كان القطار ينطلق بسرعة 60 ميلا في الساعة عندما نهض هارابي ريبستون رجل الأعمال الناجح من مقعده، وسحب حقيبته من على الرف العلوي ، فألقى بها من النافذة .
لم يكن في تلك المقصورة غير راكب هو كراوثر الذي رفع عينيه من على كتابه عندما تنبّه لما جرى . بعدها تبادل الاثنان نظرة حادة ، وتابع كراوثر القراءة ، بينما عاد هارابي إلى مقعده وأخذ ينفث دخان سيجارته وقد تغير لون وجهه إثر الجهد الذي بذله . أثارت النظرة التي بادله إياها رفيق سفره قلقه الشديد ، فلم تحمل تلك النظرة أي أنفعال من أي نوع . لم تعكس نظرته أية دهشة أو تعجب ، ولا حتى أبسط شكل من أشكال الاهتمام ، وهو بلا شك أمر غريب . وإثر ذلك تنامى فضول هارابي ، فهو رجل أجتماعي مهذار ، وكان يرى بأن ما فعله يستوجب بلا شك استفسار أو دهشة تفضي إلى محادثة بين الاثنين . ولكن كراوثر لم يبدأ بأي حديث ، فلم يجعل لرفيق سفره فرصة شرح فعلته ، وهذا ما جعل الأخير يشعر بأنه بدا أحمق في تصرفه ذاك ، أو أن كراوثر استنتج بأن الحقيبة احتوت على جثة ، وسيخبر الشرطة حين وصول القطار فتنزل بهارابي شتى أنواع المذلة والمضاقية جراء تحقيقات الشرطة . حامت هذه الهواجس في ذهن هارابي حارمة إياه من المتعة والرضا اللذين كان يرمي إليهما .
أما كراوثر فقد مرّت به هو الآخر بعض الخواطر ، فعلى الرغم من أنه كان يتظاهر بالقراءة ، إلا أنه لم يستطع لذلك سبيلا . وبالرغم من الامبالاة التي اكتسى بها إلا أن منظر رجل محترم يقذف بحقيبة من نافذة قطار يسير بتلك السرعة أثار دهشته كثيرا . قد يكون الرجل ينتظر منه ردة فعل شديدة الانفعال ، وبهذا يكون كراوثر قد أحسن صنعا حين يستجب . وحتى وإن الأمر لا يتعدى كونه مزحة اعتبر كراوثر ذلك انتهاكا غير مبرر لخصوصيته . يبدو الأمر أشبه بمن يفجر بالونا قرب أذنيه حتى يقفز من المفاجأة والفزع . في الحقيقة ، لم يكن ليقفز ، أو ليفعل شيئا من ذلك ، وإذا كان الرجل يعتقد بأن القذف بحقيبة من النافذة سيمنحه قدراً من الأهمية ، فهو مخطئ في ظنه .
وفي هذه اللحظة وصل هارابي إلى درجة من الغيظ لا يستطيع فيها إلا أن يتحدث أو أن ينفجر . ألا وقد فضل الخيار الأول فقد بادر رفيقه قائلاً(( معذرة يا سيدي ، ولكن في الحقيقة أنت تثير دهشتي )) . رفع كراوثر وجهه فكشف عن عينٍ كسولة ليس بها أي بريق اهتمام وقال : (( أثير دهشتك ؟ وهل تثير القراءة في القطار دهشتك ؟)) . فرد هارابي : (( كلا كلا ، لم أقصد القراءة . ما يدهشني هو أنك لم تندهش عندما ألقيت بحقيبتي من النافذة )) . قال كراوثر : (( حقا ؟ أيدهشك ذلك ؟ اسمح لي أن أقول لك بأن من السهل إدهاشك )) . فقال هارابي : (( لا أعرف ، ولكن في الحقيقة وبكل تأكيد كان المشهد غريبا . إنني لأراهن على أنك لم تشاهد في حياتك كله رجلاً يقذف بحقيبنه من نافذة قطار يتحرك )) . فكر كراوثر قليلاً ثم أجاب : (( صحيح .. لم أر ذلك من قبل . ولكن ماذا في ذلك ؟ لو أن المرء سمح لنفسه بأن يدهش لكل شيء مهما كان تافها ، ستتحول حياته كلها إلى سلسلة من الدهشات التافهة )) . أثار ذلك حفيظة هارابي فقال : (( أوتظن أن القذف بحقيبة من نافذة قطار أمر تافه ؟ )) . فأجاب كراوثر : (( بكل تأكيد )) وبحثت عيناه عن كتابه مجدداً. بعد لحظةٍ جاءه صوت هرابي في غضب لا يخيفه : (( هلا أخبرتني ما الذي قد يكون مهماً بالنسبة إليك إذن ؟)) فهز كراوثر كتفيه وقال : (( ربما كنت سأعتبر الأمر مهما لو أ، الحقيبة كانت حقيبتي )) .
