الوقت العصيّ من تأليفي

    • الوقت العصيّ من تأليفي

      ها قد أنهى بدر المرحلة الثانوية بحصوله على المركز الأول على مدرسته وبنسبة 99 % ، والآن يتهيأ للرحيل إلى استراليا ، للالتحاق بكلية الطيران الحربية ، ليحقق أمنيته منذ الطفولة في أن يصبح طيارا حربيا لخدمة وطنه وبلاده ، تبقى على موعد السفر أقل من أسبوعين ، والأم من ساعتها وهي تبكي دموعا مختلفة المشاعر ، تارةً تبكي فرحا لمواصلة ابنها دراسته الجامعية بنجاح ، وتارةً تبكي خوفا عليه من الضياع والغربة والمشقة والبعد عنها ، إلا أنها في كل صلاةٍ تدعو له ، والأب المتدين يوصيه ليلا ونهار بتقوى الله والمحافظة على صلواته والتمسك بدينه وأخلاقه .
      بعد صلاة الجمعة التقى بإمام الجامع محمود ، وكعادة بدر يسأل كثيرا في أمور الدين والشيخ يجيب بكل ابتسامة ورضى ، طلب الشيخ من بدر أن يلتقي به بعد صلاة العشاء فإنه يود أن يحدثه في حديثٍ خاص ، هزأ بدر رأسه موافقا على طلبه ومرحبا بلقياه ، وعند عودته للمنزل شاهد العجوز فاطمة ، فذهب إليها مسلما ويخبرها بأنه سيغادر ، وطلب منها أن تقرأ له الكف ، فهي مشهورة بقراءة المستقبل " وعلم الغيب عند الله" ، أمسكت يده بقوة وضغطت على أصابعه مما أثار استغرابه واندهاشه ، وقالت يا بني لا ترحل ، فالخير كل الخير أن تبقى هنا ، فصرخ بها ولكني أود إتمام دراستي ومواصلة التخصص الذي أحلم به ، فأجابته بحزنٍ دفين ولكنّ هلاكك في رحيلك .
      رجع إلى بيته حزينا كسيفا كئيبا ، وأغلق على نفسه باب غرفته ، يفكر مليا في قول العجوز الساحرة ، ويحدث نفسه بأن لا أحد يعلم الغيب سوى الله جلَّ جلاله ، ويتبادر أخرى إلى ذهنه أنها لم تخطأ في قراءة الكف ولا مرة ، فالكل يقسم بأنها تصيب دائما في التنبؤ للمستقبل ؛ ولكنه الحلم والطموح والنجاح ، أصيب بدوارٍ شديد فنام نومةٍ عميقة ، ولم يذق طعاما ولا شرابا ، وعند أذان العصر أيقظته أمه للصلاة فتوضأ وذهب إلى المسجد لأداء الفريضة المكتوبة والصلاة الوسطى ، ومن ثم ارتدى ملابسه الرياضية وذهب بصحبة زملائه للنادي ، ليستمتع بممارسة هوايته المفضلة ألا وهي كرة القدم ، تلك اللعبة التي يتقنها بكل مهارة فهو لاعب جيد ويملك براعةً في التهديف ، والكل يتنبأ له بمستقبلٍ واعد .
      ،،، يتبع ،،،
    • المؤذن يصدح بالأذان ليحرك الجنان ، وبدر يخطو خطواتٍ رشيقة نحو المسجد وشفتاه تستعذب التسبيح والتهليل والذكر ، دقائق إيمانية جليلة قضاها بدر وهو يؤدي فريضة صلاة العشاء ، حمد الله كثيرا ورفع أكف الضراعة للباري أن يوفقه في حياته العلمية ، وأن يهديه الرشد والسداد في القادم من الأيام ، خرج بصحبة الإمام إلى الحديقة العامة ، أضواء المساء توحي بجمال الرومانسية ، الليلة بقمرها المضيء المكتمل كأنها عذراء فاتنة ترغم الجميع على التغزل بها لروعتها وسحر جلالها ، يبدو أن بدر يشعر بأن هذه الليلة ليست مناسبة للحديث في أمور الدين وخصوصا مع إمام الجامع وخطيب الجمعة ، هذه الليلة الساحرة ، وتلك الأنجم المشرقة وكأنهن مصابيح ، والقمر كأنه زجاجة ماسية تشع لمعانا ، الهدوء والهواء المتقطع الخفيف يوحي لك بعذوبة البوح بالحب ومغازلة الحبيبة ، وها هي ملامح الأسى تظهر على بدر ، هذا الرجل الذي لم يعشق فتاةً أبدا ، ولكنه بطبيعة الإنسان يهوى كل جميل .
      بعد طول تفكيرٍ من الشيخ ، وبعد تنهدات بدر وهي تنطق بمضاضة الموقف ورتابة الصحبة والحديث ، يبادر الشيخ محمود بسؤال بدر هل عزمت على الزواج يا بني ؟؟
      ارتبك بدر وتلعثم في الجواب وكأنه يخفي أمرا عظيما ، ولكنه تملك الشجاعة وقال : لا ، فأنا لا أزال في سنٍ صغير على الزواج ، ولا أفكر به في وقتي الراهن ، عنّفه الشيخ على ذلك ، متحججا بأن الزواج قبل سفره سيعصمه من كثيرٍ من المشاكل ، وأنه أمانٌ واستقرارٌ وراحة بال ، فقاطعه بدر قائلا : على رسلك يا شيخ فأنا لا أريد أن يشغلني شاغل عن الدراسة ، وأشعر بأن الزواج سيأخذني من الاهتمام بدراستي وتحقيق بغيتي وحلمي الجميل ، لكن الشيخ هزّ رأسه بابتسامة مخالفة ، وأن الزواج سمينحه طاقةً وعزما وإرادة ، وستتوفر له سبل الراحة والغذاء الصحي الجيد ، والعناية به وبمكان إقامته وتجهيز ملابسه ، سيعيش ملكا في مملكته ، آمرا ناهيا .
