ستغامر، وستقفز أسوار الحرام وستنتهك المحاذير اللامنطقية من بعض المثبطين، فعمليات التجميل إنقاذ لبيت يتصدع، ومخرجاً سهلاً للأزمات النفسية الخانقة، لكنها قلقة ينقصها الثقة، فهذا التأرجح راجع إلى خوفها من فشل النتائج، استحضرت وهي تنتظر في عيادة الطبيب جميلات الشاشة وهن يتصابين رغم تقدم السنين، فلماذا يخطئها المشرط دوناً عنهن، فلتتجلد وتقرر.
الممرضة الممشوقة تمسح بعينيها المشروطتين صالة الانتظار ثم نادت: رقم (6).
استجابت (سامية) بهزة من رأسها واستطرقت حجرة الطبيب في ارتباك الآثم.
بوجهه المحتفي استقبلها، أشار إلى المقعد.
- تفضلي مدام سامية.
شاب ينضح وسامة، شخّص بعينين مجهريتين مواطن الضعف في جمالها، فاجأها بسؤال له مكامن دقيقة:
- هل تعتقدين أنكِ بحاجة إلى عملية تجميل؟
اندفعت منفعلة:
- بل عمليات كثيرة يا دكتور.
واستدرجها ليتوغل في بواطنها.
- ولماذا؟
- ألا تعتقد أن الأخطاء الجمالية في ملامحي لم تستفز مشرطك؟
- أسأل عن دوافعك.
شدت نفساً عميقاً عبر عن حرقة متأصلة فيها:
- بصراحة دكتور نحن الزوجات نعيش في قلق دائم لأننا في تحدي لهذه العولمة الجمالية الفتاكة التي غيبت عقول رجالنا فما عادوا قانعين بزوجاتهم ولا منسجمين مع الحد المعقول من جمالهن، وكما ترى أفتقد حتى النسبة البسيطة من الجمال، ومما زاد الطين بلة تقدم العمر بي وبروز تلك الخطوط القاسية على وجهي.
- وما هو الجزء الذي تقصدينه بالضبط؟
اعتدلت سامية في جلستها ووجهت وجهها شطر الدكتور لتريه الصورة بوضوح:
- ها أنا يا دكتور بين يديك أسلمك وجهاً مشوهاً لتتفنن فيه وتبدع فتترك عليه أجمل البصمات.
تفحص وجهها ملياً، ثم قال:
- أعتقد أنكِ منزعجة من نضوب خديكِ، وارتخاء جفنيكِ، ويمكن بعد الشد والبوتكس ترميمهما بشكل يظهرك أكثر شباباً، وسأحقن شفتيكِ لتمتلئان فتنشق عن ضحكة فتية، وتجاعيد الرقبة تحتاج إلى عملية أيضاً.
تحسست أنفها العريض.
- وأنفي يا دكتور أريده أنفاً طفولياً يزيدني براءة وجاذبية.
اعترض:
- لكنه لن يتناسب وتكوين وجهك، فذقنك مدببة وبارزة.
- يمكنك أن تفعل ما تجده ملائماً لي، المهم أن تعتبرني لوحتك الصعبة يا دكتور حيث التحدي الأكبر لذاتك فما يهمني في النهاية أن أكون شابة فاتنة.
- هذا يعني أنكِ تحتاجين إلى عمليات كثيرة وعلى فترات متباعدة.
ووثبت من مقعدها لتقف أمامه تسأل:
- وجسدي يا دكتور لقد أنهكتني وصفات الرجيم دون طائل، التكتلات الدهنية المزعجة تشوه أناقتي.
حدد النظر في تقاطيع جسدها ثم عبر بشيء من التردد:
- ستكون عمليات مكلفة جداً لأنكِ تحتاجين إلى تكبير الصدر وشده وشفط الدهون من الأرداف والفخذين، وعلاج البطن المترهل، عملية نحت كاملة لجسمك.
