للورد هدية

    • للورد هدية

      للوردة هدية



      ولجت باب غرفتها ، وقبل أن تفتح النافذة للتخلص من رائحة رطوبة ، فتحت حقيبتها تحت تأثير توقها الحسي الملموس ودوافعها الناجزة التي اعتملت بها طول رحلتها وهيجت شوقها على نحو لا فت ، وباستعجال لايخلو من تصرف طفولي ، افترشت أمامها الهدايا التي حملتها معها على سريرها ، وزعتها على الطاولة بعشوائية ، وتراشقت النظرات والأفكار التي راحت تعتمل فيها حيرة حول خياراتها السابقة ، فكرت من جديد بكيفية توزيعها ، ارتدت على قرارها السابق واستبقت الأمور على حالها ، وغمغمت بانتشاء :
      " هذا الكتاب الذي طلبته ندى من مكتبة والدي ، وهذه أقراص محشوة بالتمر لهند ، ومربى التين لسلوى ، الوشاح المطرز لمريم، أما هذه البلوزة فستفرح بها ميادة .."
      وتحت تأثير لهفتها الضاغطة ، وبعجلة لافتة أعادت ترتيب الهدايا حسب أرقام غرف الصديقات في السكن الجامعي ، وضعت الحلوى على طبق صغير ، وحملت الهدايا، ثم مضت يتلوى جسمها فوق كيان أنثوي مرن ووجه يشيع حبورا ، وعينان لامعتان ، يرافقها غنجها كظل خفيف ، وتتقافز من حولها أطياف كسرب طير قبول، وجمل الدلع التي ستقولها بعد غياب عنهن ، اعتبرته زمنا طويلا قياسا بالوقت الحميمي الذي تمضيه معهن أثناء الدراسة ..
      انتصبت أمام باب غرفة هند كعود خيزران يستند عليه غنجها كطفل لعوب، نقرت على الباب نقرات خفيفة بشيء من مزاحها المعتاد ، كررت النقرات ، ثم دقت بأصابعها ، تلتها دقة بمجمع اليد :" هه ، أنا ماجدة ، افتحي الباب .. افتحيه .." ظلت تتراشق النقرات لبعض الوقت ، ثاب إليها رجع صدى من فراغ الممر الطويل " لابد أنها في غرفة سلوى .." استدارت إلى يمنيها بهدوء ، وزحفت بقبقابها الخشبي من آخر موضة مفتعلة به صوتا ملأ الكريدور الذي يشي بملل .. وأمام غرفة سلوى كررت ما فعلته ثانية، مع تعمد مفتعل في إعلاء نبرة صوتها التي أحدثت ضجيجا ..
      انهالت عليها تساؤلات غريبة خففت من رشاقتها وهي تسير باتجاه غرفة أخرى ، تثاقلت خطواتها وانتفخت عطالة الغموض على محياها ، حاولت إقناع نفسها متبرمة بأنهن في غرفة أخرى ، لكن كل شيء تبخر مع تكرار الجواب نفسه " لا أحد .."
      بدت الأبواب كأطلال مهملة ، وذابت في عينيها حسرة غير منتظرة بعدما لاحظت العتمة تسد شقوق الأبواب ، والضوء الموجود حولها مصدره لمبات الكريدور .. غاصت في ردهات شكوكها التي طالت حمرة وجهها وأحالتها شحوبا ، وتفككت أوصال دلعها دفعة واحدة ، ورأت بأم عينيها كيف يسيح قلقها على الجدار الجانبي ..
      طوتها خيبة وهي عائدة إلى غرفتها وتغرز نظرها في الهدايا التي تحملها ، وبدأت الأوهام تساورها " لأول مرة تخلو الغرف من الطالبات بهذا الشكل .. أين هنَّ ؟ "
      استبقت على بصيص أمل تسرّب إليها من ثقب احتمال متواضع " قد يكنَّ عند مريم في الطابق الأخير .." تركت كل شيء من يدها واندفعت بكل ما لديها من قوة .. وقبل أن تدق الباب ، صدتها عتمة تعصب ثقب جانب قفل الباب، وفهمت من الإشارة ، رغم ذلك لم تتوان عن قرع الباب بفظاظة ، صاحت ، وتفوهت على وقع رعونة هذه المصادفة بكلمات غير لائقة .. وشتمت حظها وهي تتبع خطى احتمالات عديدة يمكن أن تكون قد حدثت ، وجاءت كلها في سلة سوء " حادث سير ، مرض، مستشفى ، حريق.. خير اللهم اجعله خيرا .. " وانساقت مع هذه الأورام المحتملة كون طبيعة الوقت المتأكدة منه لا يسمح بالجدل ، و هو عطلة نهاية الأسبوع ، وغدا صباحا دوام في الكلية ، ولا يمكن لهذا الغياب التام أن يحدث دون مشكلة كبيرة..
