اللوحة

    • الدخول إلى عالم لوحة ، كالوقوف أمام مكتب كبير ، يمتد عرضانياً أمامك يجلس خلفه أستاذ وقور .. لا يعير اهتماماً لارتباكك ، وما إن تهم بالكلام حتى يطلب منك تعديل هيئتك ، أو ربما هو كمغازلة مراهق لامرأة في قمة نضجها تقول له : لا يا خالتي هذا لا يجوز ...
      ولكن وفي كل الأحوال تبقى اللوحة جسداً يتشهى عربدة الفرشاة والفرشاة هذي ذراع الرسام ... فهي ذراعك ...
      ولكن اللوحة وكأي امرأة هجرتها طويلاً لن تعطيك حضنها أو حتى وجهها حتى ترى في ارتباكك وارتعاد يدك ما يرضي غنجها وكبرياءها
      الجريح . اللوحة أمامك .. وأنت : من أين تبدأ ؟...
      تتذكر نصيحة أحد الرسامين الأصدقاء بالبدء بالأزرق السماوي عندما تحتار ، لأن في شفافيته ونعومته مالا يجرح بياض اللوحة . وأنت به تستطيع أن تتقدم خطوة والتمهيد للون أخر ، فعندما ترسم نهراً يكون الأزرق هو السطح بينما يكون الأبيض ما يوحي لك بالعمق والامتداد ، كما وقد يكون الأفق ...
      اللوحة أمامك .. وأنت .. وكالتلميذ الذي يهرع إلى أستاذه عندما تغلق في وجهه دروب الحل ، تعود إلى أستاذك فاتح .. فاتح المدرس .. تنظر لوحته على الجدار "هجرة الطيور والأطفال" اللوحة التي قمت برسمها نقلاً عقب وفاته . من أجله من أجل فاتح .. الذي هاجر عندما عدت إلى الكليّة ... "هجرة الطيور والأطفال " كانت اللوحة الأثيرة لديك ، وأنت تدري لماذا اخترتها .. والوجوه التي قذفت بحدة للجانب بينما الأجسام تتجه أماماً . العيون التي أغمضت وضغطت لتحمل وتنقل وتعبر عن الحزن الذي لا يسمح بالنظر ولا يتقبل الهجرة اليد .. يد الأم اليمنى .. تحمل طفلتها .. تتمسك بها تضمها ... تتجه إلى أعلى حركة اليدان تعكس تضاداً صارخاً ... الأخت الطفلة تلوح للطيور التي توحي أجسامها المائلة بأنها مسافرة ...
      اليد .. التي تمتد إلى الفرشاة .. ترتعد ... اللوحة .. هذه القوية العنيدة والشامخة والتي تفاخر في عذريتها وفي نقاء بياضها تتجه إلى أعلى .. يدك المخطئة تهوي إلى أسفل ترى إلى اللوحة تحدثها :
      لماذا ؟ ! ...
      - أنت هجرتني .. ومن قبلي هجرت أهلك .. كيف أثق بك عد إلى أهلك .. أكمل بلوغك ثم تعال إلي .. فما زلت صغيراً على حمل الفرشاة ..
      - لكن أهلي .. هم السبب .. كيف أرسم في بيت يسوده الصراخ والضجيج .. وتكوّم فيه صحون الطعام غير نظيفة ، وترمى فيه الثياب دون أدنى ترتيب .. ولا تحافظ فيه الأرض على نظافتها لساعات .. تلاحقني فيه الاستهزاءات والتذمرات والإهانات وعبارات : "إذهب واشتغل شغله تفيدك " و "هذه شغلة لا تطعم خبزاً" .
      ثم إنك تعرفين أنهم عارضوا تسجيلي في كلية الفنون كيف لي أن أرسم في ذلك البيت وهل ينسجم هذا مع رغباتك أو مع أجوائنا .. هل .. هل ينسجم هذا مع الفن ..هل ؟ تدور بأنظارك في أرجاء الغرفة .. تبدو مرتاحاً إلى نظافتها .. ترتيبها .. ألوانها وديكورها .. ونبتة معرشة جميلة تمتد أفقياً مع الجدار وترمي بغصن مزهر بين كل لوحتين متباعدتين كلفك ذلك سنة كاملة .. أوقفت تسجيلك في الجامعة .. وذهبت لتعمل في لبنان .. قاسيت كثيراً .. وعدت بما يمكنك من استئجار شقة مع زميل لك .. تنام فيها مع هذه اللوحات .. وهذه الورود .. وتساعدك الموسيقى في خلق عوالم تريحك .. تستطيع حتى فرضها على زوارك في هذه الشقة ...
