قصائد منسية
إن ما يجعلني ابتعد عن قراءة الروايات والقصص السعودية الحديثة, هو أنها لا تحمل برأيي النضج الفني والفكري الذي يقارع الأدب العالمي بل وحتى العربي. وهو أمر لا نراه في قصة قصائد منسية للكاتب مبارك الحمود, فهي قصة مليئة بالنضج الفني والفكري, تنبئنا عن طراز كاتبنا ومعدنه الأدبي.
تبدأ القصة ببياض الثلج الباعث للحياة وتنتهي ببياض الموت الذي يغطي كل شيء. وبين هذا وذاك علاقات واختلافات ثنائية تقع بين شخصيات القصة الرئيسة الثلاث ( الفتاة البكماء " عبير ", بطل القصة " عديم الاسم " و شوق ). يمكن النظر للعلاقة بين هذه الشخصيات برسم ثالوث يكون على رأس هرمه بطل القصة وعلى جنبيه كل من عبير وشوق, وعلاقة الحب التي تجمع بينهم الثلاثة.
الحب ثنائي الشكل : حب متبادل/ حب من طرف واحد, وفي هذه القصة يلعب الكاتب على الوتر الحساس للحب من طرف واحد, وهو يجيد العزف المأساوي على هذا الوتر. بطل القصة بكل بساطة يحب من النظرة الأولى فتاة لا يعرف عنها إلا أنها ذبحت قلبه على أبواب معابدها, وفي الأيام التي كان يموت فيها مرة جراء حبه المجهول, هناك شخص قريب منه يموت بجانبه ألف مرة. شوق باختصار هي مأساة لم تُكتب بعد, ولكننا نشعر بها في رسالتها الأخيرة, نشعر بألمها, بعذابها, بآهاتها, بحب من طرف واحد تجاهله إنسان كان يعتقد أنه كان المُعذب الوحيد. إننا من خلال النظر إلى علاقة البطل مع معشوقته البكماء, يمكننا أن نستحضر علاقة البطل نفسه مع ابنة خالته شوق. فبينما البطل يواجه صدودا وردا من معشوقته المزعومة نجد أنه يصد ابنة خاله التي تعشقه " فليس لديهما سوى ابنتهما شوق, التي تدرس في السنة الأخيرة من الثانوية, جميعهم طيبون معي, رغم أن شوق تحاول إزعاج خلوتي دائماً, بتضييعها أشياء بالقرب مني, و سؤالها الدائم عنها ", فلدينا هنا ثنائية أخرى, الاستقبال / الصد.
يملك الكاتب قدرة لغوية تجعله يجسد شخوص القصة أمامنا بطريقة سرده السينمائية وإكثاره من التشبيهات الشعرية التي طغت على القصة فأحالتها إلى قصيدة منثورة. " تنظر للثلج الممتدِ أمامها كورقةٍ بيضاء عذرية ", " أراقبها من بعيدٍ كاللص ", " كشجرةِ خريفٍ عتيقةٍ أصبحتُ, أوراقها تتجددُ لتتساقط ", " و قنديلٌ أزرق يحاول الميلان لها أكثر.. قلت لها: - سلام, وسألتها بعجل, و أنا أحاول إبعادها عن القنديل خوفاً من أن يتهاوى عليها ", " أتخيلها الآن مع زوجها سعيدين, يلعبان بقلبي و هما يظنانه كرة! ", " فقلبي أشعر بنبضه يتباطأ شيئاً فشيئاً, كخطوات راحلٍ مجبرٍ على الرحيل ". هذه التشبيهات والاستعارات جعلت النص حيا غنيا يفيض بالجمال والشاعرية التي تناسب نصا رومانسيا كهذا.