وبحماس ردت:
- لا يهم يا دكتور افعل ما تراه مناسباً لي فأنا تحت تصرفك، رهن أمرك، وسأقدم لك شيكاً على بياض وما عليك إلا أن تسجل الرقم الذي يعجبك، المهم أن تشكلني بالصورة الخلابة، فأنا زوجة لرجل أعمال مرموق والمال يجري بيدي ومستعدة أن أشتري الصبا والجمال بأي ثمن.
- وهل ستتحملين المسؤولية؟
وسبقته قبل أن يستطرد:
- نعم أتحمل، لأن ما عشته كفيل بخلق هذا الدافع داخلي.
- إذن فلنتفق على الموعد ونبدأ أولاً بإجراء الفحوصات الشاملة قبل العمليات.
- إذن توكلنا على الله.
وفي عودتها إلى البيت تتذكر زوجها (مختار) بطقوسه الرتيبة على المائدة مستعجلاً غداءه بتقليد ذكوري ممل وعيناه تهربان من عينيها اللائمتين، تأخذ ثرثرتهما تقاطعات نافرة، فالتواصل الافتراضي بين زوجين يضمر نوعاً من الألفة، بيد أن حوارهما يفضح شرودهما عن بعض وحتمية الإصغاء من واقع الاحترام.
اقتحمت رتابة المناخ:
- سأجري عملية تجميل الأسبوع القادم.
قهقه مستنكراً:
- وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
تضرج وجهها حنقاً:
- مختار أرجوك احترم مشاعري، لا تحبطني، فمنذ متى ونحن منفصلان عن بعض كل منا ينام في حجرة خاصة، ألا تجد أن هذا الوضع مزرياً فأنا لست بكائن محنط، ربما حينما أجدد شبابي أضرم مشاعرك من جديد.
سخر منها:
- وهل تظنين أن هذه التجربة كفيلة بإضرام عواطفنا؟
- سأحاول، وسأجرب، وأنا متفائلة بالنتيجة.
أطال مختار النظر بزوجته مستبعداً أن ترمم العمليات هذا الكم الهائل من العيوب، فالأمر يتعدى أنف وشفتين، تقاطيعها برمتها معطوبة.
حدجته غاضبة:
- ما بك تحدق بي شزراًا؟
أدار رأسه ناحية المطبخ منادياً الخادمة:
- (أنيتا) هاتِ القهوة في الصالون.
- تتجاهلني وكأن أمري لا يهمك؟
غمغم ممتعظاً وهو يترك المائدة.
وحان موعد العملية ولازمتها شقيقتها في هذا الظرف الحرج، فقد بلغ بها التمرد على حياتها الذروة، حاولت شقيقتها ولأكثر من مرة أن تثنيها بيد أن اليأس يحفر في أعماقها ندوباً لا تندمل، فخيانات مختار مطبوعة على جلده ورائحة النساء الرخيصات كانت تشمها باستمرار على ثيابه، وهي تحت هيمنة المخدر تدخل في قمقم الغياب لتستريح من ألم الذكرى وباستسلام العاجز الذي أنهكته الحياة فغامر حتى لو كان في المغامرة هلاكه.
تستغرقها محطات الانتظار في وجع مرير وأنين لا يبرح حتى طلوع الفجر، ذلك الوعي المزعج لولا المورفين يزحف في عروقها كل مساء ليسكت الألم، ولا أحد يخمن ما ستؤول إليه أحوال سامية، فالزوج غير مبالٍ لأن أي شيء باستثناء ذاته فهو هامش، الواجب الروتيني يقتضي أن يلازمها لبعض الوقت، لكن أختها ما انفكت تداريها في كل شوط من أشواط هذه الرحلة فلا يجد أي مبرر لبقائه.
طمأن الطبيب أختها:
- تحتاج إلى شهور طويلة كي تبرء الجروح ويلتئم الجلد.
