صفحة من مذكرات عاشق
هذه الصفحة من المذكرات واقعية هذه المرة وليست مذكرات من نسج الخيال , أعرف أبطالها وتعايشت مع واقعها , فإستأذت بطل المذكرة في كتابت مذكرته , ولم أضعها بين أيديكم قبل استئذانه .
هذه الصفحة من المذكرات واقعية هذه المرة وليست مذكرات من نسج الخيال , أعرف أبطالها وتعايشت مع واقعها , فإستأذت بطل المذكرة في كتابت مذكرته , ولم أضعها بين أيديكم قبل استئذانه .
صفحة من مذكرات عاشق
كنت فيُ الثانية عشر من عمري وكانت الساعة تعلن الثانية عشر ظهراً عندما رأيتها لأول مرة في فستانها الأصفر, كان منزلنا يكتظ بالناس ذلك اليوم رجلاً ونساء , وكنتُ كبقية الأطفال ألعب مع من يلعبون , وألهوا مع من يلهون إلى أن توقَفَتْ في فناء منزلنا الواسع ثلاث سيارات , كانت الوجوه غريبة بالنسبة لي فلم أعرف من الحاضرين أحد , نزلت من إحدى السيارات فاتنتين جميلتين الكبرى ترتدي فستاناً أزرق , والصغرى ترتدي فستان أصفر , وما إن وقفت فاتنتي على الأرض , ووقع نظري عليها , حتى خفق القلب خفقات ما أحسست بمثلها من قبل فتوقفت عن اللعب وأنا أتأمل وجهها الصغير الذي يشع براءة ونوراً حتى توارت عن الأنظار بين صفوف النساء , أحسَ أحد رفاقي بالأمر ( وكان يكبرني سناً ) , فشجعني على التقدم لها قبل أن يسبقني إليها غيري , وقال لي إن الجميلات سُرعان ما يُخطبن وهنّ صغيرات , جمعت قواي حينها وقررت أن أشق طريقاً لأنظر إليها مجدداً , ولكن العائق الكبير أنها دخلت إلى قاعة جلوس النساء في الطابق العلوي , ومحظور علينا نحن الفتية أن نصل إلى هناك , ولكن شعوري المتدفق كان يسبقني , فلم أبالي حينها ولم أرى نفسي إلا مندفعاً إليها , وفعلاً رأيتها ثانية وهي تلعب مع الفتيات , لا تدري بأن هناك عينٌ تراقبها , وتكاد تفترسها حباً , كان منظرها البري يسارع خفقات القلب التي سارت تتسابق في صدري من أجلها , بقيت هكذا بلا حراك فترة من الزمن , لم أشعر إلا وأمي توبخني على وجودي بين الفتيات , فسارعت بالنزول وعيني وقلبي معلق معها هناك في ذلك المكان , وعرفت من يومها ما يُسمى بالحب من النظرة الأولى رغم حداثةِ سني .
ذهب الناس وانتهت الوليمة , ولم أخرج منها بشئ بل على العكس ذهبت الفتاة وسلبت قلبي و عقلي و تفكيري , وتُهتُ في نفسي ثلاثة أيام بأكملها , مرت عليّ كعمر يأبى الرحيل , ومن يومها عرفت معنى هموم الحب واضطرابات النفس من أجله , ولكن قلبي الصغير لم يتحمل أكثر من ذلك , فتحصنت بالشجاعة , وتوجهت إلى أمي وطرحت عليها كماً من الأسئلة , كان منا :
- أمي من هؤلاء الناس الغرباء الذين زارونا يوم الخميس الماضي ؟
- قالت أمي : ضيوف جاءوا يطلبون القرب من أختك .
( فرحت بذلك كثيراً لأنني أدركت أني سأرى محبوبتي مجدداً إذا ما تمت الموافقة على زواج أختي من إبنهم ) .
- فسألت أمي : من تلك الفتاة التي كانت معهم ؟
- قالت أمي وهي تبتسم : الصغرى أخت العريس , والأخرى بنت عمه .
- قلت لأمي : من اسمها ؟
- أجابت : فلانة
- قلت : أقصد الصغرى .
- قالت أمي : الفتاتين بنفس الإسم , ما بالك تسأل عنها ؟ هل أعجبتك ؟ ( قالت أمي وهي تتبسم ) .
- قلت بشجاعة : نعم أريدها لنفسي .