      بدأ بدر يشعر بأن كلام الشيخ به الكثير من الصحة والمنطق ، ولكن من ستكون فتاة أحلامه ، وكيف سيتعرف عليها ؟؟ هذا ما تكفل الشيخ بإيضاحه ، بأنه سيزوجه ابنته عائشة ، وهي ذات غنجٍ ودلال وثقافة وعلم ودين وحسب ونسب ، هنا عادت الذكريات ببدر إلى زمنٍ بعيد ، يوم أن كانت عائشة تدرس في الأول الإعدادي ، وكان الشباب من حولها كالفراش ، يطاردونها لجمالها ودلعها ، والدلال الذي كانت تحظى به من قبل أمها ، وربما الموقف الذي لن ينساه أبدا ، حينما رآها تخرج من بيت تامر ، ذلك الفتى الذي يغري الفتيات بوسامته ولسانه المعسول ، ولا تسلم أي فتاة منه بعد ذلك إلا أن تضحي بشرفها ، يكفي أنه نشر صور عائشة بين أصحابه وأقرانه .
      رد بدر على الشيخ محمود متعذرا بأنه لا ينوي الزواج إلا بعد الانتهاء من دراسته ، ولكن الشيخ استمر في مناشدته وأخبره أنه سيبلغ أباه بشرف المصاهرة ، فهما تربطهما صداقة منذ نعومة أظفارهما ، تناولا شراب المانجو الطازج ثم افترقا ، ولا يزال بدر يحاول جاهدا في التخلص من موضوع زواجه بعائشة ، ويحدث نفسه بنصحهِ لعائشة ، أو أن يصارح أباها بأمر علاقاتها ، لعل وعسى أن يكون هنالك بصيص أملٍ في تغير منحى حياتها ، وليس ذلك بعزيز على الله جلّ في علاه .
      ،،، يتبع ،،،
    • ذهب بدر إلى السفارة الاسترالية لإكمال إجراءات سفره واستخراج الفيزا ، ويبدو أن التعقيد سمة حاضرة في تخليص المعاملات ، ومن كثرة التردد على السفارة أصبح معروفا ومألوفا من قبل الجميع خصوصا سُمية ، تلك الفتاة الرائعة الجمال ، من تسحرك برقتها ورشاقتها ، تملك عيونا واسعة تماما كعيون المهاة ، أصبح بدر شغوفا بها ، وهي كذلك تبادله الإعجاب والحب ، وربما هي تتعمد معرقلة معاملة بدر لكي تتمكن من رؤيته دائما ، وهو كذلك يشعر بسعادة غامره وهو يتردد عليها ، طيفها يراوده باستمرار ، يراها في أحلامه وطموحاتها ، يتخيلها هي من تأخذ بيده إلى طريق الهناء والرومانسية ، لا شك بأنها ستصبح مليكة القلب وأميرة المنزل ، لمَ لا يعمل بنصيحة الشيخ محمود ويفعلها قبل السفر ؟؟
      في المساء تناول قلما وكتب كل مشاعره في ورقة ، ووضعها بين أوراق المعاملة ، وفي الصباح تلقته سُمية بابتسامتها المعهودة ، بادلها نظرات اللهفة ، العيون تتخاطب بلغتها الخاصة ، وبريق الأمل يشرق على محيا بدر ، غمزها بعينه أن هذه المعاملة خاصة جدا لهذا اليوم ، ويخشى أن يكون بها خطأ يعرقل مسيرة سفره ، وطلب منها أن تدقق في الأوراق جيدا ، طلبت منه أن لا يقلق وأن يعتبر معاملته منتهية وهي ستقوم بالواجب وأكثر ، خرج من عندها وذهب إلى مطعم السعادة طلب عصير موز ، وانتظر ردة فعل سُمية ، فقد ترك رقم هاتفه في نهاية رسالته .
      بينما تحتسي سُمية كوبا من الشاي وتقرأ المعاملة لفتت نظرها ورقةً ملونة ومعطرة ، فتحتها فإذا بخمس وردات قد رُسمت على جوانبها بقلم الرصاص ، قرأت الرسالة فوجدتها كلها مشاعر تفيض بالحب والصفاء ، تنهدت كثيرا وهي تقرأ كلمات الرسالة ، وتضع يدها على جبينها تارة وعلى خصلات شعرها تارةً أخرى ، قرأتها ثانية وثالثة وعاشرة ، وهي سارحة في بحر الخيال ، الله ما أجمل مشاعرك يا بدر ، كيف استطعت أن تكتب لي كل هذه الكلمات والمشاعر بهذه الأناقة والعذوبة ، إنك تتمتع بذكاء خارق يا غالي حينما تركت الورود باهتة بقلم الرصاص ، وكأنك تطلب مني أن نلونها معا بقلوبنا وأحاسيسنا ، أمسكت الهاتف واتصلت ببدر ، قائلةً أرجوك لقد فعلت بي سحرا ، فهلا رحمتني من هذا السحر ؟؟
      فتقبل بدر الاتصال بفرحةٍ لا توصف ، إنه جمال القدر وروعة النظرة الأولى يا سُمية ، اتفقا على أن يكونا قلبا واحدا ، وأخبرته أن المعاملة جاهزة ، ما عليه سوى أن يأتي لاستلامها وأن يأخذ قلبها معه ، وعدها بالحضور غدا ، لأول مرة يرجع بدر إلى البيت وهو شارد الذهن سارح البال ، الأفكار تتوارد في رأس بدر ، إنها أحلام اليقظة حينما تتراءى له سُمية في ثوب العرس ، آهٍ ما أعذب هذا الشعور ، اقترب من البيت ، رأى جمعٌ غفير ، والدخان يتطاير في الفضاء ، اقترب أكثر وأكثر وقلبه ينبض بالخوف والرعشة ، يا الله بيت بدر يحترق بالكامل ، لم يتمالك نفسه إلا أن جرى مسرعا نحو البيت ، فأمسك به الرجال أن لا يدخل للبيت فيحترق مع عائلته التي أصبحت جثةً هامدة ، إنه القدر فلقد رحل أهل البيت جميعا للقاء الله الواحد القهار ، رحمهم الله جميعا .