وفي إحدى هفوات وعيها تستأذن الطبيب أن يبقيها في المشفى لأمد طويل حتى لو تضاعف الأجر..
ثم التفتت إلى شقيقتها الواقفة في جزع:
- أريد أن أصدمه بحقيقتي الجديدة.
وتمضي الشهور ببطء وتثاقل وهي تترقب على مضض المشهد الأخير لهيئة فتية، فالجلد ينكمش والجروح تلتئم والكدمات الداكنة تتلاشى عن وجهها المشدود بالتدريج، المرآة لا تفارقها، متوترة، تقلقها النتيجة، فآثار الورم والألوان المائلة إلى الأزرق والأسود تطغى على مضمون الملامح، لكن انبلاج النهار عن صورة مشرقة يحدث عندما تصر الخائلة على الجذب المستمر، المرآة توقظها هذا الصباح، شهقت، أوشكت أن تغوص في صورتها لفرط الدهشة، الجسد قد انصقل كما التمثال فينوس، مسدت بطنها الأهيف وخصرها المنحوت والصدر الناهد من وراء الثوب، طفرت دموع الفرح، إنها الآن آجمل من صباها، فالطلة فتية والفم مستدير لكنه متعطش إلى أحمر الشفاه، تدفق في ذاتها نبع أنثوي بعد سنين عجاف.. مازالت تحدق في المرآة تسألها:
- أهذه أنا؟ لا أصدق!.
رجعت إلى زوجها بعد انقطاع مقصود، فالدهشة المنتظرة هي ما كانت تخطط له حين اللقاء.
تهندمت في ثوب أصفر ينحسر على تقاطيع شابة ثلاثينية، تناهبتها عيون الخدم، التعابير المكتومة، الغمغمات المدهوشة تلتقطها الأذن المتطفلة في شغف.
(ياه ما أجملها، أهذه سيدتي سامية؟ لا أصدق لقد صغرت عشرون عاماً، إنها رائعة).
تنتشي سامية من رحيق الإطراء وقد سرى في عروقها كالمصل فانتعشت بالثقة.
أقبل زوجها بعد الظهر وفتح باب الحجرة، أبهرته المفاجأة، حبست أنفاسه.. وجدها مستلقية على السرير كحورية البحر، أغوته بنبرة مغناج:
- ها.. ما رأيك؟
اضطرب وكأنما شرارة أضرمت أسلاكه المهترئة فأيقظت فيها تيار كهرباء أضاء قلبه المعتم، تدفق الدم إلى عروقه فاحتقن، الرغبة المعتقلة في كهف الكهولة البارد تنتفض وتعربد في اضطراب لأول مرة.. صاح وهو يزدرد ريقه:
- في قمة الإثارة!.
استحوذته كعروس بنكهة صبية، امتلكته برغبة متعطشة واستثمرت جنونه المؤقت شهوراً حتى خبت الجذوة وعاد سيرته الأولى، بارداً، فاتراً، يستأنف غزواته خارج البيت.
إنها تحبه لكنه ذلك الحب المعلب في نطاق محدود وحيز ضيق، فتفكيرها ينحصر في إطار هذه العلبة، لو أنها انطلقت في فضاءات أوسع لكان ذكاؤها خلاقاًً في فنون الحب وطقوسه المتجددة، عادت إلى جراح التجميل ثانية تطلب منه بعض التغيير، فالشفتين قد نضب منهما الكولاجين، والخدين بحاجة إلى البوتكس، ورمم الجراح ما أفسدته شهور العسل، لترجع إلى زوجها بلون جديد وبغواية أشهى، فينكب على الصحن نهماً حتى يزهد فيه ويتململ.
استمرأت سامية لعبة التجميل فجاءت مرة أخرى ترجو الطبيب أن يحقن وجهها بالمزيد من البوتكس لتختفي بعض الغضون الناتئة، وطلبت منه أن يحفر في خديها غمازتين لتشبه المطربة (فافي) التي تدوخ زوجها كلما تمايلت في الفيديو كليبات الساخنة.
