" الملة الحنيفية " رسالة سيدنا إبراهيم عليه السلام
************************************************
.......
رسالة سيدنا إبراهيم هى رسالة جامعة فى التوحيد والإيمان .. جعلها الله مبيّنة ومفسرة لكل ما نزل من شرائع وأديان ..
لقد بعث الله سيدنا إبراهيم بالملة الحنيفية .. والحنيفية تجعل أى إنسان يؤمن ويوقن بالوحدانية ( دون نبى أو رسول ) ..
الحنيفية نور وبرهان وتنبيهٌ للفكر والعقول تدرأ عن أى إنسان الشرك والزيغ والضلال وتدفع عنه الميل والإعوجاج ..
الحنيفية تحث كافة البشرية إلى النظر والتأمل فى الخلق وإلى التفكر والتدبر فى الكون ..
الغافل عن الملة الحنيفية كالأصم الذى لا يسمع والأعمى الذى لايبصر ..
...
سيدنا إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وإماماً لكل الحنفاء .. كان قدوة وأسوة لكافة الخلق والأنام ..
قبل مبعثه عليه السلام .. رأى من القوم من عكفوا على عبادة النجوم والكواكب والأقمار ..
ورأى من نحتوا الأحجار وصوروها تماثيل وأصنام ونصبوها وعكفوا عليها وعبدوها ..
فنظر وتأمل فى الخلق .. وتفكر وتدبر فى الكون ..
وجد أن الأحجار التى نحتوها والأصنام التى نصبوها وعكفوا عليها وعبدوها لا تملك لهم نفعاً ولا تدفع عنهم ضرراً
ولا تغنى لهم شيئاً ولا تملك لهم موتاً ولا حياة ولا نشورا .. فنبذ القوم واعتزلهم ..
جنّ عليه الليل وأتى بحلكته ولفّ الأرض بظلمته .. رأى كوكباً فى السماء فنظر إليه وتأمل وقال هذا ربى .. ولكن
ما أن غاب عنه وأفل وصار إلى العدم قال لا أحب أن يكون ربى من الآفلين ..
تكاثرت النجوم ببصيص ضوئها وتلألأ القمر بسناه وعلا وازدهى بازغاً فى السماء نظر إليه وقال هذا ربى .. فلما
غاب عنه وانضوى قال لئن لم يهدنى ربى إلى الحق فلن أنجو من الضلال ..
أشرقت الشمس فى السماء وبزغت تنشر النور والضياء .. فقال هذا ربى هذا أكبر .. فلما مالت إلى الغروب وهدأ
قرصها ولانت وبردت وأصبحت هالة دامية كأنها بصمة من دماء على صفحة الأفق فى السماء تتشبس بالبقاء وسرعان
ما غابت وتلاشت وولّت عنه واختفت .. نبذ القوم ونبذ كل ما يعبدون ..
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي
هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }
...
تساءل خليل الرحمان :
ملك وملكوت ليس فيه زلل أو خلل .. من الذى يطوّعه ويقهره ومن الذى بيده مقاليده ليحكمه ويدبّره ..
إتقان ونظام وتدبير وإحكام وكون واسع فسيح .. من الذى ينظمه ويسيّره ..
نجوم تتزاحم فى الفضاء تخترق عباب السماء لا تزيغ عن مدارها ولا تحيد عن مسارها .. من الذى يدبر أمرها ..
كواكب منطلقة لا تسقط ولا تتوقف ولا تصطدم ببعضها .. من الذى يسيّر أفلاكها ويمسك أجرامها ..
...
أيقن خليل الله أن هناك إلهٌ واحد لا إله غيره كل شىء يرجع إلى إرادته وكل ما فى الكون خاضعٌ لمشيئته ..
أيقن أن الله هو رب كل شىء وفاطره ورب كل خلق وبارئه وأنه القاهر لجميع مخلوقاته ولكل ما فى أرضه وسماواته ..
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
...
اصطفاه الله وبعثه نبياً ورسولاً واتخذه الله صفياً وخليلاً .. وأراه ملكه وملكوته وعزته وسلطانه وجبروته ..
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }
ناجى خليل الله ربه أن يُرِيَه كيف يحيى الموتى لكى يطمئن قلبه .. فأمره أن يأتى بأربعة من الطير ويذبحهم
ويقوم بخلط أعضائهم وأجزائهم ثم يلقى كل جزء منهم فوق شتى ومختلف الجبال ..