      لكنك في هذه الفترة متوتر .. وكل ذلك يخفق في تقليص المسافة بينك وبين هذه اللوحة القريبة .. النائية .
      تبدل عدة أشرطة تسجيل .. تأخذ سيكارة ...تعود تجلس على الأريكة .. تذهب أنظارك إلى الغرفة المقابلة وفي النور ترى لوحة زميلك وقد اكتملت .. بقع لونية متجاورة مختلفة الألوان .. مبهجة .. ترى في وسطها أشكالاً متشابكة توحي بالتضام والالتصاق عبر نسيج هو التداخل ويعكس انحرافها وانسيابها لهفة محترقة تبدو أيضاً في الألوان الخمرية .. فهو الشوق الذي تَخمّر في قلبين عاشقين . انسجام آخر تراه بين تجريدية العمل ورومانسيته وبين هذا الزميل الموسر و الرقيق في آن ..
      يعجبك تجريده الذي قلما يعجبك في لوحات أخرى هذا الذي يملك الحرية والانسياب وعفوية الحركات .. هذه الأشياء التي تريد أنت استخدامها لكن عبر تعبيرية فاتح مع سعي خاص إلى إعطاء هذه التعبيرية مزيداً من التماسك والوضوح والعناصر الواقعية التي تريح البصر وتحافظ على الانسجام مع منطقية الصور التي تمنحنا إياها الطبيعة . لكنك تسخر من كونك عاجز عن تجسيد هذه الرؤيا وهذا المشروع إلى لوحة متواضعة .. تكون وثيقة
      براعتك المزعومة ..
      تذهب إلى ركن ما في أحد زوايا الشقة ، وتخرج صندوقاً .. تجلس ..
      مقرفصاً ..سيجارة في فمك .. تنقلها إلى أصابع الكف .. عدد من لوحات غير مكتملة لأنك كنت ترسمها في بيت أهلك البيت الذي تشتاقه وتحقد عليه ..
      تخرج لوحة .. كادت تكتمل .. تتذكر قصتها ...
      كان الفصل شتاءً والوقت ليلاً ... انتظرت حتى نام الجميع وساد جو ما يسمح بالرسم ..أوقدت المدفأة .. وشرعت ترسم متأملاً الانتهاء من اللوحة الأثيرة التي كنت وعدت بها صديقتك رغد السيجارة في هذه الأوقات لا تفارق فمك ... وكنت تمزج برمادها الألوان فتحصل على لون أسود نوعاً ما يتمخض منه الأبيض بطريقة لا تدريها .. الأبيض الذي يعد دائماً ويبوح همساً بالأمل والخلاص .. وكان ذلك أفضل بكثير من الأسود الخالص الذي لم تكن تحب ...
      وبقيت سعيداً يومها حتى دخلت والدتك .. مستنكرة ومؤنبة في آن "ما الذي
      تفعله .. إخوتك نائمون وأنت تستمع في أنصاف الليالي للأشرطة" ثم ما هذا ؟ تدخن .. أما عيب عليك .. تنتظر نوم أهلك لتدخن خلسة كالأولاد ثم ألا تعلم أن يجب عليك الذهاب باكراً إلى الحقل .. ما رأيك .. أذهب أنا العجوز هناك .. وابني يا ما شاء الله طوله وعرضه ..ينام " .. تعتذر منها وتعد بأنك ستتدارك ذلك لاحقاً ، وتطلب منها أن تكف وتذهب لتكمل نومها .. لكنها تكمل ...
      "طيب .. أذهب أنا للحقل .. لكن ماذا أقول للناس .. ابني نائم .. يسهر على الرسم .. رسومه عاجلة ومهمة .. لا تؤجل . ولا ترسم إلاّ في الليل .. ويشعل المدفأة لأنه لا يجوز للمدفأة أن تطفأ لا ليلاً ولا نهاراً ..."