لكنها استنفذت ذخيرتها في ثلاثة شهور لترجع خجلة إلى الجراح!
- هل من بوتكس يا دكتور؟
لكنه اعترض هذه المرة لأن جلدها لم يعد صالحاً لجرعات أخرى من البوتكس وإلا خسرت تعابيرها الإنسانية وبدت كائن محنط.
- أنا آسف مدام سامية، لا أغامر بكِ.
لكن إدمانها الجنوني دفعها إلى البحث عن جراح تجميل آخر وفعلت عندما تصفحت عناوين العيادات وأسماء الأطباء في الصحف فوقعت على أحدهم لا يقل شهرة عن الجراح السابق.
هبت من فورها إلى العيادة وبحماس غير واع، استنطق الجراح طويتها بعينين خبيرتين وأدرك أنها كنز ثمين وجيب عامر.
طلبت البوتكس وتكبير الصدر، حينما سألها ما إذا سبق وأن أ جريت لها عملية من قبل أنكرت خشية أن يعترضها كما فعل الجراح قبله، كان يعرف بيد أنه استحمق عن عمد، فهذا النوع الساذج من النساء يمكن خداعهن بسهولة، ولهذا لن أتردد في تجميلها بالصورة التي تبهرها حتى تعود لي مرات ومرات، هكذا حدّث نفسه.
مزيداً من حقن البوتكس، وأضاف في احتيال انطلى عليها:
- لو طبعتِ شامة سوداء أسفل الشفة لكنتِ أكثر جاذبية!
والتقطت الطعم على الفور:
- فكرة رائعة دكتور سأفعل بالتأكيد!
والهوس يأخذها في متاهات نفسية تفقدها اتزانها وتسلبها الفكر والمنطق، أطلق عليها العاملون في العيادة (مدام بوتكس) إنهم يتوقعون إطلالتها كل شهر فيتغامزون بينهم هزءاً وسخرية.. الممرضات، الممرضون، الخدم، موظفات الاستقبال، النموذج القبيح للمرأة الغبية التي تستهجنها الذائقة الإنسانية السليمة.. لكنهم هذه المرة ارتعبوا وتدافعوا إلى حجرتها حينما سمعوا استغاثتها... دكتور.. دكتور.
هرولت الممرضة: إلحق بها يا دكتور.
اكتظت حجرتها.. تتلمس وجهها في ذعر والمرآة في يدها الأخرى:
- لقد تشوه وجهي يا دكتور، صرت في قمة البشاعة، وصدري أيضاً،، إنه أشبه بوسادة محشوة من جانب واحد.
وفي صراخ هيستيري:
- ماذا فعلت بي يا دكتور، لن أسكت، سأقاضيك، سأقاضي المشفى، إنها مجزرة، مذبحة.
أشار الدكتور بغمزة من عينه إلى الممرضتين فاحتضناها وهما يهدئا من روعها وأرقداها على السرير بينما جاءت الثالثة لتحقنها وهي تقاوم لكنهما أمسكتا ذراعيها بقوة كي تأخذ الحقنة لتهدأ وتنام.
وهكذا تترى..
محاولات جديدة للترميم باءت كلها بالفشل، ورجع لها في النهاية وعياً مكتئباً ونفس ممزقة وروح محطمة.. عرضها زوجها على طبيب نفسي وبعد أن أصغى إلى تفاصيل الحالة أجابه الطبيب:
- زوجتك بحاجة إلى جلسات علاج كثيرة لتشفى تماماً.
قال الزوج وهو في طريقه للانصراف وكأنما ينفض المسؤولية من يديه:
- افعل ما تراه مناسباً دكتور حتى لو اضطرت البقاء في المصحة!
