في العمق : هل سيعيد المجتمع الدولي حساباته حول صورة الآخر المختلف؟

    • خبر
    • في العمق : هل سيعيد المجتمع الدولي حساباته حول صورة الآخر المختلف؟

      Alwatan كتب:

      د. رجب بن علي العويسي

      لقد أفصحت الحادثة المروعة التي حصلت يوم الجمعة الماضية في مسجدين بوسط مدينة كرايست شيرش في نيوزيلندا والتي راح ضحيتها أكثر من أربعين من الشيوخ والكبار والأطفال أثناء تأديتهم لصلاة الجمعة، أفصحت عن الوجه الآخر المشؤوم الذي يعيشه عالمنا المعاصر واختزل معه كل فرص الشعور بقيمة النجاح وأرصدة التميز، دافعا نحو تزايد الأزمات النفسية والفكرية والأخلاقية التي باتت تلاحقه، وأصلت لثقافة الخوف ومشاعر الحقد والكراهية التي يمارسها البعض في حق الآمنين من المسلمين في المساجد في بلدان مختلفة من العالم، وهي تعبر عن واقع مرير وسلوك أرعن ينم عن خلل في البناء الفكري وضعف في صقل الذات وانحراف عن جادة الصواب، وتؤكد حالة الفشل التي يعيشها العالم في الوصول إلى العمل البشري واحتواء خواطر ومشاعر وبوح الإنسان، وتخاذله عن معالجة هذه الأزمات التي أعادت إلى الأذهان حياة الغاب، وزمن الاستعمار ومحاكم التفتيش وغيرها التي عانت منها الإنسانية، وأسلبتها إرادة الفكر والإيجابية ومنطق التفكير وحس الشعور بقيمة الإنسان الآخر في أي مكان وزمان.
      على أن انشغال العالم اليوم بالنزاعات وافتعال الأزمات والثورات والحروب والفتن وفتح الجبهات والحصار وزيادة مستوى العداء وسباق التسلح وحيازة السلاح النووي وتسييس الأحداث الداخلية، أبعده عن أولويات الإنسان الداعمة لأمنه واستقراره وإنتاجيته وسلامه، وكان من نتيجة ذلك أن تأصلت في واقع العمل لغة الفوقية وسلطة الرأي ومصادرة الفكر وسياسة القطب الواحد ومحاولة تشويه صورة الآخر وسياسة تكتيم الأفواه، وتوجيه الإعلام في خدمة بعض السياسات العدائية، وإثارة الفتن الداخلية وتهويل ما يحصل داخل الوطن الواحد الناتج من بعض التضارب في الأفكار أو التباعد في السياسات أو انتقاد بعض الممارسات، إلى تأليب أبناء الوطن الواحد على بعضهم البعض، وغيرها من الشواهد الماثلة اليوم للعيان لما يحصل في عالمنا من انتهاك لفكر الإنسان ومصادرته وتعميق الأيديولوجيات والأحزاب ومحاولة توطين لغة الأنانية والسلطوية والفردانية، بما أنتجته هذه السياسات في ظل تكريس جهود القائمين عليها عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، من ثقافة الخوف والكراهية وتهديد الأمن والسلم الدولي والتدخل في الشؤون الداخلية، وسياسة فرض الأمر الواقع والوصاية وغيرها، في انسلاخ من مبادئ الإنسانية وقيم الفضيلة وأخلاقيات الأزمات.
      في ظل هذه الانتكاسات التي باتت تعيش وقائعها وتعاني من مرارتها بعض بلدان العالم، كانت الحاجة إلى اتفاق دولي يعيد للإنسانية رشدها، ويلملم تفرقها، ويذيب أحقادها ويصهرها في مجتمع إنساني يشعر فيه الآخر بمسؤوليته نحو المختلف عنه دينا ومذهبا ولغة ولونا وبلدا، والمتفق معه في بشريته وإنسانيته ومبدئه ومصيره، وما يستدعيه ذلك من دور أكبر لحكومات العالم الواعية لمسؤولياتها ومنظمات الأمم المتحدة وهيئات حقوق الإنسان، في البحث عن آليات التقاء موحدة وموجهات عمل متناغمة في توجيه الإنسان ـ كل بحسب لغته ودينه ـ نحو تعميق مفهوم التعايش، وترسيخ قيم الاحترام، وإعادة البناء الفكري للإنسان وترقيه نوازعه الوجدانية والعاطفية وتقريب حواره نحو الآخر، وتمكين السلام الداخلي لديه من بناء فرص أكبر لتحقيق الآمن والاستقرار النفسي والتصالح الذاتي، لينعكس بدوره في طريقة تعامله مع الآخر وحقوقه وواجباته نحوه، واستشعار أهمية وجوده ورغبة الحوار معه، وبناء علاقات الشراكة ومحطات التواصل، والاعتراف به كشريك في عالم يتفاعل الجميع فيه لتقوية عناصر الالتزام لمواجهة تحدياته وتوظيف نتاجه وإشاعة معارفه بين الجميع.