      ،،، يتبع ،،،
    • الحياة كلها مآسي وآلام ، تحولت فرحة بدر بالسفر لإتمام الدراسة إلى فواجع وأحزان ، وتقرير المخابرات يشير إلى أن احتراق البيت كان نتيجة انفجار أسطوانة غاز الطبخ ، مما أدى إلى احتكاك الغاز بالكهرباء فتولدت إنفجارات مدوية في كل محولات البيت الكهربائية ، وحال بدر يجلب الشفقة والرأفة ، يفيق ساعةً ويُغمى عليه عشرا ، لقد كان قوي التعلق بأمه وأبيه ، كان يطمح في أن يمنحهم السعادة والراحة ، بذل كل قصارى جهده في الدراسة ليرفعوا رأسهم به ، اليوم هم تحت التراب مجندلين ، رحلوا عن دنيانا وتركوا بدرا وحيدا .


      لم يذهب للسفارة لاستلام المعاملة ، فقلقت عليه سمية كثيرا ، اتصلت به مرارا ولكن هاتفه مغلق ، مما زاد الشكوك والمخاوف لديها ، تارة يتبادر إلى ذهنها أنه مريض ، وتارة أخرى يوهمها الشيطان بأن بدر لا يود التواصل معها ، قلبها مضطرب ، ومشاعرها متباينة ، والشك والحيرة يقتلانها ، ولا تدري كيف تصل إليه .
      الشيخ محمود كان الأقرب لبدر ، فهو أيضا فقد صديقه المخلص أبا بدر ، حاول مواساة بدر والتخفيف عنه ، ولكن لا جدوى ، ففقد بدر أليمٌ أليم ، فهو الآن بلا أبوين ولا بيت يؤويه ، يخرج بعد صلاة الفجر يهيم في الأرض ويرجع آخر الليل ليفترش التراب بجانب الوادي الأخضر وبالقرب من الأفاعي والعقارب السامة ، والله خير حافظٍ له .
      تذهب عائشة إليه كل ليلة حاملةً له لحافا وغطاء وطعاما وماء ، تجلس معه بعض الوقت تواسيه وتخفف عنه ، فهو كمجنون ليلى استوطن الفلاة وجعل وحوشها أصدقاءه وأهله ، بدر التلميذ الذكي الخلوق ، هو اليوم الفتى المعتوه الذي يسيح في القفار والبيد .


