أضع بين أيدكم قصة قصيرة أعجبتني ( منقولة من جريدة عمان )
كان السوقُ مطراً يهطل، يهطل، يهطل"
تَمَكنْتُ لِلْمَرةِ الأولى فـي حياتي مِنْ إيقافِ ذبحي وَالتغَلبِ على قاتلي.
كُنْتُ أتمشى فـي السوقِ قُبَيْلَ موعدِ الإقفالِ لدى الغروب، ورأيتُ إبراهيمَ الحلاق وهو يطوي حصيرَتَه الباليةَ التي يقعي عليها زبائنُه ويحنون رؤوسَهم أمامَه مسلمينها لموساهُ الصدئةِ، بينما انْهَمَكَ ولدُه، الذي يقولُ الجميعُ إِنهُ يعاني مِنْ مشكلةٍ فـي عقلِه، والذي يتمهنُ لدى الأب، فـي وضعِ أدواتِ الحلاقةِ فـي صندوقٍ قديم، ثُم نَهَضا وَسَارا حثيثاً فـي الزقاق؛ الأبُ يَتَقَدمُ والولدُ يَتْبَعُهُ حاملاً الصندوقَ على رأسِه، قَبْلَ أَنْ يَنْحَرِفَا خارجاً عندما وصلا إلى مَحَل الجزارِ المغلقِ منذ الظهيرة. كانتْ الحوانيتُ والأزقةُ مُعْتِمَةً وَشِبْهَ مهجورةٍ استقبالاً لليلِ الطويلِ القادمِ كما هو الأَمْرُ فـي كُل يوم. المتسوقون، أو مَنْ لَبِثَ منهم إلى هذا الوقتِ، قِلةٌ، يصيحُ بعضُهم بآخرِ المجادلاتِ الاستعطافيةِ التي لا يرحمُها البَاعَةُ حتى ولو كان البَاعِثُ المُعْلَنُ للمتسوقِ على وَجَاهَةِ سَبَبِ رُسُو المساومةِ لصالحِ التقوى والورع، واستلزامهما عدم تأخيرِه عن أداءِ فَرْضِ صلاةِ المغربِ فـي الجَامِعِ بِسَبَبِ مَبْلَغٍ تَافِهٍ لا يزال يُصِر عليه صَاحِبُ الدكان، وَيَهْرَعُ بعضُهم الآخرُ مِنَ المتسوقين بمشترياتِهم القليلةِ الـمُكَيسَةِ جيداً فـي اتجَاهِ موقفِ السياراتِ الترابي المحاذي لِلْحِصْنِ عِنْدَ الطرَفِ الجنوبي مِنَ السوق، حين فاجأني الأربعيني المرتدي دشداشةً وعمامةً ناصعتي البياضِ، وقد ابْيَض جُل لحيتِه كذلك، بِنَصْلِ خنجرٍ مصقولةٍ فـي نهايةِ زقاقٍ مُعْتِمٍ وَنَتِنِ الرائحةِ يَقَعُ بين مكانِ جلوسِ السماكين فـي الصبَاحِ والـمَخْرَجِ الأقربِ إلى الحَارَةِ التي يَقْطُنُهَا تُجارُ الليمونِ الأثرياء.
