نساء حوض الشهوات - lailal2222

    • نساء حوض الشهوات - lailal2222


      نساء حوض الشهوات


      " حوض الشهوات " عنوان رواية الكاتب *و الإعلامي العماني " محمد اليحيائي " الصادرة عن دار الانتشار العربي 2015م ، هذا العنوان الذي يحمل زخما مندفعا نحو التابوهات و تأويلات شتى في فكر كل ما يطالعه ، فهو حوض يترع بالشهوة كما يراه البعض ، أو حوض يتجلى فيه سيّر غامضة عن رجال من طبقات شتى تسردها امرأة غانية في شبق الليل كما قد يتخيله آخرون ، لكن مما لا شك فيه أن هذا الحوض يستدعي نساء كثيرات ، نساء فاتنات في قصر من قصور الملوك ، ونساء القبائل اللواتي عرف الدلال طريقه إليهن وترسّخ على شكل حوض فائض بماء الشهوة والحب من قبل بعولهن أو آبائهن :" الحوض الذي بناه جدي لبناته ، الوحيد في الولاية كلها " ..
      ليس من السهل البتة أن تقرأ رواية تفيض بحكايات النساء ؛ لأن المرأة حكاّءة بفطرتها ، ليس من السهل أن تقرأ رواية تمضي نساؤها عبر دروب تاريخية مضمّخة بذكريات حيّة في فكر كل منهن وفق ما تجتر ذاكرتهن في زمن الحرب ، وفي زمن الرجولة التي تناسلت عبر دهر شديد الوطأة وشديد الملوحة كبحر أحلامهن الذي ظل الدنو منه مطعّما بالحرمان والعيب والحرام ..!
      رواية " حوض الشهوات " تترافق ثلاث نسوة في داخل سرد متعدد الأصوات ، سرد مركّب يستدعي قارئا في تمام وعيه ؛ كي يتلمّس الواقع من الخيال ، الحلم من اليقظة ، اليقين من الوهم ، كي لا يتيه عن صوتهن ..
      هؤلاء النسوة انتقلن عبر تلك التقاطعات في أزمنة متفاوتة ، لكن حكايتهن تلتقي على قدر ما تفترق ، كل منهن حاملة فتيل ذاكرتها المشتعلة على نار الحروب ، و الأزمات السياسية الوعرة ، بوجود رجال كانوا المعبر الأساسي لخوض تلك الأحداث المنغمسة بهزائم الحروب وانتصارات التاريخ ..
      أولى نساء " حوض الشهوات " قوة وبأسا في الحضور هي " الزعيمة " ابنة البطل " مبارك بن حمدان " والتي كانت أقربهن إلى قلبه ، فهي " الزعيمة " كما لقبّها ، وهي التي قامت مقام الولد الذكر حين جعلها ترافقه في أعماله التجارية في سوق هو خاص للرجال فحسب ، لكن الأب كان يؤمن بقوة زعيمته و مدى استحقاقها ؛ كي تصون ذكره وتخلّده كأب و كبطل خاض حروب زمنه ..
      " الزعيمة " التي انهارت كل أحلامها دفعة واحدة وبعنف حين همد الأب القدوة وسقط قتيلا في حرب ضروس ، تلك القدوة التي ظلت تفتش عنها طوال سنوات عيشها في كل رجل ولج حياتها المضطربة بعد موت الأب ، بحثت عنه في زوجها المزارع الفقير ففشلت ، وبحثت عنه في ابنها سلطان وفشلت ، وبحثت عنه في ابنها مبارك سمي أبيها – الجد البطل – و فشلت أيضا ، لقد انهارت قدوتها ، لكنها ظلت عنيدة لماضيها التليد ، وفية لبريق سيف الأب ، مخلصة لذكراه ، حتى أنها كانت كالجمل تجتر ذكريات نفسها مرة بعد مرة بلا كلل " لم أعرف إنسانا صلبا طموحا ثاقب البصيرة عنيدا في حلمه مثل أمي " ..
      شخصية " الزعيمة " هي شخصية من صلب الواقع ، قد تستجلب الاحباط ، احباط لكل من حولها حين تأبى الاستمتاع بحاضرها و تقبّل من فرضهم القدر السيء عليها كما ظلت تعتقد بخيبة طوال الرواية ، حين تصّر على قلب الواقع الحاضر على وفق قوة حلمها وصلابة روحه ، غير أنها قوية وفي هذه القوة تكمن السر ، فقد كانت تسعى إلى دفع زوجها نحو حياة أغنى ، ودفع كل من ابنيها إلى حياة حافلة تليق بمقام ابنة " مبارك بن حمدان " ، حين أيقنت أنها فشلت تماما في استنساخه في واقع رجال أنجبتهم ..
      قوة الزعيمة في تمردها على حاضرها وعنادها لماضيها كم هي قريبة لروح شخصية " متعب الهذال " بطل شخصية الروائي " عبدالرحمن منيف " في خماسية " مدن الملح " في الجزء الأول منه تحديدا حيث أسماه " التيه " ؛ " الهذال " الذي أعلن رفضه للهينة الأجنبية في أرضه ، وحين انصاعت أرضه وأهله و قبيلته عزم أن يختفي ، لعله في ذلك يعلن رفضه التام للحضور في زمن لا يشبهه ، زمن لا يليق بتاريخه ، زمن يسعى كما تصوّر لتشويه تاريخه الأبيّ في أرض جدوده ..!