فعل سيدنا إبراهيم ما أوحى الله به إليه .. أمره الله أن أن يدْعهم .. فأتاه كل طير ساعياً كما كان قبل ذبحه وموته ..
اطمأن نبى الله بقلبه أن الله قادر عليم وشاهد بعينه قدرة العزيز الرحيم .. وتبين له كيف يحيى الله العظام وهى رميم ..
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }
...
دعا سيدنا إبراهيم أبيه إلى عبادة الله .. وكذلك دعا قومه ..
سلك لهم الحجة والمحجة وخاطبهم فى الدعوة بأوضح حجة وحثهم على عبادة الله ونبذ عبادتهم للأحجار والأصنام .
بين لهم أن الله هو الذى خلقهم ورزقهم وهو الذى يذيقهم الموت وهو الذى يَهب لهم الحياة ..
دعاهم إلى النظر والتأمل فى الخلق وإلى بَديع صُنع الله وصَنْعته لكى يرواْ الحجة الناطقة فى قدرته ويوقنوا بوحدانيته ..
أعرض عنه أبيه وكذبه وحاجّه وجادله .. وهدده وتوعده بأنه سيرجمه إن لم يكف عن دعوته وطلب منه أن يتركه ويهجره ..
فاعتزله وألقى السلام عليه ووعده بأن يستغفر له ربه .. يقول جل شأنه :
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا
يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ
إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ
عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ
أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }
...
وأعرض عنه القوم وكذبوه وأنكروا دعوته .. وحاجّوه وجادلوه فى البعث واللقاء ..
زعموا أنهم لن يُبعثوا وقالوا كيف نحيا بعد موتنا وكيف نبعث بعد أن تصبح أجسادنا وعظامنا تراباً بالية ..
ادّعى ملكهم النمرود " قيل أنه ملك بابل بالعراق " بأنه يحيى ويميت ( قتل نفساً وأطلق سراح سجيناً ) ..
فلم يقل له خليل الله أن إحياءك ليس كإحياء الله أو موتك ليس كموت الله .. قال له بحجة قاطعة لا تقبل الحوار
وبمحجة داحضة لاتقبل الجدل أو المناقشة .. إن الله يأتى بالشمس من المشرق فأتى بها من المغرب .. فبهت الذى كفر ولم ينطق ..
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي
وَيُمِيتُ قَالَ
أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ }
...
أصر أبيه على كفره وشركه فتنصل وتبرأ منه .. { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }
وأصر القوم على كفرهم وشركهم .. فتهكم واستهزأ بهم ولما يعبدون من دون الله .. نظر إلى النجوم ثم قال لهم
مستهزئاً بهم ومتهكماً لما يعبدون بأنها قد أصابته بالعلة والمرض بسبب نظره إليها وأنه أصبح منها عليل وسقيم ..
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ }
وتوعد من يعبدون الأصنام وأخبرهم بأنه سوف يقوم بتحطيمها وتدميرها بعد أن يتركوها ويُولّوا عنها مدبرين ..
بعد أن وضعوا الطعام لها وتركوها اتجه خليل الله إلى مواضعها وقال لهم متهكماً بهم لماذا لا تأكلون ولا تتكلمون
وقام بتحطيم كل التماثيل الأصنام حتى جعلهم قطعاً جذاذاً .. وترك كبيرهم دون تدمير أو تحطيم لعلهم إليه يرجعون
ويتبين لهم جهلهم وضلالهم فيؤوبوا إلى رشدهم ويدركوا أنهم عكفوا على ما لايملك لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضررا ..
{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ }
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ }
...
جاء القوم يبحثون عمن فعل ذلك بآلهتهم .. علموا أنه خليل الله إبراهيم ..
جاءوا به وسألوه فأخبرهم أن يسألوا كبيرهم الذى تركه علّه يدلهم على من فعل ذلك إن كانوا يعقلون أوينطقون ..
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا
يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}
نكّسوا رؤوسهم وبان عجزهم .. ولكن الشيطان سوّل لهم الكفر والباطل والبهتان .. أجمعوا على قتله وأوقدوا له الحريق والنيران
وألقوه فيها .. أمر الله النار أن تكون برداً وسلاماً على صفيه وخليله ونبيه ورسوله .