- آها ، إذن فأنت تعترف بأنك أكثر أهمية مني .
فرد كراوثر بهدوء : (( لا أخالني ذكرت نفسي ، ولكنني بكل تأكيد أعتبر حقيبتي أكثر أهمية من حقيبتك ، وعندما أقول ذلك لا أتحث عن جودة الحقيبتين ، ولكن الحقيقة هي أنني أنا أنا ، أما أنت فرجل غريب )) .
- أولا تثير شؤون الغرباء اهتمامك ؟
- فقط إن كانت تتعدى على شؤوني.
- حسناً، أكان عليء إذن أن أتوقع بأنني حين ألقي بحقيبتي من النافذة ألا يثير ذلك أي تعد عل ...
فقال كراوثر ببرود (( أبداً...أبداً )).
- إنما يكشف ذلك عن حثيقة أن الناس فيما يعتقدن مذاهب . لو أنك قذفت بحقيبتك من النافذة لكنت استشطت فضولاً لمعرفة السبب.
فرد كراوثر بلا مبالاه : (( أرى بأنك تتحرق شوقا ً لتخبرني لماذا فعلت أنت ذلك )) .
- ليس إذا لم يكن الأمر يهمك ، رغم أنني أعتقد بأنه من الصعوبة ألا يثير ذلك اهتمام أي شخص .
ران الصمت لحظات ولم يرد كراوثر ، بل على العكس أبدى كل اهتمامه بقراءة كتابه . وحتى يقطع هارابي ذلك ، استلقى على مقعده وانطلق يقول : ( حقيقة الأمر أنني منذ ساعة ونصف الساعة هجرت بيتي وزوجتي ، وقررت البدء في حياة جديدة . وقد قذفت بالحقيبة لأنني اكتشفت بأن ما بها من أغراض قد يذكرني بما مضى . وأنا الآن في حاجه لأن أنسى كل ما مضى . أما الأمر الغريب فعلا ، فهو أنني متزوج منذ إحدى وعشرين سنة ، والآن أبدأ حياة جديدة . قد يبدو لك هذا الأمر شديد الغرابة ) . فقال كراوثر : ( على العكس ، فهو أمر طبيعي جدا) . صعق هارابي لسماع ذلك فقال : (( طبيعي ؟ تعتبر ذلك طبيعياً؟ إنك تثير دهشتي )) .
- يبدو لي أنك رجل مستسلم للدهشة .
- وانت تفاخر بأن لا شيء يثير دهشتك .
- لا أبداً ، ولكن أرى بأننا نختلف فيما يدهشنا . تقول لي بأنك متزوج منذ إحدى وعشرين سنة وتتوقع مني أن أستغرب هجرك زوجتك . ولكنني لا أرى في ذلك أية غرابة . ما يثير دهشتي فعلا هو أنك أطلت كثيراً إلى أن اتخذت القرار .
فكر هارابي للحظة ثم قال : (( أفهم من ذلك أنك أنت غير متزوج )).
- ليس الآن .