وعندما انفرد الطبيب بسامية صارحها:
- مدام سامية أنتِ بحاجة إلى أكثر من عملية تجميل لكن هذه المرة في روحك وسأبذل جهداً كبيراً كي أصالحك على ذاتك من جديد.
تنهدت في أسى:
- أنا تحت أمرك يا دكتور!
منقول من موقع الكاتبه خوله القزويني
الممرضة الممشوقة تمسح بعينيها المشروطتين صالة الانتظار ثم نادت: رقم (6).
استجابت (سامية) بهزة من رأسها واستطرقت حجرة الطبيب في ارتباك الآثم.
بوجهه المحتفي استقبلها، أشار إلى المقعد.
- تفضلي مدام سامية.
شاب ينضح وسامة، شخّص بعينين مجهريتين مواطن الضعف في جمالها، فاجأها بسؤال له مكامن دقيقة:
- هل تعتقدين أنكِ بحاجة إلى عملية تجميل؟
اندفعت منفعلة:
- بل عمليات كثيرة يا دكتور.
واستدرجها ليتوغل في بواطنها.
- ولماذا؟
- ألا تعتقد أن الأخطاء الجمالية في ملامحي لم تستفز مشرطك؟
- أسأل عن دوافعك.
شدت نفساً عميقاً عبر عن حرقة متأصلة فيها:
- بصراحة دكتور نحن الزوجات نعيش في قلق دائم لأننا في تحدي لهذه العولمة الجمالية الفتاكة التي غيبت عقول رجالنا فما عادوا قانعين بزوجاتهم ولا منسجمين مع الحد المعقول من جمالهن، وكما ترى أفتقد حتى النسبة البسيطة من الجمال، ومما زاد الطين بلة تقدم العمر بي وبروز تلك الخطوط القاسية على وجهي.
- وما هو الجزء الذي تقصدينه بالضبط؟
اعتدلت سامية في جلستها ووجهت وجهها شطر الدكتور لتريه الصورة بوضوح:
- ها أنا يا دكتور بين يديك أسلمك وجهاً مشوهاً لتتفنن فيه وتبدع فتترك عليه أجمل البصمات.
تفحص وجهها ملياً، ثم قال:
- أعتقد أنكِ منزعجة من نضوب خديكِ، وارتخاء جفنيكِ، ويمكن بعد الشد والبوتكس ترميمهما بشكل يظهرك أكثر شباباً، وسأحقن شفتيكِ لتمتلئان فتنشق عن ضحكة فتية، وتجاعيد الرقبة تحتاج إلى عملية أيضاً.
تحسست أنفها العريض.
- وأنفي يا دكتور أريده أنفاً طفولياً يزيدني براءة وجاذبية.
اعترض:
- لكنه لن يتناسب وتكوين وجهك، فذقنك مدببة وبارزة.
- يمكنك أن تفعل ما تجده ملائماً لي، المهم أن تعتبرني لوحتك الصعبة يا دكتور حيث التحدي الأكبر لذاتك فما يهمني في النهاية أن أكون شابة فاتنة.
- هذا يعني أنكِ تحتاجين إلى عمليات كثيرة وعلى فترات متباعدة.
ووثبت من مقعدها لتقف أمامه تسأل:
- وجسدي يا دكتور لقد أنهكتني وصفات الرجيم دون طائل، التكتلات الدهنية المزعجة تشوه أناقتي.
حدد النظر في تقاطيع جسدها ثم عبر بشيء من التردد:
- ستكون عمليات مكلفة جداً لأنكِ تحتاجين إلى تكبير الصدر وشده وشفط الدهون من الأرداف والفخذين، وعلاج البطن المترهل، عملية نحت كاملة لجسمك.
وبحماس ردت:
- لا يهم يا دكتور افعل ما تراه مناسباً لي فأنا تحت تصرفك، رهن أمرك، وسأقدم لك شيكاً على بياض وما عليك إلا أن تسجل الرقم الذي يعجبك، المهم أن تشكلني بالصورة الخلابة، فأنا زوجة لرجل أعمال مرموق والمال يجري بيدي ومستعدة أن أشتري الصبا والجمال بأي ثمن.