الكاتب لا يبعد كثيرا عن نظرته الواقعية للأمور, حتى في قصة شعرية تراجيدية كهذه. انظروا لهذا القطعة " واقفةً بصمتٍ أمام مخبزٍ للمعجناتِ والفطائر, و قنديلٌ أزرق يحاول الميلان لها أكثر.. قلت لها:
- سلام, وسألتها بعجل, و أنا أحاول إبعادها عن القنديل خوفاً من أن يتهاوى عليها:
- هل تعرفين أين يقع أقرب مخبزٍ هنا؟.. سؤالٌ غبي سقط مجبراً مني كثقلٍ وزنه ألف طنٍ أمام بهائها المبهر " أليس هذا الواقع؟, ألا نبدو أغبياء دائما أمام من نحب ونعشق, ألا نتلعثم بالكلام أمام عشاقنا. إنها نظرة واقعية مضحكة في قصة لا تُضحك. هذه القطعة ستوضح أكثر من نظرتي لواقعية الكاتب في نظرته للأمور الاعتيادية التي قد تخفى على كبار الكتاب " و تبادر لذهني أن أسأل عن الفتاة, ولكن بعيدا عن الشبهة, فسألت عن منزل أجدادها, فقالت شوق بحماس, " آه.. أتقصد بيت البكماء؟", اعترتني قشعريرةٌ فجائية, فلم أكن أتوقع أن تكون كلماتٍ قليلة, كالتي قالتها شوق توضح كل شيء, وعندها اتضح ما كان مبهماً, وشعرتُ أني مجرد أبله, ولم أسمع لما كانت خالتي تقوله من توبيخٍ على ما أظن لابنتها على نعتها الفتاة بالبكماء, و لم أعر حديث زوج خالتي عن أصحاب البيت ", هنا ثلاث صور, حواران, أربعة شخوص, وسرد واحد يبدعها ويربطها ببعضها البعض. تأملوا هذه الصورة الواقعية وحاولوا تجسيدها أمامكم لتروا الواقعية بعينها في هذا المشهد الرائع.
قد يعيب البعض على الكاتب تسطيحه للحب, فالحب لا يكون من نظرة أولى, قد يكون إعجاب ولكن ليس قطعا حبا. شخصيا, لم أرى ذلك عيبا وأنا اقرأ روميو وجولييت, رائعة شكسبير كما لم يكن عيبا وأنا اقرأ ديوان مجنون ليلى وهو من هام بابنة عمه بنظرة. إن الحب من نظرة أولى هو أمر أساسي في هذه القصة لتكون كما هي عليه. كما أنه استمرار للعلاقات التي قام عليها النص, فهناك حب من أول نظرة ( حب البطل لعبير )/ وحب ينمو ويكبر ( حب شوق للبطل ).
بين تلاعب الكاتب بأفكار الحب الكبرى, وقدرته اللغوية واللسانية, نجد أنفسنا أمام قصة رائعة لا يمكن الملل من قراءتها مرة تلو المرة. فهي تحتوى على اللغة الشعرية الفائقة في تجسيد شخوص القصة أمام ناظرينا. كما أنها تحتوي على نضج فكري في النظرة للأمور الحياتية بواقعية مركزة يدعمها سرد سينمائي خلاق. وهذا النضج الفكري ينعكس على فكرة القصة الرئيسة وهي الحب من طرف واحد.
__________________
إن ما يجعلني ابتعد عن قراءة الروايات والقصص السعودية الحديثة, هو أنها لا تحمل برأيي النضج الفني والفكري الذي يقارع الأدب العالمي بل وحتى العربي. وهو أمر لا نراه في قصة قصائد منسية للكاتب مبارك الحمود, فهي قصة مليئة بالنضج الفني والفكري, تنبئنا عن طراز كاتبنا ومعدنه الأدبي.
تبدأ القصة ببياض الثلج الباعث للحياة وتنتهي ببياض الموت الذي يغطي كل شيء. وبين هذا وذاك علاقات واختلافات ثنائية تقع بين شخصيات القصة الرئيسة الثلاث ( الفتاة البكماء " عبير ", بطل القصة " عديم الاسم " و شوق ). يمكن النظر للعلاقة بين هذه الشخصيات برسم ثالوث يكون على رأس هرمه بطل القصة وعلى جنبيه كل من عبير وشوق, وعلاقة الحب التي تجمع بينهم الثلاثة.
الحب ثنائي الشكل : حب متبادل/ حب من طرف واحد, وفي هذه القصة يلعب الكاتب على الوتر الحساس للحب من طرف واحد, وهو يجيد العزف المأساوي على هذا الوتر. بطل القصة بكل بساطة يحب من النظرة الأولى فتاة لا يعرف عنها إلا أنها ذبحت قلبه على أبواب معابدها, وفي الأيام التي كان يموت فيها مرة جراء حبه المجهول, هناك شخص قريب منه يموت بجانبه ألف مرة. شوق باختصار هي مأساة لم تُكتب بعد, ولكننا نشعر بها في رسالتها الأخيرة, نشعر بألمها, بعذابها, بآهاتها, بحب من طرف واحد تجاهله إنسان كان يعتقد أنه كان المُعذب الوحيد. إننا من خلال النظر إلى علاقة البطل مع معشوقته البكماء, يمكننا أن نستحضر علاقة البطل نفسه مع ابنة خالته شوق. فبينما البطل يواجه صدودا وردا من معشوقته المزعومة نجد أنه يصد ابنة خاله التي تعشقه " فليس لديهما سوى ابنتهما شوق, التي تدرس في السنة الأخيرة من الثانوية, جميعهم طيبون معي, رغم أن شوق تحاول إزعاج خلوتي دائماً, بتضييعها أشياء بالقرب مني, و سؤالها الدائم عنها ", فلدينا هنا ثنائية أخرى, الاستقبال / الصد.