      ثم تطلب منها بحنق أن تكف .. وتصرخ مغتاظاً .. كفى .. كفى . فهمت .. تذهب للمدفأة تطفئها ..
      لا يجب أن أرسم .. الرسم أصلاً عبث أولاد .. فهمت ... فهمت وبعصبية تأخذ الفرشاة وتشبعها باللون الأسود .. وبنزق .. تهوي بضربات طائشة على يمين ويسار اللوحة ثم المنتصف ثم بتركيز على منطقة الفم تطمسها بشكل مائل وخطوط مائلة مكسرة .. ثم في النهاية إشارة × أنا أصبحت مهذباً " يجب أن
      أنام .. سأستيقظ صباحاً .. تصبحين على خير .. وتمسكها من أسفل الكتف وبقوة تزيحها خارج الباب .. وتغلقه في وجهها .. ثم تطفئ الضوء وتذهب للفراش ودموع شاب عزيزة تجري بانسياب حرج ترتاح للظلمة التي تخفي دموعك .. لكن تخاف أن تعود فتفتح أمك الباب لتوبخك على دفعك لها بقوة .. فترى دموعك .. لكنها وقفت أمام الباب قليلاً .. ويبدو همت بفتحه لكنها لم
      تفعل .. وحمداً لله لم تفعل ...
      تعود تنظر اللوحة التي هي بين يديك والتي عدت في وقت آخر وأكملت طمس بعض معالمها وتوزيع أشكال وخطوط هنا وهناك لكن بفنية هذه المرة .. وصرت تعرضها على بعض الأصدقاء كلوحة تجريدية لها عمق وخلفية .. هازءاً طبعاً من تجريدهم الذي لم يكن يروقك ..
      تتأمل اللوحة وتبحث فيها عن أماكن العينين .. تتصور العينين خلف هذه البقع السوداء .. تراها .. تمسح بإصبعك على الخدود التي بقيت واضحة والتي تبدو ناعمة أواه كم جهدت لكي تبدو نعومتها .
      تعيد اللوحة وترفع واحدة أخرى .. كانت هذه لسيدة .. يبدو من الخطوط والمساحات التي حددت الرسم أنها سيدة رقيقة القوام .. طويلة .. نحيلة القد .. كنت تعلم أنه يجب التركيز على ثلاث نقاط هي :
      استقرار وثبات وتراخي اليد اليسرى التي تستند إلى مظلة مضمومة رأسها
      في الأرض ...
      وحركة المنديل الذي يلف العنق دالاً على هبوب الريح ... ثم اليد اليمنى التي اندفعت لتحمي القبعة الرقيقة والتي هي أشبه بصفيحة – مائلة طبعاً ومقعرة بشكل بسيط جداً مزركشة بورود زهرية من الأعلى – من السقوط .
      حركة اليد من الكتف .. في برودة استجابتها .. والتي تتحرك بهدوء ورزانة المرأة التي تحافظ على هدوء حركاتها ..
      لا شيء يجب أن يوحي بالحركة السريعة أو العنيفة لليد . طبعاً كان هذا كل ما رسمته من اللوحة : اليدان ... المظلة .. القبعة ... المنديل .. مع بعض ملامح الوجه .. وظلت اللوحة كذلك .. لوحة أخرى لفتاة .. تستند بكوعها وساعدها إلى طاولة وتحمل ذقنها براحة الكف .. وخنصر يدها يدخل في زاوية فمها المفتوح قليلاً .. تنصت. ربما .. وباستغراق تام ..لم تكتمل طبعاً . كنت تعلم أنك في كل ما ترسم .. إنما ترسم صديقتك رغد .. في رقتها وشفافيتها .. واستقرار شخصيتها .. سحرتك الفتاة .. ومنذ أن خرجتما معاً في السرفيس ذات يوم .. شد انتباهك .. حركتها وردة فعلها الناعمة على انحناءات السيارة .. فكانت تسند جسمها بإصبعين طويلين من أصابعها على المقعد المقابل .. كانت الإنسانة الوحيدة التي تسمح لك بإخراج ذاتك وعرض عوالمك وعيشها .. واختيار المواضيع التي تحب .. كنت تكلمها عن سيزان .. وفان غوغ .. غويا وديغا .. وبالطبع عن فاتح وباختصار .. كان كل ما يبعدك عن الآخرين يقربك منها .. وقد وعدتها بلوحات كثيرة .. وخذلتها دوماً يحوي الصندوق أشياء كثيرة .. لوحات .. رسائل ..قطع خشبية تحمل بعض النقوش .. صور لأعمال فنية تم نزعها من المجلات .. وأحياناً صفحات كاملة ...