ضحكت أمي وقالت : إنها صغيرة يابني فهي في الثامنة من عمرها , وأنت كذلك صغير , عندما تكبر سوف أخطبها لك .
ذهبت عن أمي وأنا أقول لها : لا تنسي ذلك يا أمي لا تنسي أبداً , فقلت في نفسي عندما يتحقق ذلك سأكون أسعد مخلوق على وجه الأرض , فرحت بذلك فرحاً شديداً وتوالت زيارات الأحبة بعد فترة من الزمن , وكنت أرقب حبيبتي من ثقبٍ ضيقٍ بالباب في كل مرة , إلى أن أتى يوم الزفاف , وسافرت حبيبتي مع من سافر , فلم تكن من نفس البلد الذي أعيش به , سافرت وأخذت معها قلبي الصغير , سافرت ولم تترك لي إلا الذكريات , الذكريات الصامته إلا من آخر زيارة – زيارة الوداع – التي بها صافحت فاتنتي الصغيرة وودعتها بحرارة ( قلت لها: مع السلامة , وبنفس مرتبكة وأطراف ترتعش ), وسافرت حبيبتي وهكذا كان لابد لكل شئ من نهاية .
مرت السنوات وطال غياب حبيبتي عن ناظري بينما سكن هواها قلبي إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه عائلتي السفر إلى حيث تعيش أختي لزيارتها بعد أن رزقها الله بمولودة جميلة , فعاودني الأمل مجدداً لرؤية حبيبتي الصغيرة , ولكنني لم أرها إلا وأنا أركب السيارة مودعاً ذلك المكان , رأيتها بنظرة شوقٍ كبيرة, وكاد قلبي الصغير أن يخرج من مكانه , كنت أحس بالإرتباك كلما رأيتها أو أحسست بقربي منها ,رأيتها هذه المرة وكانت قد كبرت قليلاً وزادت حسناً و جمالاً , فخرجت بنتيجة من هذه الزيارة القصيرة , وهو إنني بمقدوري أن أرى محبوبتي كلما أتيت لزيارة أختي , وهذا ما حصل فعلاً , ولكن لم يكن بإمكاني تكرار مثل تلك الزيارة بإستمرار نظراً للمسافة الكبيرة التي بيننا , ومرت الأيام حتى وصلت للمرحلة الثانوية , حينما سمعت أن أمي وأم الفتاة إتفقتا سراً على خطبتنا ( ولكن هيهات أن تختفي مثل هذه الأسرار ) , سمعت ذلك وأحسست أنني ملكت الكون , فعاجلني جرس الهاتف يومها , وإذا على الجانب الآخر كانت أحد قريباتي تسألني عن رأيي بأمر الخطبة , فأخبرتها كيف إني إنني غير مصدق لما سمعت فأنا مجنون بحبها وإني أعشقها منذ سنواتٍ طويلة , وعرفت منها أن فتاتي هي من طلبت منها أن تسألني عن ذلك , ولكنني عندما سألتها عن رأيها , قالت قريبتي : هي لا تعرفك أصلاً , وأول مرة تسمع بإسمك فما كانت تعلم أن في العائلة شخص بهذا الإسم . فصعقت من ذلك , كنت آمل أن تبادلني حبيبتي نفس الشعور طيلة السنوات السابقة , فاستدرجت قريبتي قائلة : هذه خطيبتك ترغب في الحديث معك , وأخيراً سأسمع صوتها وتسمع صوتي , فكلمتها وسألتها عن حالها وفعلت هي كذلك , وأبدت سعادتها على تلك الخطبة لما سمعته عني بعد ذلك , وخرجنا من المكالمة بالإتفاق والموافقة على ما بنته الأمهات .
وبدأ الحلم يتحقق , وكبرت أحلامنا التي بنيناها سوياً , وكبر حبها في قلبي , مثلما كبر حبي في قلبها , فلم تمر علينا لحظة إلا ويسأل أحدنا عن الآخر ، لم تنقطع بيننا المكالمات , بل كننا ننتظر أقرب اللحظات من أجل أن يسمع كلاً منا صوت الآخر , ومرت السنوات حتى أنهيت دراستي , ودخلت نطاق العمل , طلبت من حبيبتي التقدم لها ولكنها طلبت مني التريث حتى تنهي هي أيضاً دراستها , فما كنت أملك إلا أن أكون طوع أمرها .