تَقَدمَ مني الرجُلُ بثباتٍ وَنِيةِ شَر جليةٍ فـي عينيه، وَقَبْلَ أَنْ أَفْهَمَ أَي شيءٍ، كان قد دفعني بِقُوةٍ إلى فجوةٍ فـي الجدارِ الطيني للزقاقِ، وَوَجَدْتُ نفسي وقد وَقَعْتُ على ظهري فَوْقَ أرضٍ سَبْخَةٍ تُنَقطُهَا نباتاتٌ وأعشابٌ جَافةٌ وَرَوَثُ ماشيةٍ وحميرٍ وجِمال. جَثَمَ الرجُلُ الذي لا أَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَسْبِقْ لي أَنْ رأيتُه فـي أي مكان، على صدري ما إنْ سقطت، وتهادى إلي ثُغَاءُ خروفٍ مِنْ مكانٍ مجاور، وَأَدْرَكْتُ ونَفَسي يضيقُ أَني أصبحتُ خَارِجَ مرأى وَمَسْمَعِ مَنْ تَبَقى مِنَ المتسوقين، فالجدارُ الطيني ذو الفجوةِ اللعينةِ يُقِيْمُ حاجزاً بيني وبينهم على الرغْمِ مِنْ قربي منهم. قَبَضَ هذا على عنقي بيدِه اليُسْرَى وبدأ يَضْغَطُ بقوةٍ أزاحتْ آخرَ شَك مِنْ نَفْسِي بأنه مُقْبِلٌ على قتلي، وَابْتَسَمَ وهو يَلْتَقِطُ النصْلَ مِنْ جَانِبِ جسدي الراعِشِ بيدِه اليُمْنَى ويضعُه على حنجرتي تماماً، وَشَعَرْتُ بِلَمْسِ الذبْحِ عميقاً، وحاداً، وصامتاً، وموجعاً، وأحسستُ بخيطٍ ساخنٍ يسيلُ على عنقي فـي اللحظةِ التي وصلني فيها صوتُ المؤذنِ وهو ينادي "الله أكبر، الله أكبر"، بينما تعالى ثُغَاءُ الخروف. غَيْرَ أَني استجمعتُ قِوَايَ بِأنْ انتزعتُ ذراعي اليُمْنَى مِنْ تَحْتِ ظهري، وَلَكَمْتُ رأسَه لَكْمَةً قويةً أصدرتْ منه آهَةَ أَلَمٍ خفيفةً. وفـي اللحظةِ التي انتفضَ فيها رأسُه وَزَاغَ بَصَرُهُ تَحْتَ تأثيرِ لكمتي، تهاوتْ قبضتاه قليلاً، فانتفضَ كَامِلُ جسدي، ووثبتُ، وَقَلَبْتُهُ بمحاذاةِ النصْلِ الذي كانتْ أصابعُه المتشنجةُ تُحَاوِلُ أَنْ تَصِلَ إليه بَعْدَ أَنْ استوى أرضاً. أَصْبَحَ الآنَ مطروحاً فـي الوضعِ الذي كُنْتُ فيه قَبْلَ قليل، وكانتِ الدمَاءُ تَتَصَاعَدُ نَحْوَ رأسي وَمِنْ حنجرتي، وجسدي كُلهُ يَرْتَعِشُ بقوة، ونبضاتُ قلبي تَكَادُ تَشُق صدري، وأنا بارِكٌ على صَدْرِهِ بَرْكَةَ بعير. وبدأتُ أُعْمِلُ النصْلَ الذي سبقتُه إليه على حنجرتِه البارزة، وهو يقاومني باستماتة. وَعَبْرَ غِشَاوَةٍ رقيقةٍ مِنَ الغُبَارِ رأيتُ خيطاً مِنْ دَمِهِ القاني يسيلُ مِنْ جِلدِه حين أَكْمَلَ النصْلُ جَزتَه الأولى.
اليومَ هَطَلَ المطرُ غزيراً لساعاتٍ متواصلةٍ مُنْذُ الصبَاحِ البَاكِرِ، وَلَمَعَتِ البروقُ، وَهَدَرَتِ الرعود، وامتلأتِ الشوارعُ بالمياه، وسالتِ الوديان ــ التي يسمونها هنا "كْممً" فخرجتُ وزوجتي فـي الظهيرةِ الغائمةِ لِلْتفَرجِ على الـ ًممْك القريبِ مِنَ الحي الذي نَقْطُنُ فيه بَعْدَ أَنْ هدأ المطرُ قليلاً. وَقَفْنَا تَحْتَ الرذَاذِ وقد فَتَحْنَا مظلتينا، إلى جَانِبِ متفرجين آخرين استهواهم المَشْهَدُ، على حَافةِ المياه المتدفقة بقوةٍ عَبْرَ جذوعِ الأشجارِ الضخْمَةِ التي احتجزتْ أماليد وأكياساً فارغةً وأوراقاً ونفاياتٍ أخرى. وقالتْ زوجتي وهي تُنَقلُ بصرَها بين الماءِ الجاري وَالأُفُقِ الرمَادِي إِنهَا كانتْ تَسْتَحِم فـي الوادي، لدى هبوطِه إلى قريتِها على إِثْرِ هطولِ الأمطارِ الغزيرةِ، عندما كانتْ صغيرة.
كُنْتُ أُصغي إلى ذكرياتِها وأنا أَرْقُبُ خيطاً أَحْمَرَ يسيلُ متباطئاً على الماء، ثُم يذوبُ وَيَنْجَرِفُ فـي الشلالِ الأغبر.