- ليس الآن ؟ تقصد أنك كنت متزوجاً ثم هجرت زوجتك ؟
- ليس بالظبط ، فالهجر يتضمن هجر البيت ، وهذا ما لا أفكر فيه مطلقاً لأنني أعشق بيتي . منزل رائع ساحر ، وحديقة خلابة ، وأيام بديعة أقضيها هناك وحدي .
- إذن تقصد أنك طلقت زوجتك ؟
- لا لا ، فذلك يجر الكثير من المتاعب والأسى .
فسأل هارابي والفضول يستخفه : (( إذن ماذا ؟ ما الذي فعلته ؟ )) .
لوح كراوثر بيديه في الهواء وقال : (( هناك طرقٌ أخرى ، طرقٌ أسهل )) .
- أحب أن أعرفها .
- لا أظن بأن طريقتي بالذات ستلائمك .
هنا كان هارابي يشتعل ويشتعل فضولاً من رأسه حتى أخمص قدميه فقال : ( ولكن لماذا ؟ )
- لماذا؟ إن طريقتي تتطلب .. كيف أشرح لك ؟ .. تكتماً، وبراعة ، والكثير من التخطيط الدقيق .
- وهل تعتقد أنني أفتقر إلى ذلك كله ؟
- في الواقع ، ليس التكتم من خصالك ، ورغبتك الواضحة في إثارة دهشة الآخرين ... لو أنك اتبعت طريقتي ، ستجعلك في وضع لا يحمد عقباه .
- إنك تثير اهتمامي كثيرا ً جداً جداً . والآن أرجوك قل لي ماذا فعلت .
بدا كراوثر متردداً ثم اتخذ قراره بالتحدث : ( إذا قلت لك ، لا أريدك أن تتهمني بأنني أستهدف إثارة دهشتك . لم تكن لي أدنى رغبة قط في إثارة دهشة الآخرين . ولاحظ من فضلك أنني لا أفرض هذه المعلومات عليك . لو لم تتحدث معي ، لكنا أكملن رحلتنا بصمت . لدي كتاب هنا يثير اهتمامي كثيراً ، ولو لم تجرني إلى هذه المحادثة ... ) قاطعه هارابي الذي وصل به الأمر وكأنه يقف على جمرٍ من فضول : (( حسناً حسناً ، أعترف بذلك . أعترف به كله . وأعدك بأنني سأبذل قصارى جهدي ألا أظهر أي نوعٍ من الدهشة )) .
- حسنا ً . ما فعلته بكل بساطة ، واعذرني إن كان الأمر يبدو لك مثيراً ، وتذكر أرجوك أنني سأستاء من أي مظهر دهشة يبدو عليك .
كنت أقول بأنني وبكل بساطة قتلت زوجتي .
نجح هارابي في إخفاء أي ملامح انفعاليه قد تظهر على وجهه .
صحيح أنه أجفل قليلاً وشحب لونه ، إلا أنه أسترد حالته الطبيعية في لحظات .
- شكراً لك . واسمح لي أن أبدي تقديري لصراحتك . في الحقيقة إنك تغريني لأن أكون صريحاً معك أيضاً . اسمح لي أن أعترف إذن بأنني في حقيقة الأمر لم أهجر زوجتي ، لأنني وبكل بساطة غير متزوج . أعمل في زراعة الخضروات على نطاق واسع ، وأقوم بزيارة لندن أسبوعياً لإنجاز أعمالي . وفيما يتعلق بالحقيبة ، فلدي أصدقاء يقع منزلهم قبل أميال قليلة من هنا ، وفي كل أسبوع أحشو حقيبة قديمة – كما لاحظت – بالخضروات ، وآخذها معي في القطار ، ثم أقذف بها عندما يمر القطار قرب منزل أصدقائي . تتدحرج الحقيبة إلى أن تصل قرب سياج منزلهم . هي بالفعل طريقة بدائية ، ولكنها توفر عليّ رسوم البريد ، ولا يمكن أن تتصور كيف أنها تخلق محادثات مسلية مع رفقاء سفري في القطار . وأنت ، لا تؤاخذني ، لست غيرهم .
