحد مريديه :" سيبقى هكذا ، كما عهدته، يتخلف عن اللحاق بنفسه، من أجل أن نعبر ، يمضي من حولنا، ومعنا ، يتلهف .. ينتظر.. يتعب منه الفضول .. لكنه يزودنا بدفئه حتى أثناء بعده عنا.. يقدم للكسول كما للنشيط فنجان القهوة و لا يشرب معهما ، يقدم لهما الجريدة ولا يشاركهما القراءة .. يمشي كيفما نشاء حافياً، بعد أن يوقظنا برفق، ويدفعنا للمسير منتعلين .. ونمشي برفقته دون أن يشعرنا بذلك كي لا نزعل منه أو يشعرنا بأنه يتعقبنا، فهو كحارس أمين ، أو كعسس عصري بياقته المهيبة ، لكنه غير مهتم بجمع المعلومات ، وليس لديه مكتب لتحليل الأخبار.."
      طل وجه آدمي أليف .. ملأ الشرفة حضورا .. وحمل معه أمنا .. طرح جدلا بصمت .. أومأ برأسه مجيبا على أسئلة عديدة .. وكانت النتيجة الأشبه بجواب تام " ذلك كان في الأمس وحسب.. أما الآن ، فهي تحب الجميع .."
      حدث لغط ، دون أية إثارة، واستضافت الشرفة رغم ضيق مساحتها عددا منهم ، التفتوا إلى بعضهم البعض بهدوء كمن ينتظر موعدا مع قارئة طالع ستقول كل الأسرار .. شبّ الفجر واقترب من موعد الوقوف على رجليه، والمشي للمرة الأولى هذا اليوم.. تحّمل الوقوع أكثر من مرة قبل أن يخطو.. حطّ عصفور دوري على سلك معلق إلى الجدار القريب .. زقزق بعناد.. أحدث توازنا غير منتظر .. جاء عصفور آخر ، كأنه يدعوه لوليمة قريبة فطارا .. وجد الصبح المطلي بغيم داكن نفسه على موعد مع فتوته ، ضمد عبوره من كدمة الانتظار وضرب موعدا مع الغد في مثل هذا الوقت .. وقبل أن يغادر قال بصوت جلي : " كالعادة، ينتظر الضوء بجوار الباب حتى يفيق التلاميذ من نومهم ، يسبقهم إلى الصف ، يفتح لهم الأبواب والنوافذ ، ويقدم لهم وجبة التعليم كأنك المدرس الآخر الذي لا يمل .. ويخرج معهم إلى الباحة.. يلعب الكرة، وينط أكثر مما ينطون ، و .."
      حدثت جلبة تلاها تلصص غير بريء من وراء شق صغير تتنفس منه النافذة ، استفزت الأشياء التي تسترخي على عجين الوقت المعطر بالهيبة ..
      وقبل أن يبتعد آخر .. ردد " : لا أقبل أن أكون مخفرا متقدما لصالح أحد، حتى ولو كلفني الأمر قطع أصابعي.."
      فاقت سلاف من هذا الحلم الطويل لليلتها الأولى في حضن غرفتها بعد وصولها من الضيعة ..
      خرجت مباشرة إلى الشرفة ، ووقفت في المكان نفسه الذي كانت واقفة فيه طيلة نومها الكابس على راحتها .. وضعت يدها إلى جبينها كمن تتحسس حمى ، نظرت إلى الشمس ، وهمست :" هذه هي التي رأيتها في الحلم .. لكن ماذا عن الأفق والضوء والشفق والخطوط والأشباح ؟ وهل كان الوجه الأليف هو وجه ماهر ؟ وهل كان مضطرا للقول بأنها تحب لجميع ؟!.. ماذا يجري من حولي ، أم هو مجرد حلم ؟ .. "
      سحبت جسدها للداخل ثانية تحت تأثير مغناطيس الارتباك ، و أعادت كل شيء كما كان : الستارة ومعها العتمة والأسئلة .. استرخت مع خميرة اللحظة العابرة كمن تستريح من منازلة شاقة مع تعب تغلغل في مسامها كعرق يستعد للرحيل..
      وكان النوم ذلك الزميل الذي لا يزال يروّض مشقة أيام خلت ، وتركت له حرية التصرف، ولراحتها فرصة تناولها كفتاة تنتظر هذا الكم من الاسترخاء ..
      أعادت هؤلاء من جديد وتركتهم يديرون حوارا تحت تأثير

      رغبتها بالبقاء معهم ولو لجزء من أمنية قادرة على التقاطها بطرف جفنيها ، وبقاء هذا الحلم الذي وقف فيه ماهر وسط الشرفة يطارح أفقها كأنها على موعد فتي مع جذوته .. ومع أفكاره التي ناقشتها معه قبل أيام مستوحيا رؤيته من الضوء

      أسد محمد