      ،،،، يتبع ،،،،
    • سُمية تبحث في أوراق بدر بغية أن تجد عنوان إقامته ، فوجدته بدون أدنى تعب ، وعزمت في المساء أن تذهب بنفسها للسؤال عنه ، فالشوق والوجد لا حدود له ، والنفس تموت في كل دقيقة ، لم تكن تعلم بأن الحب عذاب وأنه مُّر المذاق ، كأني بها أراها تتيه في المشاعر وتهيم بخيالها وتشطح بفكرها تماما كجارية المهدي العاشقة ، حين بلغ بها الحب مداه حتى سلب عقلها فلقبت بالجارية العاشقة المجنونة ، وربما أصدق ما قالته ، وأعقلُ ما نطقت به في جنونها :
      الحبُ أولُ ما يكونُ لجاجة ٌ *** تأتي به وتسوقهُ الأقدارُ
      حتى إذا اقتحمَ الفتى لججَ الهوى *** جاءت أمورٌ لا تطاق كبارُ
      ها هي سمية تتبع العنوان ، وتصل إليه أخيرا ، سألت عن بيت عائلة بدر فأخبروها الخبر ، لم تتمالك نفسها إلا أن صرخت وقد شعرت أن جسدها كله قد صعق بالكهرباء التي التهمت بيت بدر وأهله ، بكت ولم تتمالك نفسها ، لتنوح بأعلى صوتها ، تتوجع وكل حواسها تنشد الألم وكل جوارحها تعزف المزمار الحزين ، لم تدري ما تفعله ، سوى أن عادت حزينةً مفجوعة ، يُقرأ الحزن من عينيها ، ويكتب الألم قصائده على جبينها ووجنتيها ، الهزال والدهشة والبكاء سمة اتسمت بها سمية ، ما أن وصلت البيت حتى رأتها أختها التوأم ، وهي قد علمت بتغير حالتها من الأيام السابقة ، وكانت تدرك بأن سُمية قد اصطاد قلبها صيّاد بارع ، ولكن ما بالها هكذا ؟!!
      سألتها فأجابت : حبيبتي سامية ، أنتِ الوحيدة من يشعر بي ، قلبي يتفطر وصدري يحمل ثقلَ جبلِ أحد ورضوى ، لا أشعر بطعم الحياة ولا هناؤها ، تذرف دموعها وتسكب دمها ، فالعين أوشكت على جفاف مائها ، ولا تزال سامية في صمتها تستمع بإنصاتٍ تام لحديثها ، لعل ذلك يخفف عنها ، وتطلب منها أن لا تكف عن الحديث والبكاء ، هيا أخيتي ابكي ، هيا يا منى نفسي بوحي بكل أسرارك ، ولا تزال سمية رغم المصيبة والألم الدفين تُلمِّح ولا تصرح .
      أما بدر ، فقد بدأ يسترجع عقله ، وبدأ تأثير الكارثة يخف ، فالحبيب قال " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ، قرأ من كتاب الله آياتا هدأت من روعه ، ونشرت الطمأنينة والسكينة في قلبه ، ها هو الآن يعتكف في المسجد يدعو الله بأن يلهمه الصبر والسلوان ، ويبدأ في تنفيذ حلمه الجميل بحفظ كتاب الله كاملا ، والآن وبحمد الله حفظ أكثر من عشر صفحات خلال أربعة أيامٍ فقط ، مما يشير إلى أن بدر أصبح الآن يعي تماما جمال القرب من الله تعالى .
      الشيخ محمود يجهز مفاجأة رائعة لبدر ، فهو في عملٍ دؤوب ومتابعة مستمرة لوزارة الإسكان من أجل منح بدر بيتا جديدا يؤويه ، أو حتى تعويضه مبلغا ماديا يستطيع من خلاله بناء منزلا راقيا يقطنه هو ومن يختار من بنات جنسه لتصبح شريكة حياته ، ومن تمنحه النصيب الأوفر من المحبة والعناية ، وقد قطع الشيخ محمود شوطا كبيرا في إنهاء المعاملة ، وهو يأمل خيرا ، والله المعين والموفق .