      المرأة الثانية من نساء حوض الشهوات هي " روز جلال " هدية الوالي ، ظل الغموض لصيق هذه المرأة التي جاءت إلى بيت " مبارك بن حمدان " فاقتحمته كالريح ، هي التي كانت الحكاية مثيرة بالنسبة للزعيمة وعلى وفق رؤاها : " تروي أمي الحكاية ، كل مرة بنغمة مختلفة ، الحكاية نفسها روتها روز مرات ومرات ، في كل مرة كأنها ريح خفيفة تنفض الغبار من البيت ومن فيه ومرة كأنها نبتة غريبة زرعت في تربية غريبة " ..
      " زور جلال " كانت أمثولة الغموض والجمال بالنسبة للزعيمة ولها منزلتها الرفيعة ؛ لأنها هدية الوالي لــــ" مبارك بن حمدان " ، هي امتداد لتاريخه كبطل كما رأت الزعيمة بل آمنت ، لذلك صلة هذا الافتنان تداعى بمجرد موت " مبارك بن حمدان " ، وغدت " روز جلال " مجرد ماض بهت بريقه في حياة " الزعيمة " ..
      لكن " روز جلال " نفسها كانت حكاية فتنة وإغواء كما روتها " ليلى سليمان " فهي المرأة المشتهاة التي تسابق الرجال لبلوغ شبقها لكنها كانت أعتى من ماء ذكورتهم : " كانوا ينهارون ويتراجعون منطفئين أمام القوة الخفية لالتماعة عينيها في الظلام حتى أن أكثرهم جرأة تمكن من ملامسة ركبتيها قبل أن يصاب بدوار يشبه دوار البحر .." .
      أما " ليلى سليمان " المرأة الثالثة في " حوض الشهوات " هي رمز للمرأة المناضلة ، التي سعت على طريقتها الخاصة في مقاومة الفساد المستشري في البلد بالهجرة كأنها في هذا البُعد ، بُعد المسافات ، تصون بلدها وتكمم هزائمه في روحها الطليقة ، لتجد لها هناك في غربتها المديدة قرابة ثلاثون عاما مرفأ الكتابة ، فتجدد حكاية " حوض الشهوات " في ذاكرتها عبر الكتابة عن " روز جلال " كأيقونة ساحرة ، هي نفسها التي كانت الأيقونة في قلب وزمن " سالم مطر " *..
      " ليلى سليمان " التي قاومت مرضها بالكتابة واجترار أوضاع الغربة المُرّة بعيدا عن بلدها ، وعن رأس الخيمة حيث وِجهّة أحبابها ، هي نفسها التي حين رحلت لم ترحل حقا ، ليس في قلب وذاكرة " سالم مطر " فحسب بل في قلب وذاكرة كل قارئ واع ، لاحق بأنفاسه روحها طوال الرواية ، حتى أن الأشياء افتقدتها :" أصبح البيت فاغر فمه ينادي ليلى ، صورنا التي على الجدران و أرفف المكتبة وكومودينات السرير ، كتبنا التي على الأرفف " ..
      ليس " سالم مطر " وحده آمن أن ليلاه لم تمت بل كل من طالع شخصية " ليلى سليمان " في قلب الأحداث ، فهي كانت تتوارى و تكشف عن نفسها بذكاء كما خطط " اليحيائي " في الرواية ثم علّق روحها المهيمنة على كل شيء كان يخصّها ، كانت بمعنى أدق حكاية يُروى عنها وراوية تروي في آن ..
      وظلت حكاية هؤلاء النسوة مفتوحة على تأويلات شتى ، على نهايات لا قفل لها ولا مقبض ، على سرد مستمر في مخيلة القاريء ؛ كي يعيد إحياءها وفق انغماسه في روح النص الروائي* ..
      ذهب " بل ولسون " في قوله مرة : " نحن ندرك أن الهزيمة الكاملة هي وحدها الطريق التي تجعلنا قادرين على أن نخطو خطواتنا الأولى نحو التحرر والقوة " ..
      وهذا ما حدث تماما مع نساء حوض الشهوات ، كن مهزومات من الوطن ، من الرجال ، من الحروب ، كانت الهزيمة ، هزائم الحروب والحياة هي نبض تحديهّن وقوتهّن وشراستهّن و قسوتهّن ؛ لذا أصبحن كوشم مطبوع في ذاكرة الذاكرة *..
      لذا ظلت حكايتهن تدور كالرحى ، وخلفّن الذكرى ، الذكرى فحسب وراءهن و ثقبنّ سيرهن في أحشاء كل من أحبهن ، كل من كان قريبا منهن ، كل من مرّ عليه تفاصيلهن أكانت أمّا أو حبيبة ، هو اليقين نفسه الذي حفره مؤلفها " اليحيائي " على لسان " سالم مطر " الذي ظل وحيدا متوحدا يجتر ليلاه و أحلامه المقاومة معها :" الحكاية أكبر من أن تروى ، حتى هو ليس بمقدوره تذكر كل تفاصيل الرحلة ، هي رحلت وخلفت وراءها الذكرى ، والذكريات بقي هو من يجترها .." *..


      ليلى البلوشي