قصة : مارتن آرمسترونغ
ترجمة : أحمد حسن المعيني ( طالب في جامعة السلطان قابوس ( سابقا) )
لم يكن في تلك المقصورة غير راكب هو كراوثر الذي رفع عينيه من على كتابه عندما تنبّه لما جرى . بعدها تبادل الاثنان نظرة حادة ، وتابع كراوثر القراءة ، بينما عاد هارابي إلى مقعده وأخذ ينفث دخان سيجارته وقد تغير لون وجهه إثر الجهد الذي بذله . أثارت النظرة التي بادله إياها رفيق سفره قلقه الشديد ، فلم تحمل تلك النظرة أي أنفعال من أي نوع . لم تعكس نظرته أية دهشة أو تعجب ، ولا حتى أبسط شكل من أشكال الاهتمام ، وهو بلا شك أمر غريب . وإثر ذلك تنامى فضول هارابي ، فهو رجل أجتماعي مهذار ، وكان يرى بأن ما فعله يستوجب بلا شك استفسار أو دهشة تفضي إلى محادثة بين الاثنين . ولكن كراوثر لم يبدأ بأي حديث ، فلم يجعل لرفيق سفره فرصة شرح فعلته ، وهذا ما جعل الأخير يشعر بأنه بدا أحمق في تصرفه ذاك ، أو أن كراوثر استنتج بأن الحقيبة احتوت على جثة ، وسيخبر الشرطة حين وصول القطار فتنزل بهارابي شتى أنواع المذلة والمضاقية جراء تحقيقات الشرطة . حامت هذه الهواجس في ذهن هارابي حارمة إياه من المتعة والرضا اللذين كان يرمي إليهما .
أما كراوثر فقد مرّت به هو الآخر بعض الخواطر ، فعلى الرغم من أنه كان يتظاهر بالقراءة ، إلا أنه لم يستطع لذلك سبيلا . وبالرغم من الامبالاة التي اكتسى بها إلا أن منظر رجل محترم يقذف بحقيبة من نافذة قطار يسير بتلك السرعة أثار دهشته كثيرا . قد يكون الرجل ينتظر منه ردة فعل شديدة الانفعال ، وبهذا يكون كراوثر قد أحسن صنعا حين يستجب . وحتى وإن الأمر لا يتعدى كونه مزحة اعتبر كراوثر ذلك انتهاكا غير مبرر لخصوصيته . يبدو الأمر أشبه بمن يفجر بالونا قرب أذنيه حتى يقفز من المفاجأة والفزع . في الحقيقة ، لم يكن ليقفز ، أو ليفعل شيئا من ذلك ، وإذا كان الرجل يعتقد بأن القذف بحقيبة من النافذة سيمنحه قدراً من الأهمية ، فهو مخطئ في ظنه .
وفي هذه اللحظة وصل هارابي إلى درجة من الغيظ لا يستطيع فيها إلا أن يتحدث أو أن ينفجر . ألا وقد فضل الخيار الأول فقد بادر رفيقه قائلاً(( معذرة يا سيدي ، ولكن في الحقيقة أنت تثير دهشتي )) . رفع كراوثر وجهه فكشف عن عينٍ كسولة ليس بها أي بريق اهتمام وقال : (( أثير دهشتك ؟ وهل تثير القراءة في القطار دهشتك ؟)) . فرد هارابي : (( كلا كلا ، لم أقصد القراءة . ما يدهشني هو أنك لم تندهش عندما ألقيت بحقيبتي من النافذة )) . قال كراوثر : (( حقا ؟ أيدهشك ذلك ؟ اسمح لي أن أقول لك بأن من السهل إدهاشك )) . فقال هارابي : (( لا أعرف ، ولكن في الحقيقة وبكل تأكيد كان المشهد غريبا . إنني لأراهن على أنك لم تشاهد في حياتك كله رجلاً يقذف بحقيبنه من نافذة قطار يتحرك )) . فكر كراوثر قليلاً ثم أجاب : (( صحيح .. لم أر ذلك من قبل . ولكن ماذا في ذلك ؟ لو أن المرء سمح لنفسه بأن يدهش لكل شيء مهما كان تافها ، ستتحول حياته كلها إلى سلسلة من الدهشات التافهة )) . أثار ذلك حفيظة هارابي فقال : (( أوتظن أن القذف بحقيبة من نافذة قطار أمر تافه ؟ )) . فأجاب كراوثر : (( بكل تأكيد )) وبحثت عيناه عن كتابه مجدداً. بعد لحظةٍ جاءه صوت هرابي في غضب لا يخيفه : (( هلا أخبرتني ما الذي قد يكون مهماً بالنسبة إليك إذن ؟)) فهز كراوثر كتفيه وقال : (( ربما كنت سأعتبر الأمر مهما لو أ، الحقيبة كانت حقيبتي )) .