      تعثر في واحدة على مقال عن جورج ستوبس مع لوحته "الحصان يهدد السبع" تتأمل في العضلات النافرة وعروق الدم الواضحة تحت الجلد .. عنفوان وتوتر الحصان .. توسع فتحتي منريه .. نظرته الحادة وحركة رأسه المائلة .. تكاد تحس بأنفاسه الحارة .. وقسوة حافره الذي يستند على الأرض في نهاية الساق التي ثنيت تحفزاً ..
      كل ذلك وأشياء أخرى يعلمها عالم التشريح والفنان ستوبس تضعه في مقارنة غير منطقية مع رسومات لأحصنة رسمها زميل لك تلبية لطلب زبون
      سعودي .. كان مولعاً بهذه اللوحات وهذا الفنان العظيم .. وكان هذا الزبون يساوم في سعر اللوحات ويطلب تخفيض السعر .. وربما يكون ذلك من حقه لأنه كان يساهم في صنع اللوحة إذ يشير على الرسام بما يجب رسمه .. كنصب بيت من شعر الماعز في عمق اللوحة وتقديم العلف إلى حصانين مربوطين إليه . وكنت أنت تعقب ساخراً وتطلب من زميلك الرسام أن يرشد هذا الخروف الضال أمام بيت شعر الماعز إلى أمه في اللوحة الثانية .
      تطبق فمك وتخرج من أنفك زفرة سخرية .. ممزوجة بالأسى .. " ليس الفن كذلك ".. تقع أنظارك على ورقة مطوية خرزت معها قصاصة تمثل لوحة للفنان ممدوح قشلان هي لوحة .. العدوان ..
      تتذكر الحادثة .. الصبي .. اليد الممدودة .. القمامة .. العدوان كانت الورقة هي مذكرات كتبتها في ذلك اليوم .. وكانت المرة الأولى في حياتك .. كتبتها لأنك لم تستطع الرسم .. تأخذ الورقة .. وتنهض بها .. تعود تجلس على الأريكة وتشرع بالقراءة ...
      كان ذلك في إحدى الأمسيات الرائقة لصيف 1998 ، وكنت أمشي ليلاً في شوراع المدينة .. على غير وجهة محددة .. أمارس هوايتي المعتادة في تأمل وجوه الناس .. والنفاذ خلالها إلى أعماق شخصياتها ..فلربما أوفق إلى موضوع لوحة .. عندما اقترب مني صبي في العاشرة من عمره بتقاطيع وجه
      صينية ..جادة .. بريئة .. بقميص بني مسدل وبنطال قصير دون الركبة .. بني أيضاً .. كان يمد يده مبسوطة .. وفي طرف راحتها قطعة نقد "ليرتان" قائلاً : "عمو الله يخليك ..اعطني ثلاث ليرات حتى أستطيع اشتري سندويشة ..."
      وقفت منذهلاً أمام هذه التقاطيع البريئة والجادة في آن واحد وهذه النبرة التي تمتلئ استعطافاً رقيقاً دون أن تنقلب إلى رجاء صادق أو حتى مزيف ..
      لا أدري لماذا وكيف وقبل أن أفكر في أي شيء سألته : منذ متى لم تأكل .. فأجاب : منذ الصباح ..