      ،،، يتبع
    • قررت وزارة الإسكان منحُ بدر بيتا شعبيا ، مكونا من ثلاث غرف ومجلس وصالة ، بالإضافة إلى راتب شهري من الشؤون ، يعينه على تسيير حياته، والفضل يرجع بعد الله إلى الشيخ محمود ، الذي بذل المستحيل لكي يحصل بدر على بيتٍ يؤويه ، فرح بدر بذلك ، وقرر الدراسة في أرض الوطن ، فهو الآن يقدم أوراقه في الجامعة ، ويختار كلية الهندسة ، فهو يسعى أن يكون مهندس نفط ، وترك حلمه القديم ،فهو الآن لا يعشق الطيران ، بعد أن تحطم جناحاه بوفاة أهله .

      سمية حكت قصتها لأختها سامية ، قلبها يتقطع ، ودمعها لا يرقأ ، ولسانها لا يتلفظ إلا بذكر بدر ، أما سامية ، تعيش مأساة أختها ، تحاول أن تأخذها من العبوس إلى الأمل والإشراق ، تطلب من سمية أن تكون عونا لبدر في هذه المرحلة ، فهو يحتاج لدعمها وسندها ، وهي ستقف بكل تأكيد إلى جانب سمية وتوفر لها المناخ المناسب للقيا بدر .
      عائشة تقع في يد أحد الشباب ، فلقد تبادلا النظرات طويلا في سوق الملابس ، وقد تمكن من اصطيادها عن طريق البلوتوث ، وها هي المكالمات تتكرر بينهما ، والحب والغزل سمة بارزة ، خصوصا عائشة التي تتأقلم مع كل شاب ، فقلبها يرفرف في صدرها ، لا يثبت في مكانٍ واحد ، ولا يستقر لشخص واحد ، فهي ترى نفسها ملكة الحب ، تهب حبها لكل الشباب .
      بدر أنهى صلاة العصر ، أمسك بالمصحف يقرأ ويراجع محفوظاته ، وهو الآن يحفظ سورة النور ، ويقف عند الآية الخامسة والثلاثين كثيرا ، يتأملها وقلبه يتلذذ بحلاوة الإيمان ، ما أروع هذه الآية وأعظمها، فالقرآن كله عظيما ، ولكنها تصف نور الله :
      " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ".
      ختم الآية وخرج من المسجد يمشي ، مستمتعا بنور الإيمان ، الطريق مزدحم بحركة الناس ، رجلاه تسوقانه نحو محل البوظة " الآيسكريم " ليسترجع أيام الصبا والطفولة ، طلب آيسكريم فراولة ، ومضى يكمل طريقه وهو يلعق الآيسكريم مثل الصبيان تماما ، تلمحه سمية من بعيد ، وتصرخ ذاك بدر ، إنه البدر يا سامية ، توقفت بجانبه ، تكاد لا تصدق عينيها ، أيعقل أن يكون هذا بدرا؟
      سلمت عليه وعرفته على أختها ، سَعُد كثيرا برؤيتها ، وشعر بالأمان والدفء والحنان ، وعدها أن يأتي قريبا لخطبتها ، فهو لا يقوَ البعد عنها ، فرحت بذلك فرحا عظيما ، يكاد يغمى عليها ، لم تستطع الكلام ، فتكلمت سامية بدلا عنها ، نحن في انتظارك ، ولن نجد أفضل منك يا بدر الدجى ، ابتسموا ، ثم انصرفوا .