يملك الكاتب قدرة لغوية تجعله يجسد شخوص القصة أمامنا بطريقة سرده السينمائية وإكثاره من التشبيهات الشعرية التي طغت على القصة فأحالتها إلى قصيدة منثورة. " تنظر للثلج الممتدِ أمامها كورقةٍ بيضاء عذرية ", " أراقبها من بعيدٍ كاللص ", " كشجرةِ خريفٍ عتيقةٍ أصبحتُ, أوراقها تتجددُ لتتساقط ", " و قنديلٌ أزرق يحاول الميلان لها أكثر.. قلت لها: - سلام, وسألتها بعجل, و أنا أحاول إبعادها عن القنديل خوفاً من أن يتهاوى عليها ", " أتخيلها الآن مع زوجها سعيدين, يلعبان بقلبي و هما يظنانه كرة! ", " فقلبي أشعر بنبضه يتباطأ شيئاً فشيئاً, كخطوات راحلٍ مجبرٍ على الرحيل ". هذه التشبيهات والاستعارات جعلت النص حيا غنيا يفيض بالجمال والشاعرية التي تناسب نصا رومانسيا كهذا.
الكاتب لا يبعد كثيرا عن نظرته الواقعية للأمور, حتى في قصة شعرية تراجيدية كهذه. انظروا لهذا القطعة " واقفةً بصمتٍ أمام مخبزٍ للمعجناتِ والفطائر, و قنديلٌ أزرق يحاول الميلان لها أكثر.. قلت لها:
- سلام, وسألتها بعجل, و أنا أحاول إبعادها عن القنديل خوفاً من أن يتهاوى عليها:
- هل تعرفين أين يقع أقرب مخبزٍ هنا؟.. سؤالٌ غبي سقط مجبراً مني كثقلٍ وزنه ألف طنٍ أمام بهائها المبهر " أليس هذا الواقع؟, ألا نبدو أغبياء دائما أمام من نحب ونعشق, ألا نتلعثم بالكلام أمام عشاقنا. إنها نظرة واقعية مضحكة في قصة لا تُضحك. هذه القطعة ستوضح أكثر من نظرتي لواقعية الكاتب في نظرته للأمور الاعتيادية التي قد تخفى على كبار الكتاب " و تبادر لذهني أن أسأل عن الفتاة, ولكن بعيدا عن الشبهة, فسألت عن منزل أجدادها, فقالت شوق بحماس, " آه.. أتقصد بيت البكماء؟", اعترتني قشعريرةٌ فجائية, فلم أكن أتوقع أن تكون كلماتٍ قليلة, كالتي قالتها شوق توضح كل شيء, وعندها اتضح ما كان مبهماً, وشعرتُ أني مجرد أبله, ولم أسمع لما كانت خالتي تقوله من توبيخٍ على ما أظن لابنتها على نعتها الفتاة بالبكماء, و لم أعر حديث زوج خالتي عن أصحاب البيت ", هنا ثلاث صور, حواران, أربعة شخوص, وسرد واحد يبدعها ويربطها ببعضها البعض. تأملوا هذه الصورة الواقعية وحاولوا تجسيدها أمامكم لتروا الواقعية بعينها في هذا المشهد الرائع.
قد يعيب البعض على الكاتب تسطيحه للحب, فالحب لا يكون من نظرة أولى, قد يكون إعجاب ولكن ليس قطعا حبا. شخصيا, لم أرى ذلك عيبا وأنا اقرأ روميو وجولييت, رائعة شكسبير كما لم يكن عيبا وأنا اقرأ ديوان مجنون ليلى وهو من هام بابنة عمه بنظرة. إن الحب من نظرة أولى هو أمر أساسي في هذه القصة لتكون كما هي عليه. كما أنه استمرار للعلاقات التي قام عليها النص, فهناك حب من أول نظرة ( حب البطل لعبير )/ وحب ينمو ويكبر ( حب شوق للبطل ).
بين تلاعب الكاتب بأفكار الحب الكبرى, وقدرته اللغوية واللسانية, نجد أنفسنا أمام قصة رائعة لا يمكن الملل من قراءتها مرة تلو المرة. فهي تحتوى على اللغة الشعرية الفائقة في تجسيد شخوص القصة أمام ناظرينا. كما أنها تحتوي على نضج فكري في النظرة للأمور الحياتية بواقعية مركزة يدعمها سرد سينمائي خلاق. وهذا النضج الفكري ينعكس على فكرة القصة الرئيسة وهي الحب من طرف واحد.
__________________