قبل أن يُغفل ذكره.
لك وجه ما كانت الشمس لتصل لنوره مهما اشتد من وهجها، كنت أنتِ هناك قبالت الذكريات، تناوشين ما كان عابرا دون يقين.. إني أعشقك حتى كأني امتلأت بنور عشقك، يا التي تحرقني بجلال جرحها، يا التي تتقاسمني مناصفة مع الوجع.. يا التي تزجّ بأشواقي في زنزانة ولهٍ فرديّة، خالية النور فارغة الأنس.
عاشقك الفاحش الثّراء.. حمدان.
ــــــــــــــــــــــ
مستشفى الجامعة ( عيادة الأمراض النفسية) :
كان يخشى الاستلقاء على ظهره.. بحجة أن خنجر غدر يتربص غفوته تحت الفراش.. كان يضع نصفه السفلي فوق السرير، ويتكئُ على رأسه بنصفه العلوي تحت السرير، ما كان من شيء يثنيه عن هكذا وضع، لا تتالي دموع أمه ونحيبها، ولا محاولات أخويه في تغيير وضعه، وحدها "زينب العسكري" كفيلة بأن تلفت انتباهه لحظة مثولها في التلفاز، ولكنه على حاله باقٍ. ببساطة ماعاد حمدان كما كان حمدان.
قبل الألم بكسرة خبز وفراش بال :
على أية حال ما زال الشتاء في أوّله، وما زالت إشارات الفرج حمراء..على أية حال سيكفي حمدان القليل من الألم والكثير من التمني، مساؤكم غفران وتوبة أيها المصلّون، سيكفي حمدان القليل من الدعاء كي يمتطي صهوة رحلة عرجاء أخرى. كان يشاطرني الجهة الفارغة للفرحة ، وفراش بال متمزق الراحة لغرفة يتجاهلها الشروق، لم أره يوما مطرق الرأس شارد اللحظة.. كان دائما يربّت على كتفي الأيسر ساخراً : (ستفرج، كلما اشتدّ الحبل سهُل قطعه). ولكن الحبل كلما اشتدّ كلما مزّقنا!.
" لماذا الخوير يا حمدان؟ لما ليس السيب!؟" يتركني لاحتجاجي ويُتبع رغبته خطاي، الآن لربما قد اتضح لي بصيرةً لما الخوير..لا لوجه امرأة صبوح، ولا لظل وظيفة ما، بل لشيء في النفس يطفو كلما نظرت تراكم الأبنية البيضاء أمامك.
كان حينما يستعطفنا الجوع.. نترك إضاءات مطاعم الخوير، ونحشر أنفسنا في مطعم منسي ممتلئ بالآسيويين ورائحة زيت الشعر..يُعلّق :
- أي والله، لولا هذه الرائحة العظيمة ما تنقى الجو، إنها نسمتنا العليلة.
وافدون كثر حتى تكاد تشك في أرضك، منتشرون بعبثية غريبة، يمشون فرادى لا يتجانبون، لا ترى أمامهم إلا أكواب شاي "الكرَك" ودخان سجائرهم يحفهم، يتابعون من التلفاز دموع أوطانهم أوجاع غربتهم. أمّا حمدان دون توقف يتحدث.. دون أسىً على الصمت يسكُن.. وإذا ما انتهى من أكل شيءٍ ما – لم تكن وجبتنا لتتغير عن أكلة "الكيمة"- فإنه يمسح على أسفل بطنه كالخارج من وليمة ما.
أسألــه : كيف تتمنى أن تكون فتاتك ؟
يشرد أول اللحظات .. تتجهم ملامحه أوّل اللحظات، ثم سرعان ما تنبسط ويغمزك بسخريته : - (ما يُهمني فيها خصرها، أريدها نحيفة عدوة للأكل.. نباتية لا تأكل إلا الخضار.. كي تُريح وأستريح). وحين أسأله عن أخبار أهله يشرُد ثم يعود لسجيته ويجيب لا أدري ساخرا أم متألما : ( ما زال أبي مسناً لم يصغر، وأمي من خيرة نمّامات البلدة، كل الأمور بخير لا تخشى بأسا، أخواي بدأت متاعبهما، ولكنهما على مستوى رفيع في دراستهما..). يصمت ولا يُكمل.. لا يتحدث عن مرض أبيه، يختبئ من عوَر أمّه ولا يتحدث عن أخواته الأربع...
كان حمدان يقول: ( لو يضيق هذا الحزن قليلا.. لربما..)، ثمّ يعتمر قبعة صمته ويمضي ساكنا كمن لا يمشي.
كان حمدان يُشير : ( لوجرحنا الأبدي فاوضنا.. افضلنا استمرار نباله على إبادتنا..).
آخر ليلة.. حيث كانت الثالثة فجرا.. زحف إليّ.. لا صق جسدي ثم ضغط على كفي الأيمن.. همس : (إنـ .. إنه قـ.. قـارس.. البــ.. البرد يلــ.. يلسعني.. البـ.. البرد.. البـ) بعدها فزّ واقفا، ظلّ على وقفته دون حراك، سألته متوجساً : (حمدان.. مابك؟ أأنت على مايرام) لم يجبني، هرع إلى حقيبته يفتشها، يبعثر ما بها، أخرج برواز صغير وورقة كأنها رسالة.. احتضنهما طويلا..وبكى.. أعاد الرسالة وأخذ البرواز معه ومضى.. كنت أنادي عليه ولم يجب.. جريت خلفه وما كان عليّ سوى إزاري وقميص خفيف لا يحميني من البرد، لكنه سبقني.. عدت لغرفتنا ارتديت ملابسي ومضيت باحثا عنه.. ليلة.. ليلتان.. ثلاث ليال.. لادليل.. لا أثر.. لا خبر، هاتفني رابع ليلة أحد أخوته، أثقل قلبي بالألم حينما أخبرني عنه.. كان حمدان ببساطة.. وببساطة أشد لم يعد حمدان هو حمدان.
لكنه ترك لي الخوير بزخمها وليلها الساهر.. ترك لي غرفتنا المملوءة بالفراغ والعدم وفراش بال، ترك لي سراً رسالة عشق مجهولة الجهة.. ترك وترك وترك.. فقط تركني ومضى.
شبه رؤى :
كان حمدان في زاوية وجع.. لم يكن حصار وجع ما حجزه.. ولا صفيح تشرّد ما افترش..
( حمدان.. حمدان) لم يكن ندائي يصله..
(حمدان.. حمدان) ما كانت دموعي تبلله..
وحينما حاولت أن أقدّ قميص غفلته من دبر، وجدته عارياً إلا من حلمه.
نــبهـان الحنــشي