      سكتْ .. لم أتكلم .. إنما فقط صرت أنظر في عينيه .. العيون التي لم تكن كسيرة ولا كانت خجلة وفي نفس الوقت لم تكن فاجرة .. لا أدري .. كيف لم يخفض أنظاره عندما نظرت إليه .. بل ترك لي حرية الغوص في عينيه .. وإنما فقط وبعد فترة وجيزة أخفض يده ببطء وضمها على القطعة النقدية وألصقها بجنبه . هذا الطفل لو جاء قبل سنتين لاستدر عطفي بكلمة الأولى في تلك الأيام التي كانت تسيطر علي ردود الأفعال والمثالية الروحانية ونزعة إهانة المادة والمال حصراً .. لكنني الآن وقد صرت أفرق بين الشكل والمضمون والسطح والعمق وأعرف بالملمس الناعم للأفعى وبالمياه الهادئة للمستنقع .. صرت أشكك ولهذا شككت في صدق هذا الفتى رغم ميلي له .. وتذكرت بحثي ذات يوم عن براءة الأطفال .. إذ ناديت ذلك اليوم على أولاد في السوق لتلميع حذائي رغم أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك .. وما أن أو مات حتى تراكض نفر من الأولاد في أعمار تتراوح بين الثامنة والحادية عشرة يتزاحمون بالأكتاف وهكذا وصلوا بسرعة كبيرة حتى كادوا أن يصطدموا بي جالساً على كرسي الحديقة وصل أكبرهم وقد دفع زميله دفعة أزاحته فقام يسب ويشتم اعتذرت من الكبير الذي كان قد هيأ نفسه للمهمة واخترت أصغرهم وقد كان بينهم كالأبله .. قدموه لي على أنه ابن عاهرة وشدوه من شعره ومضوا .. أثناء العمل كان منهمكاً جداً وكانت كل علاقته مع الحذاء .. لا شأن له بي .. وكأنني غير موجود كان يعمل ويلتفت إلى أصدقائه يبتسم ويسهم ويبصق ثم يتابع العمل فكان أن نزعت قدمي من بين يديه وأعطيته ما كان سيطلب ومضيت ربما كان هذا أحد الأسباب التي دفعتني للتشكيل في صدق هذا الفتى سألته لماذا اخترتني لتطلب مني الثلاث ليرات فأجاب بأنه لم يخترني وإنما طلب من عدة أشخاص قبلي لم يأبهوا له فمررت أنا فطلب مني ما طلبه منهم قبلاً .
      أراحني أنه لم يطريني ولم يميزني عن الآخرين لكسب الرضى فذهبت وإياه إلى المطعم وطلبت له سندويشة كبيرة بسعر خمس عشرة ليرة فكان أن نظر إلي ذاهلاً .. عيونه في عيوني .. قلت له .. كل .. وإذا شئت نتحدث .. فمشينا ..
      تركته حتى أحسست أنه أكل بما يسكت جوعه وصرت أسأله عن عمله وعمره والمدرسة فكان يجيب بحيادية تامة عمله جمع القطع البلاستيكية والخبز اليابس من البيوت والشوارع والحاويات ..عمره عشر سنوات .. ترك المدرسة عندما كان في الصف الثاني سألته هل كان مجتهداً في المدرسة وكنت ما أزال أختبره .. فقال بأنه كان مجتهداً إلا أن طالباً واحداً كان أكثر اجتهاداً منه .. ففرحت بأنه يصدق .. وندمت على تشكيكي في أمر صدقه ..
      كنت ابتسم له فينظر إلى ابتسامتي نظرة الذي يكتشف أمري ويدرس اختلافي وتشابهي مع الآخرين ..
      خجلت من ابتساماتي التي لم تكن تبادل بابتسامات مشابهة وإنما نظرات
      جادة ..باردة ..مستكشفة ..
      فقلت له : لماذا لا تبتسم وضحكت مبتسماً أثناء ذلك فكان جوابه ما لم أكن لأتوقع في حياتي كلها .. وما جعلني أشعر بصغري وبكبره .. وعمقه ونضجه .. كان جوابه بكاءً .. صامتاً.. مخنوقاً فجره سؤالي الأحمق وأذهلتني ردة فعله السريعة وحركة رأسه يساراً وإطباق جفنيه على دموع معبأة من زمن وتشنج عضلات وجهه وشفتيه وفمه المفتوح والصامت .. لم أشعر في حياتي بغبائي كما شعرته في تلك اللحظات ولكنه فاجأني وأنا حتى الآن ذاهل فأنا لم أتوقع أن يفهم سؤالي بذلك الشكل ولم أتوقع أن يكون واعياً بأنه لا يستطيع أن يضحك يا إلهي .. هل يمكن .. هل يمكن أن لا تستطيع الضحكة التي توسع أشداقنا شداً .. أن تشق طريقاً إلى تلك الشفاه القاسية والنضرة في آن . ندمت لأنني لم أصدقه منذ البداية .. ندمت لأنني شككت فيه لكن عيناه استفزتا فضولي الذي أثاره وضع هذا الطفل الغريب ..