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }
...
اتجه سيدنا إبراهيم إلى حيث أمره الله " قيل إلى مصر" .. وتزوج من " السيدة هاجر" وأنجبت له سيدنا إسماعيل عليهم السلام ..
وأوحى الله إليه أن يقصد الأرض المباركة التى حرمها الله أم القرى مكة المكرمة .. قصدها نبى الله ونزل وهبط بها ..
بوّأ الله له فيها موضع الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام ..
دلّه على موضعها الوحى الأمين سيدنا جبريل عليه السلام وبين له حدود هذه البلدة المحرمة التى باركها وحرمها الله
ووضع لها علامات من مختلف الجهات ( يوجد أعلام وعلامات دالة على بداية الحرم ونهايته ) ..
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ }.
أتى خليل الله بزوجته وولده إسماعيل وأسكنهما بجوار بيت الله وهو فى وادٍ خالٍ من الحياة لا زرع فيه ولا ماء
ولا حسيس فيه أو أنيس .. وتقريراً بالحال ودون سؤال ابتهل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى الله وناجاه وقال :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }
التزمت السيدة هاجر جوار بيت الله وهى ترى ما تراه من صحراء جرداء وجبال صماء لارزق ولا ماء ولاحياة ..
اشتد بها الجوع والعطش فقامت تبحث لها ولوليدها عما يروى الظمأ أو يسد الرمق ..
طافت حول الكعبة ثم صعدت إلى جبل الصفا وهى تنظر إلى بيت الله .. ثم هبطت إلى الوادى تسعى وتهرول ..
ثم ارتقت إلى جبل المروة داعية وطالبة العون من الله .. ثم هبطت ساعية ومهرولة ..
ذهبت وعادت وراحت وجاءت .. إلى أن رأت ماءً نبع فى هذه البيداء تفجر بأمر رب الأرض والسماء رأت
ماء نبع بجوار الكعبة المشرفة عذباً صافياً راوياً للظمأ ساداً للرمق .. هذا الماء هو " ماء زمزم " ..
ماء لاشبيه له ولامثيل .. فارتوت منه وروت .. ( مازال نبعه متدفقاً وسيظل متفجراً إلى يوم الدين ) ..
...
************************************************
.......
رسالة سيدنا إبراهيم هى رسالة جامعة فى التوحيد والإيمان .. جعلها الله مبيّنة ومفسرة لكل ما نزل من شرائع وأديان ..
لقد بعث الله سيدنا إبراهيم بالملة الحنيفية .. والحنيفية تجعل أى إنسان يؤمن ويوقن بالوحدانية ( دون نبى أو رسول ) ..
الحنيفية نور وبرهان وتنبيهٌ للفكر والعقول تدرأ عن أى إنسان الشرك والزيغ والضلال وتدفع عنه الميل والإعوجاج ..
الحنيفية تحث كافة البشرية إلى النظر والتأمل فى الخلق وإلى التفكر والتدبر فى الكون ..
الغافل عن الملة الحنيفية كالأصم الذى لا يسمع والأعمى الذى لايبصر ..
...
سيدنا إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وإماماً لكل الحنفاء .. كان قدوة وأسوة لكافة الخلق والأنام ..
قبل مبعثه عليه السلام .. رأى من القوم من عكفوا على عبادة النجوم والكواكب والأقمار ..
ورأى من نحتوا الأحجار وصوروها تماثيل وأصنام ونصبوها وعكفوا عليها وعبدوها ..
فنظر وتأمل فى الخلق .. وتفكر وتدبر فى الكون ..
وجد أن الأحجار التى نحتوها والأصنام التى نصبوها وعكفوا عليها وعبدوها لا تملك لهم نفعاً ولا تدفع عنهم ضرراً
ولا تغنى لهم شيئاً ولا تملك لهم موتاً ولا حياة ولا نشورا .. فنبذ القوم واعتزلهم ..
جنّ عليه الليل وأتى بحلكته ولفّ الأرض بظلمته .. رأى كوكباً فى السماء فنظر إليه وتأمل وقال هذا ربى .. ولكن
ما أن غاب عنه وأفل وصار إلى العدم قال لا أحب أن يكون ربى من الآفلين ..