      ،،، يتبع ،،،

    • ما أجمل البيت الجديد ، فهو قريبٌ جدا من مسجد النور ، وفي الجهة المقابلة تقع حضانة الأطفال ، وبدر يملك عشقا خاصا للأطفال فهم البراءة وزينة الحياة وبسمة الدنيا وبهجتها ، لكنه موحشٌ جدا ، فلا أنيس يشاطره الحديث والحياة ، ولا حبيب يركن إليه عند الدعة والهم ، يتأمل الغرف الثلاث ، ينتقل بينهن ولا يرى شيئا يفتح النفس ويسعد الخاطر ، فتجيش به الذكريات نحو الأحبة ، يخاطب نفسه : أواه كم اشتقت لنصائحك أبي ، وكم عيني تود رؤيتك يا أماه ، فداك نفسي يا أختي الصغيرة " ربى " ، يجفف دموعه ، وينتقل للمجلس عل تباريح الجوى يخف وطؤها ، وعلّ النفس تسجد لخفتات الأمل القادم ، فلا بد أن نقبل الواقع بكل صروفه .
      سامية تبدو أكثر سعادةً من أختها ، تنظر بنظرات خبثٍ لسمية ، وتحدثها بجمال بدر وخفته وظرفه الشديد ، مما بدأ الأمر يتطور للغيرة ، وأصبحت سُمية تفسر كل كلمة إعجابٍ من سامية لشخص بدر على أنها بذرات حبٍ قد تتأصل في أعماقها ، فالحب لا يقيد بقيود ولا يحده رسمٌ أو حدود ، إلا أن سامية ترسم الأمل الجميل في قلب سُمية حينما تحدثها باستمرار عن يوم زفافهما ، وكيف ستحيى حياة السعداء مع بدر ، وأنها ستكون خالةً عما قريب ، فتبدأ المغرمة سُمية في الغوص في أعماق الخيال ، عيناها لا تتوقفان عن النظر لأعلى ، وأصابع اليدين في حركة استشعارية ، والابتسامة تواكب التأمل العميق .
      عائشة تحدد موعدا لعشيقها الجديد ، فاللقيا حياة الحب وماء القلوب ، والحبيب الجديد ، يبكى الصبابة والألم ، فالشوق يضرب أوتار جسده ، وقلبه يخفق بتراتيل وجده ، فالأنفاس حرّى دفينة ، والحنين يسكره ويصرعه ، ويدّعي أيضا ، بأنه بات حاله كسيرا ، ولقيا الحبيبة يجبره ويشعبه ، وكذلك عائشة المتيمة لا يغمض لها جفن ، فهي دائمة التفكير بالحبيب المخلص ، هذا الأنيق الذي شغل كل فكرها ، واستوطن كل مشاعرها ، فصار الهوية وملح الحياة ، والموعد يوم الأحد ، يوم نصرهم برؤية بعضهم .



      ،،، يتبع ،،،

    • لا مجال للصمت أكثر ، وليكن للجرأة توقيتٌ جيد ، والنظر من بعيد لا يأتي بفائدة ، وكان القرار بأن يسابق بدر الزمن ، ويطرق باب الحضانة زائرا ، ولمعالمها الداخلية متعرفا ، الأطفال في كل أرجائها ، والأنس والبهجة على وجوه ساكنيها ، والترتيب والجمال في كل نواحيها ، عالمٌ طفوليٌ جميل ، يرى أخته لبنى في كل وجوه الأطفال وخصوصا البنات ، سأله مدير الحضانة إن كان قد قدم لتسجيل أحد من أقاربه ، فارتبك بدر وارتسمت الحيرة والذهول على تقاسيم وجه ، ولكنه تخلص سريعا بقوله أنه أتى باحثا عن عملٍ مسائي بالحضانة ، وكان الجواب على الفور ، أن العمل هنا تطوعي وبدون أجر ، فرحب بدر بالفكرة وأعلن استعداده الكامل للعمل بالحضانة .


      مازن يتصل بعائشة ، يعلمها بأنه سيمر عليها بسيارته بعد قليل ، ووعدته بتأخير الوقت قليلا ريثما يذهب والدها للمسجد لأداء صلاة الجماعة ، لتتمكن من الاطمئنان بأن أحدا من أهلها لن يراها وهي تركب سيارة حبيبها ، وتم لها ما أرادت ، والطريق مزدحمٌ بالمارة ، مما جعل مازن يقود بسرعة فائقة لكي لا يتمكن أحد من معرفته ، وصوت مسجل السيارة يبث موسيقى الحب والعاطفة ، عائشة لم تنطق بكلمة واحدة ، فالحياء يلجمها ، ولم تتعود على مازن بعد .



      تفاجأت عائشة من ترتيب شقة مازن ، وروعة الأضواء الخافتة ، ورائحة العطر الفرنسي " انترنتي " تفوح في كل أركان الشقة ، أخذت جولة تفقديه سريعة لغرف الشقة الصغيرة ، فرحت كثيرا حينما رأت كعكة كبيرة على طاولة المطبخ ، وكانت الشموع الحمراء مزروعة في كل جوانبها ، أصر مازن على عائشة إصرارا قويا بأن تقوم هي بنفسها بتقطيعها وأن تأكل من يده ، فهو خادمها المطيع ، ومن سيهب نفسه لخدمتها طول الحياة .