وأنهت حبيبتي دراستها ورفضت التوظيف خوفاً من أن يكون ذلك عائقاً يقف أمام زواجنا , فضحت بمستقبلها من أجل أن يلتحم مستقبلينا سوياً , فتقدمت من خطبتها بالشكل الرسمي , وكنت أنتظر بشغف المباركة , ولكن حدث ما لم أكن أحسبه , تجاهلتني حبيبتي , ولم ترد بالقبول , أو حتى بالرفض , طال الإنتظار وأنا أحترق من هول الصدمة عليّ , ومرت الأيام والشهور ولا إجابة , بل وكانت ترفض حتى مكالماتي التي كانت تنتظرها بشوق في أيامٍ خلت , تبدد كل شئ أمامي , وأحسست أن الموت حليفي , تحطمت نفسيتي , وساءت حالتي , وزاد الكرب بي , إعتقدت أن الأبواب غلقت أمامي , وأن قلبي قد تهشم مثلما يتهشم الزجاج , ليتني لم أرها , ليتها لم تكلمني , ليتها لم تصارحني بحبها , تمنيت كل ذلك حتى أني تمنيت أن ترفضني لا أن تتجاهلني , وكأن شيئاً لم يكن .
وبدأت أقطع طريق النسيان , وعرفت أن الحياة لا تتوقف فهي ماضية بالإحزان و أيقنت أن عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء , فالزمن يمضي والقافلة تسير , والأعمار تحصد , فقررت أن أعيش حياتي معتزلٍ الحب والحديث عن مغامرات العشاق , ونظرت إلى مستقبلي من الناحية العملية , وكنت أرد على من يسألني بشأن الزواج , إني قد تزوجت العمل , ولكن الإنسان لا يرسم كل شئ لنفسه ولأن قطار العمر يسير كان لابد لي من التفكير في الزواج والأبناء , وفعلاً قررت الزواج بعيداً عن مشاريع الحب , وبدأت رحلة البحث عن زوجة , وكان من معايير الزوجة التي أبتغيها : أن تكون غريبة عني , لم أرها من قبل , يُشهد لها بالخلق والدين والصلاح , ولم أشترط الجمال , فالجمال كان بين يدي ففر مني , ولكن كيف أصل لمثل تلك الفتاة الغريبة بنفسي دون الإستعانة بأحد ؟
فقررت زيارة المساجد , نعم المساجد , لا أبحث عن بنت ترتاد المساجد وإنما عن أكثر الشباب إرتياداً للمساجد حتى أقترن بعائلة شبابها أهل صلاح لذا فمن باب أولى أن تكون الفتيات أكثر صلاحاً , وفعلاً وبعد جهد أكثر من عام تعرفت على مجموعة شُبّان أشقاء قلبهم معلق بالمساجد , وبعد أن تقربت منهم أكثر , عمدت على تعريف أسرتينا ببعض , وفعلاً تم اختيار فتاة لي من تلك العائلة , وكانت خير البنات في تلك الأسرة , وتمت الخطبة , بيسر وسهولة وتوفيقٍ من الله .
وبعد أيام رن جرس الهاتف , فإذا بذلك الصوت الدافئ يبكي ويعاتب , ويتهمني بالخيانة , نعم إنها حبيبتي الأولى , وبعد أن أنهت هجومها عليّ قلت لها : لِمَ تلومينني الآن وقد تجاهلتـني فور خطبتي لك مباشرة , لِمَ تلومينني الآن وقد هجرتني أكثر من عام , فانقطعت أخبارك عني , وعرفت أن ذلك كان رفضاً خَجِلاً , فقالت لي : لا أنا لم أتجاهلك ولم أرفضك , كيف تقول بذلك وأنت تعلم مدى حبي لك ؟ كيف تشك في حبي لحظة ؟ كيف تقتل حُباً عاشَ سنين ؟ لِمَ لم تصبر ؟ لِمَ لم تضحي من أجلي ؟ لِمَ لم تنتظرني ؟ كيف هنت عليك أن تتخلى عني ؟ أنت قاسي القلب قاسي القلب , وأنا أكرهك أكرهك , فقلت لها : وهل لي أن أعرف ما الذي جرى ؟ وما الذي منعك من الرد حتى على مكالماتي ؟ قالت : لقد أصبت بمرض خطير قبل خطبتك بأيام , وكان الأمر سراً , وجاءتني أمي لتخفف عني وتبشرني بخطبتك لي , فبكيت يومها وقلت لها : هل تريدينا أن نغشهم أن نخدعهم , ونزوجهم من فتاة ربما لن يطول عمرها أو أن تعيش باقي عمرها مريضة , لا يا أمي , لا أقبل بذلك فحبيبي لا يستحق مني ذلك , ولكنني سأضحي من أجله , رفضت أمي كلامي وقالت : سنؤجل الرد عليهم حتى تشفي , ما رأيك ؟ فوافقتها على ذلك بل وفرحت به , لأن من شأن ذلك أن يحفظ حبيبي لي , لأني وأثقة من أنه سينتظرني , فكيف لا وهو من أحبني سنوات طويلة دون أن أشعر بوجوده , كنتُ واثقة من حبك لي وانتظارك إجابتي التي أنت على يقين منها , كان ما يشغلني أنني لا أستطيع أن أطمنك عليّ وأنت القلق على حالي وسكوتي الذي طال , كنت أعلم أنك تتعذب لأجلي و تتألم لأنك فاقدٌ حسي .