- آها ، إذن فأنت تعترف بأنك أكثر أهمية مني .
فرد كراوثر بهدوء : (( لا أخالني ذكرت نفسي ، ولكنني بكل تأكيد أعتبر حقيبتي أكثر أهمية من حقيبتك ، وعندما أقول ذلك لا أتحث عن جودة الحقيبتين ، ولكن الحقيقة هي أنني أنا أنا ، أما أنت فرجل غريب )) .
- أولا تثير شؤون الغرباء اهتمامك ؟
- فقط إن كانت تتعدى على شؤوني.
- حسناً، أكان عليء إذن أن أتوقع بأنني حين ألقي بحقيبتي من النافذة ألا يثير ذلك أي تعد عل ...
فقال كراوثر ببرود (( أبداً...أبداً )).
- إنما يكشف ذلك عن حثيقة أن الناس فيما يعتقدن مذاهب . لو أنك قذفت بحقيبتك من النافذة لكنت استشطت فضولاً لمعرفة السبب.
فرد كراوثر بلا مبالاه : (( أرى بأنك تتحرق شوقا ً لتخبرني لماذا فعلت أنت ذلك )) .
- ليس إذا لم يكن الأمر يهمك ، رغم أنني أعتقد بأنه من الصعوبة ألا يثير ذلك اهتمام أي شخص .
ران الصمت لحظات ولم يرد كراوثر ، بل على العكس أبدى كل اهتمامه بقراءة كتابه . وحتى يقطع هارابي ذلك ، استلقى على مقعده وانطلق يقول : ( حقيقة الأمر أنني منذ ساعة ونصف الساعة هجرت بيتي وزوجتي ، وقررت البدء في حياة جديدة . وقد قذفت بالحقيبة لأنني اكتشفت بأن ما بها من أغراض قد يذكرني بما مضى . وأنا الآن في حاجه لأن أنسى كل ما مضى . أما الأمر الغريب فعلا ، فهو أنني متزوج منذ إحدى وعشرين سنة ، والآن أبدأ حياة جديدة . قد يبدو لك هذا الأمر شديد الغرابة ) . فقال كراوثر : ( على العكس ، فهو أمر طبيعي جدا) . صعق هارابي لسماع ذلك فقال : (( طبيعي ؟ تعتبر ذلك طبيعياً؟ إنك تثير دهشتي )) .
- يبدو لي أنك رجل مستسلم للدهشة .
- وانت تفاخر بأن لا شيء يثير دهشتك .
- لا أبداً ، ولكن أرى بأننا نختلف فيما يدهشنا . تقول لي بأنك متزوج منذ إحدى وعشرين سنة وتتوقع مني أن أستغرب هجرك زوجتك . ولكنني لا أرى في ذلك أية غرابة . ما يثير دهشتي فعلا هو أنك أطلت كثيراً إلى أن اتخذت القرار .
فكر هارابي للحظة ثم قال : (( أفهم من ذلك أنك أنت غير متزوج )).
- ليس الآن .
- ليس الآن ؟ تقصد أنك كنت متزوجاً ثم هجرت زوجتك ؟
- ليس بالظبط ، فالهجر يتضمن هجر البيت ، وهذا ما لا أفكر فيه مطلقاً لأنني أعشق بيتي . منزل رائع ساحر ، وحديقة خلابة ، وأيام بديعة أقضيها هناك وحدي .