      في هذه الأثناء يقوم والد عائشة بزيارة بدر في بيته الجديد ، ويتذاكر الاثنان حياة والد بدر وعلمه الغزير وتواضعه الجم ، فتسيل الدموع من العيون ، وتكثر الدعوات من بدر لوالده الراحل ، إلا أن أم بدر كان لها نصيب الأسد من الشوق والحنان لها ، فهي لا تغيب أبدا من مخيلة بدر ، كانت معبد الحب لكل من يعيش بقربها ، ورغم صلابة بدر وقوة شخصيته ، فلا يزال غير قادر على تحمل مرارة الموقف ومضاضة الرحيل المفاجئ المميت ، قاطع شروده اتصالٌ من سمية تطمئن على صحته وحاله ، وقد لاحظت حزنه من نبرة صوته ، فأتت كلماتها في همسٍ رقيق ، تجلد يا حبيبي ، وكن قويا في عيني ، فأنت أملي وقدوتي ، أم أن وجودي بقربك لا يمنحك الأمان والرضا أبدا ؟؟



      أنهى بدر المكالمة ، ليتلقى سيلا من الاستفسارات من والد عائشة عن صاحبة الرقم ، فأجاب بدر بكل هدوء ، هذه من اخترتها شريكةً لي في حياتي ، وهي من ستشاطرني ما تبقى من عمري ، فأجاب الشيخ ، ولكني كنتُ أريد لك عائشة ، تنهد بدر وقال : ولكني منحتُ عهدا لهذه الفتاة ولن أخلفه ، تبسم الشيخ ودعا لهما بالبركة ، مشترطا أن يكون هو من يخطبها له ويعقد قرانهما ، فرح بدر فرحا شديدا ، وأصبح زواجه حديث الساعة كلما التقى بوالد عائشة ، ويبدو أن العرس سيكون قريبا .






      ،،، يتبع ،،،

    • من العبث أن تصدق عائشة بأن مازن محبٌ لها ، فهي كذلك لا تحبه حبا صادقا ، إنه الطيش والجنون وموت العفة ، وتحولت الأضواء الحمراء الخافتة إلى مشاعر تخدش الحياء والوقار ، وأصبحت عائشة ترتمي في أحضان مازن يفعل بها ما يشاء ، لم يجد ممانعةً أو مقاومةً منها ، فهي أسلمت نفسها لها وقالت هيت لك ، افعل بي ما تشاء ، فأنا ملك يمينك وطوع بنانك ، هنا طُويت صفحة الشرف ودارت رحى الرذيلة ، ولا عزاء إذ أن عائشة لها تجارب لا تحصى في مجال المراهقة والعلاقات الغرامية ، ولا تدري تلك المعتوهة بأن مازن لا يكتفي بممارسة الجنس فقط ، بل ينوي فضحها واستغلال ميوعتها الرخيصة ، فكاميرا الفيديو لم تتوقف عن التصوير أبدا من حين ولوج عائشة المنزل .



      هذا أول يومٍ لبدر في الحضانة ، السعادة لا تفارقه ، والبسمة عنوانه ، قضى يومه كله بالحديث مع الأطفال ومداعبتهم والتعرف على أسمائهم ، هو اليوم الوحيد الذي اختلطت فيه كل المشاعر ، حنينٌ ولوعةُ وعذابٌ وتحنان ، شوقٌ لماضٍ لم يعد له حاضر ، وحنينُ لمستقبلٍ يطرق به عالم النسيان للأحزان وبدأ مرحلة الإنتاج وجني ثمار الحياة ، في وسط معمعة الأفكار ، تأتيه رسالةٌ في جواله من الغالية سمّية ، تستنكر انقطاعه عنها ، وعدم الاهتمام بها طيلة اليوم ، فتتحرك كل اللواعج وتجيش المشاعر ، ويمسك ورقةً وقلما ، يكتب رسالةً لها على غير العادة :



      " لا تخف ما صنعت بك الأشواقُ *** واشرح هواك فكلنا عشاقُ



      قد كان يخفى الحبُ لولا دمعك *** الجاري ولولا قلبك الخفاقُ



      كلما أسمعُ تلك الأبيات يطرقني داعي الود بالوصل مع قلبك المتدفق بالحنان ، فأمني النفس برؤية وجهك ، فلا سعدت عيني إلا بالتأمل في محياك ، وحينها سأقرؤكِ من عينيك وأستحضر السحر الذي حمّلكِ إياه هاروت وماروت ، وسأملأ الدنيا بنشيد فرحي وأنسي .



      الحب أيتها الحبيبة ليس حروفا تقال بل هو إحساسٌ عميق يتولد في داخل المرء فتستجيب له كل حواسه ، وينطق به دمه إذ يسري في الجسم وهو ينكتُ بلسان الحب ، فما ذنب حواسي ودمي أن لا تتشرف بلقائك .



      أناشدك برب الحطيم وزمزم ، أن لا تتركيني أهيم في صحراء يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد ، وقد مددتُ يدي إليك طالبا النجدة ، بأن لا أهلك بقوة الحنين ، فالجسم أيتها الغالية قد هزل من قسوة أشواقه لمصافحة عيناك ، أتعلمين أن أصابعي الآن ترتعش وأنا أكتب لكِ الرسالة ، فهي تخشى أن تكتب حرفا لا يروق لك ولا يرق لقلبك لتحني بعطفة لقاء .



