الليلة الأخيرة

    • الليلة الأخيرة

      الليلة الأخيرة

      قصة: طارق البكري
      لا يوجد شيء مريح..
      المنضدة المهملة في ركن جانبي تلقي على المكان مزيداً من الغموض والتحدي..
      وهذا الكرسي البني يجعلني أتمنى لو فكرت ألف مرة قبل أن أقرر المجيء إلى هنا.
      وحدي أنا مقابل (شاشة التلفزيون) الافتراضية، استلقي على فراش "وثير" لا يشعرني بالراحة أبداً..
      رفعت الستائر ثم أسدلتها.. مرات ومرات.. الطريق مهجورة كأنها مسكونة بالأشباح، لكني أعتقد أن الأشباح نفسها هجرت الطريق وسكنت طرقاً مختلفة..
      لم يسبق لي أن مررت بتجربة مماثلة.. وقد يكون من الغباء أن تمر هذه التجربة دون أن أدونها على الحائط.. لعل الأمر يستدعي التريث.. لست أفهم سبب كل هذا العجلة.. لم يكن ملائماً ما حدث.. الأشياء من حولي تعترض، لكنها في النهاية لا تملك إلا أن تستسلم، وهي في الحقيقة لا تستسلم، لأن الأمر أشد وطأة من الاستسلام نفسه.
      ساعة واحدة وتغيب الشمس.. رغم أني لم أنتبه أساساً إلى أن الشمس قد أشرقت.. فكيف تعيش الشمس على مغربها..
      الأشياء من حولي ترتجف.. تذوب مثل قطعة سكر في كوب ماء..
      نفسي ليست مشتاقة إلا إلى (لفافة سجائر) ودخانها الأبيض..
      شاب آسيوي يريد الدخول لتنظيف الغرفة.. وهل هذه غرفة.. ثمَّ من قال له إني أريد أن أنظفها.. أن أمحو عنها كل الذكرى.. فأخفيت عنه شعرتين صغيرتين.. وقعتا أرضاً كيلا تمتصهما آلة التنظيف..
      أشيائي الصغيرة تملأ المكان.. مثل تلك الشجرة العملاقة أمام باب المبنى.. التي تنتصب بفخر.. فهي لم تكن سوى بذرة جافة لو ضربها حجر لانفلقت.. أمّا اليوم فلا تهزها ريح.
      هي أقوى مني بكثير.. لو صارعت جذعها لصرعني.. فهو أسمن وأشد..
      أنهكني الألم وأرهقتني الوحدة.. فيما تبدو ثمراتها أينع وأبلغ من كل الكلمات..
      سوف أبقي هذه الستائر مسدلة والأضواء مطفأة إلى أن يحين الموعد..
      جاري نزيل الغرفة المجاورة مزعج ربما.. تنتابه الكوابيس.. أنا لم أنم ساعة كاملة منذ أن سكنت هذه الغرفة.. يتحدث في منامه لغة لا أفهمها.. يصلني صوته المفزع.. لكنه لا يزعجني.. فهو أنيس وحدتي من وراء الأبواب الموصدة على الدوام..
      أتخايل في وحدتي أشياء وأشياء.. وأنا على سريري (الوثير) أو في الحمام (المثير). بعد أن نسيت شكل الشمس وتدوير القمر.. ونسائم الربيع وزخات المطر..
      كأني قضيت نصف عمري في هذا المكان.. هنا حيث تولد الحكايا كل يوم.. ولا تنتهي.. أجلس على هذا الكرسي البني.. أصلب نفسي عليه وأدفن قلبي فيه..
      يفهمني الكرسي وأفهمه.. اخترته من بين كل كراسي الأحلام لأختلي به وأتوسده..
      على الحائط رسمان.. وجه يضحك.. أنفه حمامة.. ووجه آخر كئيب، أنفه عصا..
      بين الرسمين تآلف ووئام، رغم ما بينهما من اختلاف وقلة انسجام.. التقيا معاً على جدار واحد.. لم أرسمهما أنا.. ولا النزيل الذي قبلي.. ربما جاءا مع الجدار.. وسكنا المكان مثلي رغماً عنهما.. ليصلبا على الجدار كما أن مصلوب على الكرسي..
      أحد الوجهين مستاء ومتعاطف مع كآبتي.. والثاني في عينيه حزن ومؤاساة.. لكنه يبستم لي ليمنحني الأمل..
      جدران الغرفة مثل الأحلام.. لكني يئست منها.. وهذه النافذة التي رسمتها على الحائط لا تطل إلا على الأشياء التي لا أتمناها.. وكل يوم هي في شأن.
      لا أدري هل كان سجاني يريد أن يسعدني أم يزيدني ألماً عندما أحضر لي كل هذه الألوان لأرسم بها على حوائط سجني.. ألم يدر بأن الرسم على الجرح يزيده إيلاماً..
      كأنما كان ينقصني اللون الأحمر.. فأكثر منه.. ليذكرني بأنَّ غداً يوم رحيلي عن هذا المكان..
      وأني سأهجر الغرفة التي سكنتها زمناً مملاً.. أشطب الوجوه بعد رسمها.. ثم أعود إلى الكرسي البني لأحضنه أو يحتضنني.. لست أدري.
      غرفتي هذه ضيقة.. أضيق من جحر فأر... وأخشن من عش عصفور.. وأي عصفور أنا.. وغداً موعد رحيلي.. فلن يبقى لي أثر.. غير تلك الشعرتين، ولن تدمع عين..
      فترة طويلة قضيتها في هذا السجن الانفرادي أنتظر المصير..
      لم يأت جلادي إلا أمس.. ولمرة واحدة.. عد الدقائق ورحل.. جاء يتفقد ذبيحته.. ويقيس حلقة عنقي.. يتأكد أي عقد الحبال أوثق، فقتلني قبل أن يقتلني..
      غداً أرحل.. سواء أكنت مذنباً أم لا.. فهل ذبحي يوازي جرمي..
      ليت بإمكاني أن أطمس كل معالم زنزانتي.. وأمحو كل أثر لي.. لكنني لا أملك عود ثقاب.. ولو ملكته لأشعلت به سيجارة..
      لكنهم لا يسمحون للسجناء أن يحملوا عيدان الثقاب كيلا يشعلوا النار في السجن.. مع أنني مشتعل بلا عيدان ثقاب.. والنار تتصاعد من داخلي.. وتحرقني.. في ليلتي الأخيرة..
      فغدا أغادر غرفتي.. وتنتهي حكايتي في غرفة أخرى..
      حيث ينفذ الجلاد حكمه.. في غرفة الإعدام.
      دبي3/4/2011