تكاثرت النجوم ببصيص ضوئها وتلألأ القمر بسناه وعلا وازدهى بازغاً فى السماء نظر إليه وقال هذا ربى .. فلما
غاب عنه وانضوى قال لئن لم يهدنى ربى إلى الحق فلن أنجو من الضلال ..
أشرقت الشمس فى السماء وبزغت تنشر النور والضياء .. فقال هذا ربى هذا أكبر .. فلما مالت إلى الغروب وهدأ
قرصها ولانت وبردت وأصبحت هالة دامية كأنها بصمة من دماء على صفحة الأفق فى السماء تتشبس بالبقاء وسرعان
ما غابت وتلاشت وولّت عنه واختفت .. نبذ القوم ونبذ كل ما يعبدون ..
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي
هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }
...
تساءل خليل الرحمان :
ملك وملكوت ليس فيه زلل أو خلل .. من الذى يطوّعه ويقهره ومن الذى بيده مقاليده ليحكمه ويدبّره ..
إتقان ونظام وتدبير وإحكام وكون واسع فسيح .. من الذى ينظمه ويسيّره ..
نجوم تتزاحم فى الفضاء تخترق عباب السماء لا تزيغ عن مدارها ولا تحيد عن مسارها .. من الذى يدبر أمرها ..
كواكب منطلقة لا تسقط ولا تتوقف ولا تصطدم ببعضها .. من الذى يسيّر أفلاكها ويمسك أجرامها ..
...
أيقن خليل الله أن هناك إلهٌ واحد لا إله غيره كل شىء يرجع إلى إرادته وكل ما فى الكون خاضعٌ لمشيئته ..
أيقن أن الله هو رب كل شىء وفاطره ورب كل خلق وبارئه وأنه القاهر لجميع مخلوقاته ولكل ما فى أرضه وسماواته ..
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
...
اصطفاه الله وبعثه نبياً ورسولاً واتخذه الله صفياً وخليلاً .. وأراه ملكه وملكوته وعزته وسلطانه وجبروته ..
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }
ناجى خليل الله ربه أن يُرِيَه كيف يحيى الموتى لكى يطمئن قلبه .. فأمره أن يأتى بأربعة من الطير ويذبحهم
ويقوم بخلط أعضائهم وأجزائهم ثم يلقى كل جزء منهم فوق شتى ومختلف الجبال ..
فعل سيدنا إبراهيم ما أوحى الله به إليه .. أمره الله أن أن يدْعهم .. فأتاه كل طير ساعياً كما كان قبل ذبحه وموته ..
اطمأن نبى الله بقلبه أن الله قادر عليم وشاهد بعينه قدرة العزيز الرحيم .. وتبين له كيف يحيى الله العظام وهى رميم ..
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ }
...
دعا سيدنا إبراهيم أبيه إلى عبادة الله .. وكذلك دعا قومه ..
سلك لهم الحجة والمحجة وخاطبهم فى الدعوة بأوضح حجة وحثهم على عبادة الله ونبذ عبادتهم للأحجار والأصنام .
بين لهم أن الله هو الذى خلقهم ورزقهم وهو الذى يذيقهم الموت وهو الذى يَهب لهم الحياة ..
دعاهم إلى النظر والتأمل فى الخلق وإلى بَديع صُنع الله وصَنْعته لكى يرواْ الحجة الناطقة فى قدرته ويوقنوا بوحدانيته ..
أعرض عنه أبيه وكذبه وحاجّه وجادله .. وهدده وتوعده بأنه سيرجمه إن لم يكف عن دعوته وطلب منه أن يتركه ويهجره ..
فاعتزله وألقى السلام عليه ووعده بأن يستغفر له ربه .. يقول جل شأنه :
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا
يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ
إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ
عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ
أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ
لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }
...
وأعرض عنه القوم وكذبوه وأنكروا دعوته .. وحاجّوه وجادلوه فى البعث واللقاء ..
زعموا أنهم لن يُبعثوا وقالوا كيف نحيا بعد موتنا وكيف نبعث بعد أن تصبح أجسادنا وعظامنا تراباً بالية ..
ادّعى ملكهم النمرود " قيل أنه ملك بابل بالعراق " بأنه يحيى ويميت ( قتل نفساً وأطلق سراح سجيناً ) ..
فلم يقل له خليل الله أن إحياءك ليس كإحياء الله أو موتك ليس كموت الله .. قال له بحجة قاطعة لا تقبل الحوار
وبمحجة داحضة لاتقبل الجدل أو المناقشة .. إن الله يأتى بالشمس من المشرق فأتى بها من المغرب .. فبهت الذى كفر ولم ينطق ..