      - ماذا يعمل والدك ؟
      - متوفى .
      صدمة أخرى قلت في سري "يا إلهي" ثم وبسرعة عداء يتجاوز حواجزاً غاية
      في التقارب ...
      - طيب وماذا كان يعمل .
      - في البلدية
      - موظفاً ...؟
      - "لا" وبدا محرجاً لكنه تابع موضحاً بأنه عامل يجر عربة شعرت بغبائي أكثر فأكثر وأدركت أن انذهالي قادني إلى البله لقد كان والده زبالاً ..
      - كيف مات ..؟
      وبدموع مجدداً وكلمات ممطوطة لتستطيل فتحمل دفقة الحزن والأسى .
      - دهسته سيارة ..
      - معليش حبيبي ملعون أبو السيارات .
      أحسست أن لدى الصبي رغبة بالبوح والبكاء .. وكان بكاؤه الشيء الوحيد الذي يبدو معه طفلاً .. وكنت بأسئلتي الغبية أخرج الطفل من أعماقه خلف ملابسه القاتمة ووراء عيونه المخيفة في جديتها وحيادها وعمقها .
      الطفل .. صار يحكي عن أمه وأخيه وعمله .. عمله الذي يجب أن يدر عليه خمسين ليرة يومياً و إلا فإن أمه وأخاه سيضربانه .. أخوه .. ضربه بقضيب من الحديد على ساقه .. ورفع البنطال القصير فوق فخذه ليريني .. ثم رفع ذقنه وعيونه إلي ..
      وصرت أستفهم حول أخيه فعلمت بأنه ذو عاهة ففهمت سبب الضرب وواسيته بطريقة رقيقة وأفهمته أن قيامه بالعمل شيء جليل فهو يحل محل والده رحمه الله بينما أمه وأخوه لا يستطيعان القيام بما يقوم به هو وإن الأخ لا يضربه بسبب الكره وإنما هو يكره الحالة والإعاقة التي تمنعه من القيام بما أنت تقوم به فهو يشعر بأنه لو كان سليماً لعمل وأحضر نقوداً أكثر منك .. لذلك هو يضربك عندما لا تحضر ..
      لست أدري إذا كان فهم ما قلته لكن إحساسي كان أن من يملك تلك العينين وهذه المعاناة يجب أن يفهم حكى لي أيضاً أنه كان مجتهداً والمعلمة كانت تحبه لكن التلاميذ يعيرونه بأنه ابن زبّال ويقتربون منه ويشمونه ثم ينفرون "رائحته قمامة" مع أنه كان يستحم كما قال لي .. كثيراً .. كثيراً وينظف يديه ووراء أذنيه وينظف شعره ويفرقه نحو اليمين كل صباح .
      لاحظت حينها الشعر المفروق لكن بأصابع اليد .. هذا واضح ثم تابع ذكر حادثة فقال أن حين كانت المعلمة تسأل الطلاب كل عما سيصبح في المستقبل ..وكان الجميع طبعاً أطباء مع بعض المتواضعين قبلوا بأن يكونوا مهندسين وضباطاً وعندما جاء دوره وقبل أن يتكلم قال الأولاد بأنه يريد أن يصير مثل
      أبيه زبالاً ..
      لكن المعلمة نهرتهم وقالت إن الكسالى هم من سيصيرون زبالين أما هو فمجتهد وعندما يكبر سيصير أفضل منهم جميعاً ..
      حادثة أخرى رواها .. كانت أكثر إيلاماً .. وذلك بعد أن توفي والده وصار عليه أن يكسب النقود بطريقة ما ..