      ذهبت ظنونها أبعد من ذلك ، وفكرت بوجود حدث جلل كتفجير ما ، أو ..
      كبست عليها الأوهام ، تبعضت وتشتت إلى شكوك وأجزاء من توقعات ، وأفكار سوداوية .. طافت فوق سطح بحيرة تململ .. ضاقت عليها صدر غرفتها التي وصلتها كطير جريح ..
      غبش في عينيها وارتطام عبثي لقلبها مع جدار التوجس القابض على هواء حيلتها ..
      أسرعت للخارج بقصد الذهاب إلى المستشفى ، وقفت عند الباب الرئيسي للسكن الجامعي ، تجتر ترددها : " أي مستشفى ؟ أين أذهب ؟ " وقفت محتارة وهي تفكر إلى أي وجهة ستذهب.. بانت من بعيد زميلة قادمة مع ظلها من وراء شجيرات الزينة ، تنهب الدرب الصغيرة بترنح فيه افتعال ..
      تمنت أن تصل وبأقل من لمحة بصر ، أبدت ردة فعل غير إرادية عقب همسة في أذنها حول الموت ، أعقبتها بجفول باين مثل عسكري تمّ القبض عليه وهو يهرب من وحدته..
      تتبعت قبول الزميلة نحوها بتوتر متناغم ، تصاعد مع اقترابها ، راجية من العلي القدير ألا تحمل لها خبرا سيئا، وصلت ، صافحتها ، وقبل أن تسألها ، بادرتها الزميلة قائلة: " الحمد لله على سلامتك ، كيف حالك ، لا تقلقي، لقد سافرن في رحلة علمية ولن يعدن قبل ثلاثة أيام .." تنفست الصعداء ، ضمتها ، شكرتها ..
      راح توترها يذوب كقطعة ثلج في اليد ، رفلت تستعيد ما فقدته من تماسك ، مسحت قطرة عرق عن جبينها البلوري ، أسدلت جفنيها .. صعدت إلى الغرفة التي عادت إلى وضعها الاعتيادي ، تركت الهدايا مبعثرة في أماكنها، استلقت على فراشها ، استجابة لطلب جسدها ببعض الراحة، ولتتخلص روحها من أعباء مروره عبر مطب المبالغة في ردة فعل قادتها إلى اقتلاع شوكة القلق وعسرة المفاجأة بيدها ..
      ارتاحت قليلا ، تنسمت عطر الراحة والسكون ، شعرت بجفاف صحراوي في فمها ، قامت ، وسحبت عبوة الماء من جيب الحقيبة المخصص لها ، فتحت الغطاء ، ورفعت العبوة إلى سوية فمها ، وعيناها شاخصة إلى الفوهة ، وقع بصرها على أصيص الورد الممسوك بسلك ومشدود إلى الحاجز الحديدي ، احترّت وهي ترى الوردة الذابلة بوريقاتها الحانية على ساقها الطويل ، همست " لقد نسيتك بسبب صديقاتي ، ودائما اعتبرتك واحدة منهن .." أخذت عبوة الماء ، وسكبتها كاملة في الأصيص ، وتأملت باسترخاء كيف امتصت حبيبات التراب الناشفة الماء وضمت بعضها البعض في ذوبان مشتهى .. اتكأت على حافة النافذة وهي في حالة نشوة نابتة على شفتيها، ورضا متساوق مع ما فعلته : " لقد وجدت أخيرا مَن أمنحها هدية.. "







    • .. وشتمت حظها وهي تتبع خطى احتمالات عديدة يمكن أن تكون قد حدثت ، وجاءت كلها في سلة سوء " حادث سير ، مرض، مستشفى ، حريق.. خير اللهم اجعله خيرا .. "

      اعجبني وصفك الدقيق للافكار ..

      وللورد هديه ..

      سلمت يمناك والى الامام دائما

      :)
      فهل ذاك الزمان يعود يوما ، ، !