      على أن البحث في هذه الأحداث جميعها واستعادة هذه المشاهد والمجازر المرتكبة في حق الإنسانية، تثبت غياب البناء الفكري الرصين للإنسان، وما نتج عنه من حالة التذبذب الفكري وعدم الاستقرار وإيصال المعلومات والمعارف إليه حول الآخر المختلف عنه بطريقة مشوهة، وما حالة الشد والجذب التي تعيشها بعض الفضائيات والصحافة وتعبر عنها طريقة التواصل في اللقاءات والاجتماعات على مستوى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، إلا مؤشرات ودلائل على نفوق هذا البعد في تشكيل شخصية الإنسان العالمي، وغلبة النزعة الوحدوية والفردانية عليه.
      من هنا شكّل البناء الفكري الواعي المتوازن، الطريق المؤصل لثقافة الأمن والاطمئنان والتعاون والتكامل والتواصل، وهو ما تحتاجه الإنسانية اليوم، والسبيل لمعالجة الأزمات الأيديولوجية والنفسية والقناعات السلبية حول الآخر المختلف وتعزيز الشعور بقيمته كإنسان له حقوق وعليه واجبات ويتقاسم المسؤوليات مع بني جنسه كل في موقعه وبحسب طبيعة مسؤولياته، بما يضمن حماية أمن الإنسان وسلامة تفكيره، وعقيدته ومبادئه، وسهولة التأثير فيه من قبل جماعات التكفير والتطرف ومدخلا لنمو ظاهرة الإرهاب التي لم تعرف زمنا ولا أرضا، حتى أصبحت سلوكا اعتياديا يمارسه البعض على مرأى من العالم ومسمع منه بكل تفاخر ورغبة في الثأر، فإن ما يحصل من تشويه لصورة الإسلام وأهله، ومحاولة إلصاق التهم لهم في الكثير من الأحداث، واقع يثبت لأكثر من مرة أن البناء الفكري الذي يعيشه الإنسان في بعض دول العالم وحالة الشحن المستمرة لهم في مناهج التعليم وأساليبه وعبر الإعلام ومراكز البحث وغيرها، أسست لمزيد من الصراعات وأتاحت لحالة الشحن الفكري والعقدي والأيديولوجي المستمرة والموجهة لإيذاء الإنسان وانتهاك حقوقه والسيطرة على موارده واستنزاف ثرواته وسلب حقه في الاستمتاع بها، فكان بذلك المدخل الذي يؤسس للمشتركات باعتبارها نقطة التقاء في سد كل الثغرات والمبررات المتسببة في افتعال الأفكار السلبية من خلال منصات التواصل الاجتماعي وقنوات الإعلام بما تبثه من مشاهد القتل والتجويع والتشريد والحصار والدمار والملاجئ والمخيمات التي يأوي إليها النازحون من أوطانهم بسبب الحروب والفتن والقصف مع افتقارها لأبسط مقومات العيش والحياة والأمن، ليمارس البناء الفكري المؤطر وفق معايير الحق والعدل والمساواة والقائم على الحوار والتعايش وتقوية المشتركات وتقليل التباين وتوجيه الاختلاف إلى زيادة مساحات التكامل والعمل معا، وإكساب الإنسان فقه الشعور بإنسانية الآخر واحترامه وتقديره ومساعدته والآخذ بيده وتقوية الممكنات النفسية والفكرية والأخلاقية والأدبية، كونها دعائم رئيسية تبني للإنسان آفاقا رحبة للعيش في عوالم متعددة لفهم موقعه في هذا العالم.
      وهنا يتأكد دور التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ومحاضن التربية والأسرة فيما تؤصله من رسالة السلام والأمن عبر سياساتها وخططها وبرامجها، ودور مناهج التعليم ومحتواه الفكري في تحقيق التوازن في طرق القضايا الإنسانية وإكساب المتعلمين مساحات أوسع للتفاعل الجمعي في تبني طرائق الحل وأساليب العلاج وفق رؤية متوازنة تستهدف بلوغ الحق والوصول إلى الحقيقة ووصف الواقع وصفا دقيقا بعيدا عن الترقيع والمزايدة والكذب أو التهويل وتشويه الصورة والكيد للآخر، وتفعيل دور الممارسين للتعليم والقائمين على الإدارة والإشراف والمتابعين لتعلم الطالب وأنظمة التقويم والأنشطة، بما يحفظ للإنسانية حقوقها ويجنبها مساوئ التصادم والشتم والسب، ويقيها ظواهر الإرهاب والسلوك المتطرف والتفكير الفردي والتهور في القرار.