وخضعت لفترة علاج مكثفة وتبين بعد ذلك أن مرضي كان حميداً وقد شفيت منه تماماً بعد أكثر من عامٍ من العلاج , فجئت لأمي أخبرها بموافقتي على الخطبة , فبكت أمي وقالت لي بالحرف الواحد بعد أن أخذتني بحضنها : اليوم موعد خطبة حبيبك يا حبيبتي من فتاة فضلها عليك , صعقت وأغمي عليّ وأنا الآن أكلمك من المستشفى وأهنئك على الخطبة .
إنتهت المكالمة بهذا , وبدأت الحياة تُسْوَدُ في عيني فأنا بين نارين , نار حب عاش في قلبي سنين , ونار حب وليد أخذ يكبر في قلبي بإيمانٍ من جديد , فأحسست بتأنيب الضمير , وهول الأمر الذي حملتهُ حبيبتي الأولى , ولكن ما الذي كان عليّ فعله ؟! لم يكن امامي أي باب مفتوح فأدخله , أو مغلق فأطرقه , حتى أختي كانت تجهل سر صمتهم وتجاهلهم على الموضوع .
, ولكن كان لا بد من إتخاذ القرار , وإستخرت الله وتوكلت عليه واخترت مخطوبتي , التي بث الله حبها في قلبي وطغى على كل شئ بي دون أن أراها وكان ذلك من توفيق الله عليّ , وتيسر أمامي كل شئ , فتزوجت فإذا بزوجتي تحمل نفس صفات محبوبتي السابقة , بل وتفوقها في كل شئ , ومن كل ناحية , فأيقنت أن فضل الله عليّ كبير , وأن الله هو الذي إختار لي ولم أختر لنفسي , حب عاش لسنوات طويلة ما يلبث أن يموت أمام أول خطوات الحياة الجادة , وخطبة على نهج قويم وشرع عظيم تكلل بزواج مبارك بإذن الله , فبعد الزواج من هذه المرأة الصالحة حل الخير بي واستقرت نفسيتي , وأصبحت قريباً من ذاتي , عارفاً حدود أمري , مطيعاً لربي , مؤنساً لأسرتي الصغيرة , وها أنا ذا أب وزوج أهنأ بحياةٌ مستقرة و لله الحمد .
وفي الجانب الآخر لم تقف حياة الحبيبة السابقة بل هي اليوم زوجة وأماً تحيا حياة أظنها طيبة .
فهكذا كانت قصتي , فلا الحياة توقفت ولا الآمال تحطمت , والقافلة تسير .
ذهب الناس وانتهت الوليمة , ولم أخرج منها بشئ بل على العكس ذهبت الفتاة وسلبت قلبي و عقلي و تفكيري , وتُهتُ في نفسي ثلاثة أيام بأكملها , مرت عليّ كعمر يأبى الرحيل , ومن يومها عرفت معنى هموم الحب واضطرابات النفس من أجله , ولكن قلبي الصغير لم يتحمل أكثر من ذلك , فتحصنت بالشجاعة , وتوجهت إلى أمي وطرحت عليها كماً من الأسئلة , كان منا :
- أمي من هؤلاء الناس الغرباء الذين زارونا يوم الخميس الماضي ؟
- قالت أمي : ضيوف جاءوا يطلبون القرب من أختك .