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي
وَيُمِيتُ قَالَ
أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ }
...
أصر أبيه على كفره وشركه فتنصل وتبرأ منه .. { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }
وأصر القوم على كفرهم وشركهم .. فتهكم واستهزأ بهم ولما يعبدون من دون الله .. نظر إلى النجوم ثم قال لهم
مستهزئاً بهم ومتهكماً لما يعبدون بأنها قد أصابته بالعلة والمرض بسبب نظره إليها وأنه أصبح منها عليل وسقيم ..
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ }
وتوعد من يعبدون الأصنام وأخبرهم بأنه سوف يقوم بتحطيمها وتدميرها بعد أن يتركوها ويُولّوا عنها مدبرين ..
بعد أن وضعوا الطعام لها وتركوها اتجه خليل الله إلى مواضعها وقال لهم متهكماً بهم لماذا لا تأكلون ولا تتكلمون
وقام بتحطيم كل التماثيل الأصنام حتى جعلهم قطعاً جذاذاً .. وترك كبيرهم دون تدمير أو تحطيم لعلهم إليه يرجعون
ويتبين لهم جهلهم وضلالهم فيؤوبوا إلى رشدهم ويدركوا أنهم عكفوا على ما لايملك لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضررا ..
{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ }
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ }
...
جاء القوم يبحثون عمن فعل ذلك بآلهتهم .. علموا أنه خليل الله إبراهيم ..
جاءوا به وسألوه فأخبرهم أن يسألوا كبيرهم الذى تركه علّه يدلهم على من فعل ذلك إن كانوا يعقلون أوينطقون ..
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا
يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}
نكّسوا رؤوسهم وبان عجزهم .. ولكن الشيطان سوّل لهم الكفر والباطل والبهتان .. أجمعوا على قتله وأوقدوا له الحريق والنيران
وألقوه فيها .. أمر الله النار أن تكون برداً وسلاماً على صفيه وخليله ونبيه ورسوله .
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }
...
اتجه سيدنا إبراهيم إلى حيث أمره الله " قيل إلى مصر" .. وتزوج من " السيدة هاجر" وأنجبت له سيدنا إسماعيل عليهم السلام ..
وأوحى الله إليه أن يقصد الأرض المباركة التى حرمها الله أم القرى مكة المكرمة .. قصدها نبى الله ونزل وهبط بها ..
بوّأ الله له فيها موضع الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام ..
دلّه على موضعها الوحى الأمين سيدنا جبريل عليه السلام وبين له حدود هذه البلدة المحرمة التى باركها وحرمها الله
ووضع لها علامات من مختلف الجهات ( يوجد أعلام وعلامات دالة على بداية الحرم ونهايته ) ..
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ }.
أتى خليل الله بزوجته وولده إسماعيل وأسكنهما بجوار بيت الله وهو فى وادٍ خالٍ من الحياة لا زرع فيه ولا ماء
ولا حسيس فيه أو أنيس .. وتقريراً بالحال ودون سؤال ابتهل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى الله وناجاه وقال :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }
التزمت السيدة هاجر جوار بيت الله وهى ترى ما تراه من صحراء جرداء وجبال صماء لارزق ولا ماء ولاحياة ..
اشتد بها الجوع والعطش فقامت تبحث لها ولوليدها عما يروى الظمأ أو يسد الرمق ..
طافت حول الكعبة ثم صعدت إلى جبل الصفا وهى تنظر إلى بيت الله .. ثم هبطت إلى الوادى تسعى وتهرول ..
ثم ارتقت إلى جبل المروة داعية وطالبة العون من الله .. ثم هبطت ساعية ومهرولة ..
ذهبت وعادت وراحت وجاءت .. إلى أن رأت ماءً نبع فى هذه البيداء تفجر بأمر رب الأرض والسماء رأت
ماء نبع بجوار الكعبة المشرفة عذباً صافياً راوياً للظمأ ساداً للرمق .. هذا الماء هو " ماء زمزم " ..
ماء لاشبيه له ولامثيل .. فارتوت منه وروت .. ( مازال نبعه متدفقاً وسيظل متفجراً إلى يوم الدين ) ..
...