- إذن تقصد أنك طلقت زوجتك ؟
- لا لا ، فذلك يجر الكثير من المتاعب والأسى .
فسأل هارابي والفضول يستخفه : (( إذن ماذا ؟ ما الذي فعلته ؟ )) .
لوح كراوثر بيديه في الهواء وقال : (( هناك طرقٌ أخرى ، طرقٌ أسهل )) .
- أحب أن أعرفها .
- لا أظن بأن طريقتي بالذات ستلائمك .
هنا كان هارابي يشتعل ويشتعل فضولاً من رأسه حتى أخمص قدميه فقال : ( ولكن لماذا ؟ )
- لماذا؟ إن طريقتي تتطلب .. كيف أشرح لك ؟ .. تكتماً، وبراعة ، والكثير من التخطيط الدقيق .
- وهل تعتقد أنني أفتقر إلى ذلك كله ؟
- في الواقع ، ليس التكتم من خصالك ، ورغبتك الواضحة في إثارة دهشة الآخرين ... لو أنك اتبعت طريقتي ، ستجعلك في وضع لا يحمد عقباه .
- إنك تثير اهتمامي كثيرا ً جداً جداً . والآن أرجوك قل لي ماذا فعلت .
بدا كراوثر متردداً ثم اتخذ قراره بالتحدث : ( إذا قلت لك ، لا أريدك أن تتهمني بأنني أستهدف إثارة دهشتك . لم تكن لي أدنى رغبة قط في إثارة دهشة الآخرين . ولاحظ من فضلك أنني لا أفرض هذه المعلومات عليك . لو لم تتحدث معي ، لكنا أكملن رحلتنا بصمت . لدي كتاب هنا يثير اهتمامي كثيراً ، ولو لم تجرني إلى هذه المحادثة ... ) قاطعه هارابي الذي وصل به الأمر وكأنه يقف على جمرٍ من فضول : (( حسناً حسناً ، أعترف بذلك . أعترف به كله . وأعدك بأنني سأبذل قصارى جهدي ألا أظهر أي نوعٍ من الدهشة )) .
- حسنا ً . ما فعلته بكل بساطة ، واعذرني إن كان الأمر يبدو لك مثيراً ، وتذكر أرجوك أنني سأستاء من أي مظهر دهشة يبدو عليك .
كنت أقول بأنني وبكل بساطة قتلت زوجتي .
نجح هارابي في إخفاء أي ملامح انفعاليه قد تظهر على وجهه .
صحيح أنه أجفل قليلاً وشحب لونه ، إلا أنه أسترد حالته الطبيعية في لحظات .
- شكراً لك . واسمح لي أن أبدي تقديري لصراحتك . في الحقيقة إنك تغريني لأن أكون صريحاً معك أيضاً . اسمح لي أن أعترف إذن بأنني في حقيقة الأمر لم أهجر زوجتي ، لأنني وبكل بساطة غير متزوج . أعمل في زراعة الخضروات على نطاق واسع ، وأقوم بزيارة لندن أسبوعياً لإنجاز أعمالي . وفيما يتعلق بالحقيبة ، فلدي أصدقاء يقع منزلهم قبل أميال قليلة من هنا ، وفي كل أسبوع أحشو حقيبة قديمة – كما لاحظت – بالخضروات ، وآخذها معي في القطار ، ثم أقذف بها عندما يمر القطار قرب منزل أصدقائي . تتدحرج الحقيبة إلى أن تصل قرب سياج منزلهم . هي بالفعل طريقة بدائية ، ولكنها توفر عليّ رسوم البريد ، ولا يمكن أن تتصور كيف أنها تخلق محادثات مسلية مع رفقاء سفري في القطار . وأنت ، لا تؤاخذني ، لست غيرهم .
قصة : مارتن آرمسترونغ
ترجمة : أحمد حسن المعيني ( طالب في جامعة السلطان قابوس ( سابقا) )