( فرحت بذلك كثيراً لأنني أدركت أني سأرى محبوبتي مجدداً إذا ما تمت الموافقة على زواج أختي من إبنهم ) .
- فسألت أمي : من تلك الفتاة التي كانت معهم ؟
- قالت أمي وهي تبتسم : الصغرى أخت العريس , والأخرى بنت عمه .
- قلت لأمي : من اسمها ؟
- أجابت : فلانة
- قلت : أقصد الصغرى .
- قالت أمي : الفتاتين بنفس الإسم , ما بالك تسأل عنها ؟ هل أعجبتك ؟ ( قالت أمي وهي تتبسم ) .
- قلت بشجاعة : نعم أريدها لنفسي .
ضحكت أمي وقالت : إنها صغيرة يابني فهي في الثامنة من عمرها , وأنت كذلك صغير , عندما تكبر سوف أخطبها لك .
ذهبت عن أمي وأنا أقول لها : لا تنسي ذلك يا أمي لا تنسي أبداً , فقلت في نفسي عندما يتحقق ذلك سأكون أسعد مخلوق على وجه الأرض , فرحت بذلك فرحاً شديداً وتوالت زيارات الأحبة بعد فترة من الزمن , وكنت أرقب حبيبتي من ثقبٍ ضيقٍ بالباب في كل مرة , إلى أن أتى يوم الزفاف , وسافرت حبيبتي مع من سافر , فلم تكن من نفس البلد الذي أعيش به , سافرت وأخذت معها قلبي الصغير , سافرت ولم تترك لي إلا الذكريات , الذكريات الصامته إلا من آخر زيارة – زيارة الوداع – التي بها صافحت فاتنتي الصغيرة وودعتها بحرارة ( قلت لها: مع السلامة , وبنفس مرتبكة وأطراف ترتعش ), وسافرت حبيبتي وهكذا كان لابد لكل شئ من نهاية .
مرت السنوات وطال غياب حبيبتي عن ناظري بينما سكن هواها قلبي إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه عائلتي السفر إلى حيث تعيش أختي لزيارتها بعد أن رزقها الله بمولودة جميلة , فعاودني الأمل مجدداً لرؤية حبيبتي الصغيرة , ولكنني لم أرها إلا وأنا أركب السيارة مودعاً ذلك المكان , رأيتها بنظرة شوقٍ كبيرة, وكاد قلبي الصغير أن يخرج من مكانه , كنت أحس بالإرتباك كلما رأيتها أو أحسست بقربي منها ,رأيتها هذه المرة وكانت قد كبرت قليلاً وزادت حسناً و جمالاً , فخرجت بنتيجة من هذه الزيارة القصيرة , وهو إنني بمقدوري أن أرى محبوبتي كلما أتيت لزيارة أختي , وهذا ما حصل فعلاً , ولكن لم يكن بإمكاني تكرار مثل تلك الزيارة بإستمرار نظراً للمسافة الكبيرة التي بيننا , ومرت الأيام حتى وصلت للمرحلة الثانوية , حينما سمعت أن أمي وأم الفتاة إتفقتا سراً على خطبتنا ( ولكن هيهات أن تختفي مثل هذه الأسرار ) , سمعت ذلك وأحسست أنني ملكت الكون , فعاجلني جرس الهاتف يومها , وإذا على الجانب الآخر كانت أحد قريباتي تسألني عن رأيي بأمر الخطبة , فأخبرتها كيف إني إنني غير مصدق لما سمعت فأنا مجنون بحبها وإني أعشقها منذ سنواتٍ طويلة , وعرفت منها أن فتاتي هي من طلبت منها أن تسألني عن ذلك , ولكنني عندما سألتها عن رأيها , قالت قريبتي : هي لا تعرفك أصلاً , وأول مرة تسمع بإسمك فما كانت تعلم أن في العائلة شخص بهذا الإسم . فصعقت من ذلك , كنت آمل أن تبادلني حبيبتي نفس الشعور طيلة السنوات السابقة , فاستدرجت قريبتي قائلة : هذه خطيبتك ترغب في الحديث معك , وأخيراً سأسمع صوتها وتسمع صوتي , فكلمتها وسألتها عن حالها وفعلت هي كذلك , وأبدت سعادتها على تلك الخطبة لما سمعته عني بعد ذلك , وخرجنا من المكالمة بالإتفاق والموافقة على ما بنته الأمهات .