- وهل ستتحملين المسؤولية؟
وسبقته قبل أن يستطرد:
- نعم أتحمل، لأن ما عشته كفيل بخلق هذا الدافع داخلي.
- إذن فلنتفق على الموعد ونبدأ أولاً بإجراء الفحوصات الشاملة قبل العمليات.
- إذن توكلنا على الله.
وفي عودتها إلى البيت تتذكر زوجها (مختار) بطقوسه الرتيبة على المائدة مستعجلاً غداءه بتقليد ذكوري ممل وعيناه تهربان من عينيها اللائمتين، تأخذ ثرثرتهما تقاطعات نافرة، فالتواصل الافتراضي بين زوجين يضمر نوعاً من الألفة، بيد أن حوارهما يفضح شرودهما عن بعض وحتمية الإصغاء من واقع الاحترام.
اقتحمت رتابة المناخ:
- سأجري عملية تجميل الأسبوع القادم.
قهقه مستنكراً:
- وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
تضرج وجهها حنقاً:
- مختار أرجوك احترم مشاعري، لا تحبطني، فمنذ متى ونحن منفصلان عن بعض كل منا ينام في حجرة خاصة، ألا تجد أن هذا الوضع مزرياً فأنا لست بكائن محنط، ربما حينما أجدد شبابي أضرم مشاعرك من جديد.
سخر منها:
- وهل تظنين أن هذه التجربة كفيلة بإضرام عواطفنا؟
- سأحاول، وسأجرب، وأنا متفائلة بالنتيجة.
أطال مختار النظر بزوجته مستبعداً أن ترمم العمليات هذا الكم الهائل من العيوب، فالأمر يتعدى أنف وشفتين، تقاطيعها برمتها معطوبة.
حدجته غاضبة:
- ما بك تحدق بي شزراًا؟
أدار رأسه ناحية المطبخ منادياً الخادمة:
- (أنيتا) هاتِ القهوة في الصالون.
- تتجاهلني وكأن أمري لا يهمك؟
غمغم ممتعظاً وهو يترك المائدة.
وحان موعد العملية ولازمتها شقيقتها في هذا الظرف الحرج، فقد بلغ بها التمرد على حياتها الذروة، حاولت شقيقتها ولأكثر من مرة أن تثنيها بيد أن اليأس يحفر في أعماقها ندوباً لا تندمل، فخيانات مختار مطبوعة على جلده ورائحة النساء الرخيصات كانت تشمها باستمرار على ثيابه، وهي تحت هيمنة المخدر تدخل في قمقم الغياب لتستريح من ألم الذكرى وباستسلام العاجز الذي أنهكته الحياة فغامر حتى لو كان في المغامرة هلاكه.
تستغرقها محطات الانتظار في وجع مرير وأنين لا يبرح حتى طلوع الفجر، ذلك الوعي المزعج لولا المورفين يزحف في عروقها كل مساء ليسكت الألم، ولا أحد يخمن ما ستؤول إليه أحوال سامية، فالزوج غير مبالٍ لأن أي شيء باستثناء ذاته فهو هامش، الواجب الروتيني يقتضي أن يلازمها لبعض الوقت، لكن أختها ما انفكت تداريها في كل شوط من أشواط هذه الرحلة فلا يجد أي مبرر لبقائه.
طمأن الطبيب أختها:
- تحتاج إلى شهور طويلة كي تبرء الجروح ويلتئم الجلد.
وفي إحدى هفوات وعيها تستأذن الطبيب أن يبقيها في المشفى لأمد طويل حتى لو تضاعف الأجر..
ثم التفتت إلى شقيقتها الواقفة في جزع:
- أريد أن أصدمه بحقيقتي الجديدة.