									
									
								كان السوقُ مطراً يهطل، يهطل، يهطل"
تَمَكنْتُ لِلْمَرةِ الأولى فـي حياتي مِنْ إيقافِ ذبحي وَالتغَلبِ على قاتلي.
كُنْتُ أتمشى فـي السوقِ قُبَيْلَ موعدِ الإقفالِ لدى الغروب، ورأيتُ إبراهيمَ الحلاق وهو يطوي حصيرَتَه الباليةَ التي يقعي عليها زبائنُه ويحنون رؤوسَهم أمامَه مسلمينها لموساهُ الصدئةِ، بينما انْهَمَكَ ولدُه، الذي يقولُ الجميعُ إِنهُ يعاني مِنْ مشكلةٍ فـي عقلِه، والذي يتمهنُ لدى الأب، فـي وضعِ أدواتِ الحلاقةِ فـي صندوقٍ قديم، ثُم نَهَضا وَسَارا حثيثاً فـي الزقاق؛ الأبُ يَتَقَدمُ والولدُ يَتْبَعُهُ حاملاً الصندوقَ على رأسِه، قَبْلَ أَنْ يَنْحَرِفَا خارجاً عندما وصلا إلى مَحَل الجزارِ المغلقِ منذ الظهيرة. كانتْ الحوانيتُ والأزقةُ مُعْتِمَةً وَشِبْهَ مهجورةٍ استقبالاً لليلِ الطويلِ القادمِ كما هو الأَمْرُ فـي كُل يوم. المتسوقون، أو مَنْ لَبِثَ منهم إلى هذا الوقتِ، قِلةٌ، يصيحُ بعضُهم بآخرِ المجادلاتِ الاستعطافيةِ التي لا يرحمُها البَاعَةُ حتى ولو كان البَاعِثُ المُعْلَنُ للمتسوقِ على وَجَاهَةِ سَبَبِ رُسُو المساومةِ لصالحِ التقوى والورع، واستلزامهما عدم تأخيرِه عن أداءِ فَرْضِ صلاةِ المغربِ فـي الجَامِعِ بِسَبَبِ مَبْلَغٍ تَافِهٍ لا يزال يُصِر عليه صَاحِبُ الدكان، وَيَهْرَعُ بعضُهم الآخرُ مِنَ المتسوقين بمشترياتِهم القليلةِ الـمُكَيسَةِ جيداً فـي اتجَاهِ موقفِ السياراتِ الترابي المحاذي لِلْحِصْنِ عِنْدَ الطرَفِ الجنوبي مِنَ السوق، حين فاجأني الأربعيني المرتدي دشداشةً وعمامةً ناصعتي البياضِ، وقد ابْيَض جُل لحيتِه كذلك، بِنَصْلِ خنجرٍ مصقولةٍ فـي نهايةِ زقاقٍ مُعْتِمٍ وَنَتِنِ الرائحةِ يَقَعُ بين مكانِ جلوسِ السماكين فـي الصبَاحِ والـمَخْرَجِ الأقربِ إلى الحَارَةِ التي يَقْطُنُهَا تُجارُ الليمونِ الأثرياء.