وبدأ الحلم يتحقق , وكبرت أحلامنا التي بنيناها سوياً , وكبر حبها في قلبي , مثلما كبر حبي في قلبها , فلم تمر علينا لحظة إلا ويسأل أحدنا عن الآخر ، لم تنقطع بيننا المكالمات , بل كننا ننتظر أقرب اللحظات من أجل أن يسمع كلاً منا صوت الآخر , ومرت السنوات حتى أنهيت دراستي , ودخلت نطاق العمل , طلبت من حبيبتي التقدم لها ولكنها طلبت مني التريث حتى تنهي هي أيضاً دراستها , فما كنت أملك إلا أن أكون طوع أمرها .
وأنهت حبيبتي دراستها ورفضت التوظيف خوفاً من أن يكون ذلك عائقاً يقف أمام زواجنا , فضحت بمستقبلها من أجل أن يلتحم مستقبلينا سوياً , فتقدمت من خطبتها بالشكل الرسمي , وكنت أنتظر بشغف المباركة , ولكن حدث ما لم أكن أحسبه , تجاهلتني حبيبتي , ولم ترد بالقبول , أو حتى بالرفض , طال الإنتظار وأنا أحترق من هول الصدمة عليّ , ومرت الأيام والشهور ولا إجابة , بل وكانت ترفض حتى مكالماتي التي كانت تنتظرها بشوق في أيامٍ خلت , تبدد كل شئ أمامي , وأحسست أن الموت حليفي , تحطمت نفسيتي , وساءت حالتي , وزاد الكرب بي , إعتقدت أن الأبواب غلقت أمامي , وأن قلبي قد تهشم مثلما يتهشم الزجاج , ليتني لم أرها , ليتها لم تكلمني , ليتها لم تصارحني بحبها , تمنيت كل ذلك حتى أني تمنيت أن ترفضني لا أن تتجاهلني , وكأن شيئاً لم يكن .
وبدأت أقطع طريق النسيان , وعرفت أن الحياة لا تتوقف فهي ماضية بالإحزان و أيقنت أن عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء , فالزمن يمضي والقافلة تسير , والأعمار تحصد , فقررت أن أعيش حياتي معتزلٍ الحب والحديث عن مغامرات العشاق , ونظرت إلى مستقبلي من الناحية العملية , وكنت أرد على من يسألني بشأن الزواج , إني قد تزوجت العمل , ولكن الإنسان لا يرسم كل شئ لنفسه ولأن قطار العمر يسير كان لابد لي من التفكير في الزواج والأبناء , وفعلاً قررت الزواج بعيداً عن مشاريع الحب , وبدأت رحلة البحث عن زوجة , وكان من معايير الزوجة التي أبتغيها : أن تكون غريبة عني , لم أرها من قبل , يُشهد لها بالخلق والدين والصلاح , ولم أشترط الجمال , فالجمال كان بين يدي ففر مني , ولكن كيف أصل لمثل تلك الفتاة الغريبة بنفسي دون الإستعانة بأحد ؟
فقررت زيارة المساجد , نعم المساجد , لا أبحث عن بنت ترتاد المساجد وإنما عن أكثر الشباب إرتياداً للمساجد حتى أقترن بعائلة شبابها أهل صلاح لذا فمن باب أولى أن تكون الفتيات أكثر صلاحاً , وفعلاً وبعد جهد أكثر من عام تعرفت على مجموعة شُبّان أشقاء قلبهم معلق بالمساجد , وبعد أن تقربت منهم أكثر , عمدت على تعريف أسرتينا ببعض , وفعلاً تم اختيار فتاة لي من تلك العائلة , وكانت خير البنات في تلك الأسرة , وتمت الخطبة , بيسر وسهولة وتوفيقٍ من الله .