وتمضي الشهور ببطء وتثاقل وهي تترقب على مضض المشهد الأخير لهيئة فتية، فالجلد ينكمش والجروح تلتئم والكدمات الداكنة تتلاشى عن وجهها المشدود بالتدريج، المرآة لا تفارقها، متوترة، تقلقها النتيجة، فآثار الورم والألوان المائلة إلى الأزرق والأسود تطغى على مضمون الملامح، لكن انبلاج النهار عن صورة مشرقة يحدث عندما تصر الخائلة على الجذب المستمر، المرآة توقظها هذا الصباح، شهقت، أوشكت أن تغوص في صورتها لفرط الدهشة، الجسد قد انصقل كما التمثال فينوس، مسدت بطنها الأهيف وخصرها المنحوت والصدر الناهد من وراء الثوب، طفرت دموع الفرح، إنها الآن آجمل من صباها، فالطلة فتية والفم مستدير لكنه متعطش إلى أحمر الشفاه، تدفق في ذاتها نبع أنثوي بعد سنين عجاف.. مازالت تحدق في المرآة تسألها:
- أهذه أنا؟ لا أصدق!.
رجعت إلى زوجها بعد انقطاع مقصود، فالدهشة المنتظرة هي ما كانت تخطط له حين اللقاء.
تهندمت في ثوب أصفر ينحسر على تقاطيع شابة ثلاثينية، تناهبتها عيون الخدم، التعابير المكتومة، الغمغمات المدهوشة تلتقطها الأذن المتطفلة في شغف.
(ياه ما أجملها، أهذه سيدتي سامية؟ لا أصدق لقد صغرت عشرون عاماً، إنها رائعة).
تنتشي سامية من رحيق الإطراء وقد سرى في عروقها كالمصل فانتعشت بالثقة.
أقبل زوجها بعد الظهر وفتح باب الحجرة، أبهرته المفاجأة، حبست أنفاسه.. وجدها مستلقية على السرير كحورية البحر، أغوته بنبرة مغناج:
- ها.. ما رأيك؟
اضطرب وكأنما شرارة أضرمت أسلاكه المهترئة فأيقظت فيها تيار كهرباء أضاء قلبه المعتم، تدفق الدم إلى عروقه فاحتقن، الرغبة المعتقلة في كهف الكهولة البارد تنتفض وتعربد في اضطراب لأول مرة.. صاح وهو يزدرد ريقه:
- في قمة الإثارة!.
استحوذته كعروس بنكهة صبية، امتلكته برغبة متعطشة واستثمرت جنونه المؤقت شهوراً حتى خبت الجذوة وعاد سيرته الأولى، بارداً، فاتراً، يستأنف غزواته خارج البيت.
إنها تحبه لكنه ذلك الحب المعلب في نطاق محدود وحيز ضيق، فتفكيرها ينحصر في إطار هذه العلبة، لو أنها انطلقت في فضاءات أوسع لكان ذكاؤها خلاقاًً في فنون الحب وطقوسه المتجددة، عادت إلى جراح التجميل ثانية تطلب منه بعض التغيير، فالشفتين قد نضب منهما الكولاجين، والخدين بحاجة إلى البوتكس، ورمم الجراح ما أفسدته شهور العسل، لترجع إلى زوجها بلون جديد وبغواية أشهى، فينكب على الصحن نهماً حتى يزهد فيه ويتململ.
استمرأت سامية لعبة التجميل فجاءت مرة أخرى ترجو الطبيب أن يحقن وجهها بالمزيد من البوتكس لتختفي بعض الغضون الناتئة، وطلبت منه أن يحفر في خديها غمازتين لتشبه المطربة (فافي) التي تدوخ زوجها كلما تمايلت في الفيديو كليبات الساخنة.
لكنها استنفذت ذخيرتها في ثلاثة شهور لترجع خجلة إلى الجراح!