      ويبقى على العالم لحين تحقيق ذلك التوجه كالتزام يصنعه لنفسه وللأجيال القادمة في مواجهة منغصات البناء الفكري؛ البحث في تبني المبادرات والأطر والاستراتيجيات الساعية لإذابة كل الفوارق والاختلافات التي باتت تسيء لحق الإنسان في الحياة والعيش، وتوفير الضمانات الكافية لإعادة هندسة البناء الإنساني على مختلف المستويات، والانطلاقة في ذلك من تقوية نقاط الالتقاء المشتركة التي يلتزم بها الجميع، ويعمل على تحقيقها ومتابعة تنفيذها في سبيل تصحيح الأوضاع المتجهة بالعالم إلى السقوط القيمي والأخلاقي، بحيث يؤدي المجتمع الدولي نفسه ومنظمات الأمم المتحدة والمراكز الدولية العلمية والبحثية والجامعات، في إطار دبلوماسية التعليم في القيام بدور محوري في توجيه الشعوب، وإعادة توصيف بعض المصطلحات والمفاهيم المتداولة بطريق تجنبها حالة الازدواجية في تطبيق المعايير وتحقيق سقف التوقعات بشأنها، فالمسؤولية الدولية اليوم يجب أن تمتلك أجندة عمل واضحة في تعزيز البعد الأخلاقي في أروقه السياسة والإعلام وأنماط التواصل والحوار والشراكات، وترقية العهود الدولية والاتفاقات المعنية بالتربية على السلام والتعايش والحوار والتسامح وتبني استراتيجيات وقائية أفضل للحد من تأثير الممارسات الحاصلة والسياسات والإعلام على البناء الفكري وتأصيل المعرفة الصحيحة للإنسان حول ذاته والآخر.
      إننا في عُمان نعيش هذه الروح الإيجابية الواعية لكل الأحداث الحاصلة في عالمنا المعاصر، والتي جاءت امتدادا للسياسة العمانية المعتدلة والفكر العماني المتزن وثقافة العمانيين الناضجة في بنيتها الفكرية وأطرها المعرفية، في عصور التأريخ المختلفة، والتي لم يُعرف عنها إلا التزامها مبادئ السلام والتعاون والتعايش والحوار وعدم التدخل في شؤون الغير، وتعميق مبادئ التعايش والوئام بين البشر في كل ما يعزز فيهم حس الإنسانية ونبض الأخوة وقوة الهدف لبناء مجتمع الشراكة، سواء كان ذلك على مستوى السياسة الخارجية أو السياسة الداخلية، وبما انعكس على كل مفاصل الحياة اليومية للعمانيين، وارتبط بالتعابير اللغوية والثقافية والدبلوماسية والفنية التي يتخاطبون بها مع العالم من حولهم والآخر المشترك والمختلف، فعاش الناس في مجتمع السلطنة في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، لذلك لم يكن البناء الفكري المتوازن للمواطن العماني في الحياة السياسية العمانية المعاصرة وليد اللحظة ولا هو بفعل قرار آني أو ظرفي أو نتيجة للتحولات الإقليمية والدولية الأخيرة، بل هو خيار استراتيجي وسلوك أصيل انعكس على تقوية صورة الآخر المشترك، حتى نالت بذلك استحقاقات الأمن والسلام والتعايش والوئام.
      أخيرا فإن على المجتمع الدولي اليوم أن يقرأ في هذه الحادثة الإرهابية المفجعة، مسارا جديا للعمل المشترك نحو التعامل مع مسببات الإرهاب، عبر الاهتمام بالبناء الفكري وتصحيح الأفكار والمعتقدات السلبية الموجهة ضد الآخر، وأن يعترف بأن ما اتجهت إليه بعض دوله من إعلان الحرب وتدمير إرادة الشعوب، ليس الطريق الأفضل للقضاء على الإرهاب وإزالة خطره، بل بالعودة إلى الإنسان نفسه واحتوائه والحوار معه وإعادة هندسة ثقافة الشعوب وتأطير الفكر الخلاق ورسم معالمه في الوجدان في ظلال التعايش والتسامح والسلام. فهل سيفيق العالم بهذه الحادثة من غفلته في إعادة قراءة ممارساته الحالية وطريقة تعامله مع قضايا الإرهاب والفكر الأيديولوجي المتشدد، ويرسم ملامح التغيير في عمليات التعليم وأساليب التوجيه والتوعية وسياسات الإعلام، وبناء سياسات وقائية في معالجة التأزمات على مستوى الأشخاص والحكومات ونقل شكل هذا الاتفاق، المعزز بأخلاقيات العمل الواعي ومبادئه ليكون شرعة ومنهاجا لكل شعوب العالم، وليصل عبر منصات الإعلام والتقارير الدولية والمنظمات الحقوقية والبرلمانات وتكثيف اللقاءات المستمرة بين العلماء والسياسيين والإعلاميين والمواطنين في هذا العالم كالتزامات يترجمها على شكل مبادرات واستراتيجيات عمل وطنية تحظى بالمتابعة والتنفيذ والرصد والتقييم.

      Rajab.2020@hotmail.com

      Source: alwatan.com/details/322280