تَقَدمَ مني الرجُلُ بثباتٍ وَنِيةِ شَر جليةٍ فـي عينيه، وَقَبْلَ أَنْ أَفْهَمَ أَي شيءٍ، كان قد دفعني بِقُوةٍ إلى فجوةٍ فـي الجدارِ الطيني للزقاقِ، وَوَجَدْتُ نفسي وقد وَقَعْتُ على ظهري فَوْقَ أرضٍ سَبْخَةٍ تُنَقطُهَا نباتاتٌ وأعشابٌ جَافةٌ وَرَوَثُ ماشيةٍ وحميرٍ وجِمال. جَثَمَ الرجُلُ الذي لا أَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَسْبِقْ لي أَنْ رأيتُه فـي أي مكان، على صدري ما إنْ سقطت، وتهادى إلي ثُغَاءُ خروفٍ مِنْ مكانٍ مجاور، وَأَدْرَكْتُ ونَفَسي يضيقُ أَني أصبحتُ خَارِجَ مرأى وَمَسْمَعِ مَنْ تَبَقى مِنَ المتسوقين، فالجدارُ الطيني ذو الفجوةِ اللعينةِ يُقِيْمُ حاجزاً بيني وبينهم على الرغْمِ مِنْ قربي منهم. قَبَضَ هذا على عنقي بيدِه اليُسْرَى وبدأ يَضْغَطُ بقوةٍ أزاحتْ آخرَ شَك مِنْ نَفْسِي بأنه مُقْبِلٌ على قتلي، وَابْتَسَمَ وهو يَلْتَقِطُ النصْلَ مِنْ جَانِبِ جسدي الراعِشِ بيدِه اليُمْنَى ويضعُه على حنجرتي تماماً، وَشَعَرْتُ بِلَمْسِ الذبْحِ عميقاً، وحاداً، وصامتاً، وموجعاً، وأحسستُ بخيطٍ ساخنٍ يسيلُ على عنقي فـي اللحظةِ التي وصلني فيها صوتُ المؤذنِ وهو ينادي "الله أكبر، الله أكبر"، بينما تعالى ثُغَاءُ الخروف. غَيْرَ أَني استجمعتُ قِوَايَ بِأنْ انتزعتُ ذراعي اليُمْنَى مِنْ تَحْتِ ظهري، وَلَكَمْتُ رأسَه لَكْمَةً قويةً أصدرتْ منه آهَةَ أَلَمٍ خفيفةً. وفـي اللحظةِ التي انتفضَ فيها رأسُه وَزَاغَ بَصَرُهُ تَحْتَ تأثيرِ لكمتي، تهاوتْ قبضتاه قليلاً، فانتفضَ كَامِلُ جسدي، ووثبتُ، وَقَلَبْتُهُ بمحاذاةِ النصْلِ الذي كانتْ أصابعُه المتشنجةُ تُحَاوِلُ أَنْ تَصِلَ إليه بَعْدَ أَنْ استوى أرضاً. أَصْبَحَ الآنَ مطروحاً فـي الوضعِ الذي كُنْتُ فيه قَبْلَ قليل، وكانتِ الدمَاءُ تَتَصَاعَدُ نَحْوَ رأسي وَمِنْ حنجرتي، وجسدي كُلهُ يَرْتَعِشُ بقوة، ونبضاتُ قلبي تَكَادُ تَشُق صدري، وأنا بارِكٌ على صَدْرِهِ بَرْكَةَ بعير. وبدأتُ أُعْمِلُ النصْلَ الذي سبقتُه إليه على حنجرتِه البارزة، وهو يقاومني باستماتة. وَعَبْرَ غِشَاوَةٍ رقيقةٍ مِنَ الغُبَارِ رأيتُ خيطاً مِنْ دَمِهِ القاني يسيلُ مِنْ جِلدِه حين أَكْمَلَ النصْلُ جَزتَه الأولى.
اليومَ هَطَلَ المطرُ غزيراً لساعاتٍ متواصلةٍ مُنْذُ الصبَاحِ البَاكِرِ، وَلَمَعَتِ البروقُ، وَهَدَرَتِ الرعود، وامتلأتِ الشوارعُ بالمياه، وسالتِ الوديان ــ التي يسمونها هنا "كْممً" فخرجتُ وزوجتي فـي الظهيرةِ الغائمةِ لِلْتفَرجِ على الـ ًممْك القريبِ مِنَ الحي الذي نَقْطُنُ فيه بَعْدَ أَنْ هدأ المطرُ قليلاً. وَقَفْنَا تَحْتَ الرذَاذِ وقد فَتَحْنَا مظلتينا، إلى جَانِبِ متفرجين آخرين استهواهم المَشْهَدُ، على حَافةِ المياه المتدفقة بقوةٍ عَبْرَ جذوعِ الأشجارِ الضخْمَةِ التي احتجزتْ أماليد وأكياساً فارغةً وأوراقاً ونفاياتٍ أخرى. وقالتْ زوجتي وهي تُنَقلُ بصرَها بين الماءِ الجاري وَالأُفُقِ الرمَادِي إِنهَا كانتْ تَسْتَحِم فـي الوادي، لدى هبوطِه إلى قريتِها على إِثْرِ هطولِ الأمطارِ الغزيرةِ، عندما كانتْ صغيرة.
كُنْتُ أُصغي إلى ذكرياتِها وأنا أَرْقُبُ خيطاً أَحْمَرَ يسيلُ متباطئاً على الماء، ثُم يذوبُ وَيَنْجَرِفُ فـي الشلالِ الأغبر.
											
..........................................................
 شاركونا