وبعد أيام رن جرس الهاتف , فإذا بذلك الصوت الدافئ يبكي ويعاتب , ويتهمني بالخيانة , نعم إنها حبيبتي الأولى , وبعد أن أنهت هجومها عليّ قلت لها : لِمَ تلومينني الآن وقد تجاهلتـني فور خطبتي لك مباشرة , لِمَ تلومينني الآن وقد هجرتني أكثر من عام , فانقطعت أخبارك عني , وعرفت أن ذلك كان رفضاً خَجِلاً , فقالت لي : لا أنا لم أتجاهلك ولم أرفضك , كيف تقول بذلك وأنت تعلم مدى حبي لك ؟ كيف تشك في حبي لحظة ؟ كيف تقتل حُباً عاشَ سنين ؟ لِمَ لم تصبر ؟ لِمَ لم تضحي من أجلي ؟ لِمَ لم تنتظرني ؟ كيف هنت عليك أن تتخلى عني ؟ أنت قاسي القلب قاسي القلب , وأنا أكرهك أكرهك , فقلت لها : وهل لي أن أعرف ما الذي جرى ؟ وما الذي منعك من الرد حتى على مكالماتي ؟ قالت : لقد أصبت بمرض خطير قبل خطبتك بأيام , وكان الأمر سراً , وجاءتني أمي لتخفف عني وتبشرني بخطبتك لي , فبكيت يومها وقلت لها : هل تريدينا أن نغشهم أن نخدعهم , ونزوجهم من فتاة ربما لن يطول عمرها أو أن تعيش باقي عمرها مريضة , لا يا أمي , لا أقبل بذلك فحبيبي لا يستحق مني ذلك , ولكنني سأضحي من أجله , رفضت أمي كلامي وقالت : سنؤجل الرد عليهم حتى تشفي , ما رأيك ؟ فوافقتها على ذلك بل وفرحت به , لأن من شأن ذلك أن يحفظ حبيبي لي , لأني وأثقة من أنه سينتظرني , فكيف لا وهو من أحبني سنوات طويلة دون أن أشعر بوجوده , كنتُ واثقة من حبك لي وانتظارك إجابتي التي أنت على يقين منها , كان ما يشغلني أنني لا أستطيع أن أطمنك عليّ وأنت القلق على حالي وسكوتي الذي طال , كنت أعلم أنك تتعذب لأجلي و تتألم لأنك فاقدٌ حسي .
وخضعت لفترة علاج مكثفة وتبين بعد ذلك أن مرضي كان حميداً وقد شفيت منه تماماً بعد أكثر من عامٍ من العلاج , فجئت لأمي أخبرها بموافقتي على الخطبة , فبكت أمي وقالت لي بالحرف الواحد بعد أن أخذتني بحضنها : اليوم موعد خطبة حبيبك يا حبيبتي من فتاة فضلها عليك , صعقت وأغمي عليّ وأنا الآن أكلمك من المستشفى وأهنئك على الخطبة .
إنتهت المكالمة بهذا , وبدأت الحياة تُسْوَدُ في عيني فأنا بين نارين , نار حب عاش في قلبي سنين , ونار حب وليد أخذ يكبر في قلبي بإيمانٍ من جديد , فأحسست بتأنيب الضمير , وهول الأمر الذي حملتهُ حبيبتي الأولى , ولكن ما الذي كان عليّ فعله ؟! لم يكن امامي أي باب مفتوح فأدخله , أو مغلق فأطرقه , حتى أختي كانت تجهل سر صمتهم وتجاهلهم على الموضوع .
, ولكن كان لا بد من إتخاذ القرار , وإستخرت الله وتوكلت عليه واخترت مخطوبتي , التي بث الله حبها في قلبي وطغى على كل شئ بي دون أن أراها وكان ذلك من توفيق الله عليّ , وتيسر أمامي كل شئ , فتزوجت فإذا بزوجتي تحمل نفس صفات محبوبتي السابقة , بل وتفوقها في كل شئ , ومن كل ناحية , فأيقنت أن فضل الله عليّ كبير , وأن الله هو الذي إختار لي ولم أختر لنفسي , حب عاش لسنوات طويلة ما يلبث أن يموت أمام أول خطوات الحياة الجادة , وخطبة على نهج قويم وشرع عظيم تكلل بزواج مبارك بإذن الله , فبعد الزواج من هذه المرأة الصالحة حل الخير بي واستقرت نفسيتي , وأصبحت قريباً من ذاتي , عارفاً حدود أمري , مطيعاً لربي , مؤنساً لأسرتي الصغيرة , وها أنا ذا أب وزوج أهنأ بحياةٌ مستقرة و لله الحمد .
وفي الجانب الآخر لم تقف حياة الحبيبة السابقة بل هي اليوم زوجة وأماً تحيا حياة أظنها طيبة .
فهكذا كانت قصتي , فلا الحياة توقفت ولا الآمال تحطمت , والقافلة تسير .
كتبت هذه الصفحة من المذكرات لما فيها من عبر كثيرة قد يستفيد منها القراء الكرام
#d #d #d
#d 