      قال بأن القطع البلاستيكية لم تكن متوفرة في هذا الشارع الذي مسحه مراراً فكان عليه البحث في الحاوية .. وكانت عالية .. وأمه إذا لم يعد بأشياء نافعة ستضربه وأخوه كذلك .. صعد إليها .. رائحتها قذرة ..جعل حرفها تحت إبطه ورفع قدمه ليضعها على الحرف أيضاً ثم أخذ بقطعة بلاستيكية يحرك بها القمامة باحثاً عن شيء ينفعه .. فينشط الذباب ويطير ويحوم أمام وجهه بشكل كريه .. لكن فجأة يسمع صوتاً طفولياً ينادي باسمه فيلمح صديقته التي كانت معه في المدرسة ولا يمضي إثر مشاهدتها أكثر من ثوان تصطدم فيها النظرات الذاهلة ..
      لكنه الأضعف .. وهي تركب سيارة ويتحلق من حولها الأهل بثياب فاخرة .. وهو على طرف الحاوية ولا أهل لديه .. فيهوي بسرعة ليخفي نفسه فيصير داخل الحاوية ليعيش شعوراً أفظع هو شعور من تلوث وصار ضمن القمامة وصار يبكي .. في الحاوية كان يبكي .. وبجانبي أيضاً صار يبكي ورأسه صار عند ركبتي يلتمس بي بعض الأمان .. أنا وقتها لم أستطع التحمل .. نهضت وبسرعة أخرجت من محفظتي مبلغ خمسين ليرة وأعطيته إياها "خذ" هذه لك .. ليست لأهلك .. اشتري بها .. مشطاً .. اشتري بها قلماً .. وردة ..اشتري ما ترغب .. وداعاً ..
      شعرت حينها بضعفي أمام وضعه المحزن .. كانت الخمسون ليرة عزاءً صغيراً لنفسي .. لأنني لم ولا أستطيع أن ، أقدم لهذا الطفل حتى بسمة أزرعها
      على شفتيه ...
      ولم أستطع أن أنسى ولن أنسى هذا الطفل المجتهد والذي أصبح زبالاً .. وكما توقع أولاد صفه .. ورغم رغبة المدرسة .. هذا الذي يمشط شعره بيديه .. هذا الذي لا يستطيع أن يضحك .
      تنتهي من القراءة ونفسك مفعمة حباً وحقداً وقوة .. تنظر حولك .. نظافة
      الغرفة .. ترتيب الأشياء .. جمال اللوحات .. هجرة الطيور والأطفال ..
      تتخيل لوحاتك اللواتي وإن لم يكتملن يحوين كل الفن والجمال تعيد النظر .. في سنوات عمرك الواحدة والعشرين .. قطعت أشواطاً .. ستكملها ...
      تحس بنفسك اكتملت .. بالقدرة على حمل الفرشاة .. اللوحة تفتح
      ذراعيها ..تجتاحها الرغبة في أن تضمك .. تدنو إليها .. الصورة تنطبع
      في ذهنك ..
      الصديق الذي لم يكن بإمكانك تقديم شيء له ذي بال .. ستقدمه الآن على
      اللوحة .. مع إضافة كل ما ترغب في تقديمه .. العينان ستحافظان على جديتهما ودون دمع أو حتى حزن . التقاطيع الصينية .. الخدود الطرية .. الشعر المفروق واضح باليدين .. الذقن تُرفع قليلاً إلى الأعلى وشفاه تطبق بتصميم مضمر هاتان العينان ستحدثان في مشاهد اللوحة ما أحدثته عينا الصبي فيك ..
      اللون البني والترابي والخمري ستلعب في حواف الوجه والرأس تهميشاً وتشظياً يدخل في انسجام مع سمرة لون الوجه وفي تعارض صارخ مع بياض العينين وبقع الضوء وخطوطه على مفارق الشعر والوجنات التي تعكس كل
      نعومة وطراوة .
      كل ما حول الوجه داكن متلبد يتداخل في تلبيد وتهميش مع حواف الوجه
      والشعر .. في محاولة للافتراس .. وفي كل ما هو داكن ستستعمل رماد السيجارة ذلك اللون اللاذع وفي العينين وعند مفارق الشعر ستصب كل ذاتك وكل أحلامك .. وفي النهاية .. وبكل تأكيد ..

      ستكتمل اللوحة .