      نذراً عليَّ يا سميتي أن أعيرك أنفاسي وهمسي يوم اللقاء ، فإن لم يكن لنا سبيلٌ في الاجتماع لبعض فاعلمي أن لا حياة لي ولا بقاء ، فإني راحلٌ إلى دنيا الأمواتِ مستعر ....



      حبيبك بدر "



      حينما لم تسمع سمية همسا لبدر ، قلقت عليه كثيرا ، وذهبت إلى الحضانة تسأل عنه ، فقابلها بوجهٍ حرٍّ طليق ، وسلمها الرسالة ، لم تنتظر العودة إلى البيت ، فالشوق لا يترك لها مجالا ، قرأت الرسالة فلم تصدق حالها ، حلمٌ جميل ، ودنيا تسبح في بحرٍ من الخيال ، يا لعذوبة القراءة حينما يكون القارئ إلهام الكاتب .





      ،،، يتبع ،،،

    • لم تعد سمية نشيطةً كالعادة ، والمدير ينتقدها بشدة ، الأعمال تتراكم في مكتبها ، ولا تنجز إلا القليل ، تغرق في لجة السرحان ، تناجي بدر في كل دقائق حياتها ، تقرأ رسالة بدر الأخيرة عشرات المرات في كل يوم ، إلا أن التمادي في إهمال الواجبات المنوطة بها في العمل والإفراط في التخاذل ، ستكون عواقبه وخيمة ، وليس من العدل في شي أن تطلب من زميلتها زهرة إنجاز كل أعمالها ، وهي الأخرى لم تعد قادرة على مجاملة سمية أكثر من ذلك ، وإن لم تتدارك سمية نفسها فإن إنهاء خدماتها في السفارة بات وشيكا .
      يبدو أن اليوم الثاني أجمل من سابقه ، حيث أن بدر يزداد تعلقا بالحضانة ، فهي تطوي الهموم ، وتشرح الصدر ، وتذكي نار المودة ، والأستاذ عماد يبدو أنيقا في كل شيئا ، راقيا في تعامله ، ودودا لزملائه ، بشوشا للأطفال ، يملك رصيدا هائلا من الثقافة ، متمسكٌ بتعاليم دينه ، محافظٌ على أصالته ، ومنفتحا على الدنيا بمدنيتها وحضارتها ، أهدى لبدر كتاب " دع القلق وابدأ الحياة " للكاتب الرائع دايل كارنيجي ، وأوصاه بعدم ترك ممارسة الرياضة ، اندهش بدر من فراسته وذكائه ، حيث أن بدر كان يلعب كرة القدم بكل مهارةٍ وإجادة ، هز عماد رأسه وأشار بيده لبدر أن الموعد يوم الخميس في نادي الاتفاق .
      عائشة تعضُّ الآن أصابع الندم على ما فعلته بالأمس ، شعرت بأنها تافهةٌ حقيرة ، وكان عليها أن لا تنجرف خلف رغباتها وشهواتها ، ومن يطع الهوى فالحضيض مآله ، والنكسة والخزي والعار سيلازمانه ، ولكن لا جدوى من الحزن الآن ، فمازن الجبان كل همه إشباع نزواته ، وبدأ يكرر الطلب على عائشة بكل نذالةٍ ووقاحة ، يتصل بها كل حين ، وحينما رفضت الخروج معه ، وأخبرته بفظاعة الجرم الذي اقترفته ، بدأ يهددها بشريط الفيديو ، إما أن تلبي كل أوامره ، وإما أن تدفع له خمسمائة ألف دولار ، ولا خيار غير ذلك ، وهو على أتم الاستعداد لإيصال الشريط لأبيها وكل صويحباتها .
      يالله تضاعفتِ البلوى ، وزاد القلب لهيبا وجوى ، تناجي نفسها وتلطم خدودها ، وتشق ثوبها ، فالكارثة لا تقدر ، وحجم الخسارة فادحٌ جدا ، شرفٌ ذهب ، وحياءٌ مات ، وإنسانيةٌ مستباحة ، وجرمٌ لا يغتفر ، وطريقٌ مظلم ، وحوشٌ وذئاب ، وعاهرةٌ بدون جلباب ، إما الخضوع والاستسلام ، وإما الفضيحة والذل والصغار ، وكلاهما مميت ، يا إلهي كوني عوني ومغيثي .
      " الآن وقد عصيت " ، بأي وجهٌ أطلب الرحمة وأنا لم أصلي لله ركعة ، لم أتركُ ركنا من أركان الشيطان ، ولم ألتزم نهجا يرضي الرحمن ، لا خيار سوى الانتحار لا خيار .
      ،،، يتبع ،،،