- هل من بوتكس يا دكتور؟
لكنه اعترض هذه المرة لأن جلدها لم يعد صالحاً لجرعات أخرى من البوتكس وإلا خسرت تعابيرها الإنسانية وبدت كائن محنط.
- أنا آسف مدام سامية، لا أغامر بكِ.
لكن إدمانها الجنوني دفعها إلى البحث عن جراح تجميل آخر وفعلت عندما تصفحت عناوين العيادات وأسماء الأطباء في الصحف فوقعت على أحدهم لا يقل شهرة عن الجراح السابق.
هبت من فورها إلى العيادة وبحماس غير واع، استنطق الجراح طويتها بعينين خبيرتين وأدرك أنها كنز ثمين وجيب عامر.
طلبت البوتكس وتكبير الصدر، حينما سألها ما إذا سبق وأن أ جريت لها عملية من قبل أنكرت خشية أن يعترضها كما فعل الجراح قبله، كان يعرف بيد أنه استحمق عن عمد، فهذا النوع الساذج من النساء يمكن خداعهن بسهولة، ولهذا لن أتردد في تجميلها بالصورة التي تبهرها حتى تعود لي مرات ومرات، هكذا حدّث نفسه.
مزيداً من حقن البوتكس، وأضاف في احتيال انطلى عليها:
- لو طبعتِ شامة سوداء أسفل الشفة لكنتِ أكثر جاذبية!
والتقطت الطعم على الفور:
- فكرة رائعة دكتور سأفعل بالتأكيد!
والهوس يأخذها في متاهات نفسية تفقدها اتزانها وتسلبها الفكر والمنطق، أطلق عليها العاملون في العيادة (مدام بوتكس) إنهم يتوقعون إطلالتها كل شهر فيتغامزون بينهم هزءاً وسخرية.. الممرضات، الممرضون، الخدم، موظفات الاستقبال، النموذج القبيح للمرأة الغبية التي تستهجنها الذائقة الإنسانية السليمة.. لكنهم هذه المرة ارتعبوا وتدافعوا إلى حجرتها حينما سمعوا استغاثتها... دكتور.. دكتور.
هرولت الممرضة: إلحق بها يا دكتور.
اكتظت حجرتها.. تتلمس وجهها في ذعر والمرآة في يدها الأخرى:
- لقد تشوه وجهي يا دكتور، صرت في قمة البشاعة، وصدري أيضاً،، إنه أشبه بوسادة محشوة من جانب واحد.
وفي صراخ هيستيري:
- ماذا فعلت بي يا دكتور، لن أسكت، سأقاضيك، سأقاضي المشفى، إنها مجزرة، مذبحة.
أشار الدكتور بغمزة من عينه إلى الممرضتين فاحتضناها وهما يهدئا من روعها وأرقداها على السرير بينما جاءت الثالثة لتحقنها وهي تقاوم لكنهما أمسكتا ذراعيها بقوة كي تأخذ الحقنة لتهدأ وتنام.
وهكذا تترى..
محاولات جديدة للترميم باءت كلها بالفشل، ورجع لها في النهاية وعياً مكتئباً ونفس ممزقة وروح محطمة.. عرضها زوجها على طبيب نفسي وبعد أن أصغى إلى تفاصيل الحالة أجابه الطبيب:
- زوجتك بحاجة إلى جلسات علاج كثيرة لتشفى تماماً.
قال الزوج وهو في طريقه للانصراف وكأنما ينفض المسؤولية من يديه:
- افعل ما تراه مناسباً دكتور حتى لو اضطرت البقاء في المصحة!
وعندما انفرد الطبيب بسامية صارحها:
- مدام سامية أنتِ بحاجة إلى أكثر من عملية تجميل لكن هذه المرة في روحك وسأبذل جهداً كبيراً كي أصالحك على ذاتك من جديد.
تنهدت في أسى:
- أنا تحت أمرك يا دكتور!
منقول من موقع الكاتبه خوله القزويني