كامل الأوصاف
سمير درويش
محمد الهادي الجزيري
قابلته في مصر وفي بلدان عربية أخرى حين كنت كاتب عام اتحاد الكتّاب التونسيين وهو المدير التنفيذي للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب ..وعرفت آنذاك أنّه شاعر وصحفي يحبّر مقالات ثقافية وسياسية..كما لاحظت شدّة تعلّقه وغيرته على قصيدة النثر ..حبيبته الأولى ..فربطت به صداقة عبر أدوات التواصل الاجتماعي ..إلى أن قادتني الصدفة إلى خبر إصداره لمجموعة ” كامل الأوصاف ” فطلبتها منه وكان لي ذلك ..إنّه الشاعر المصري من جيل الثمانينات سمير درويش المتحصّل سنة 2016 على جائزة أفضل ديوان شعر من معرض القاهرة الدولي للكتاب عن مجموعته ” أبيض شفاف “…
ديوان ” كاملُ الأوصافِ ” لا عناوين له ..فهو قصيدة واحدة ..وقد لفت انتباهي مقطع ينمّ عن قرف بالأنا ومن حولها من كائنات..، فالشاعر يتبرأ فيه من الانتماء لذاته ..بل هو لا يريد ذلك بتاتا ..، إنّه يعبّر عن محنة الوجود وورطته الشخصية..ولا يريد أبهى ما يمكنه فعله..لا يريد كتابة الشعر ..ديدن عمره وبوصلته ..، أنا أميل إلى قراءة مثل هذه المقاطع التي تقول عنّا كلّ شيء ..وتفضحنا على مرأى من إنسانيتنا الوديعة المسالمة…
” المهمّ أنني لا أنتمي لي
ولا أريد أن أنتمي لي في أي يوم من الأيام.
لم أكتب قصيدة واحدة منذ شهر
ولا أريد”
نعم هذا هو الشاعر..مكتظ بالعالم ومسكون به ..كأنّه جرم متكوّن من كائنات حيّة وميتة
تجد بين أقبيته وفي بواطنه : المقهى والنادل القديم وبلاغة الشعر والنساء الجميلات ..والكواكب والنحو والرمل والسماء والشرفة ورنين الهاتف ..وكلّ شيء كلّ شيء .. تجد العالم كامنا فيه ..محشورا بتمامه وكماله فيه ..، وهو مع ذلك يحسّ بأنّه فائض كالنهر ويشعر بوحدة قاتلة وهذا هو الشعر..كيف تكون ضدّك ..ننصت إليه وهو يقول:
” وحيد وممتلئ بوحدته ..أنا
كالشقة التي لا تقبل مقعدا إضافيّا
كاللوحة التي لا يجد صاحبها مكانا للتوقيع
أو..كالمقهى الذي يكتظّ بزبائنه ”
ذكرت منذ البداية أنّ سمير درويش متحمّس لقصيدة النثر ومنظّر لها ولأتباعها ..فمنذ انطلاقته في مطلع الثمانيات دأب على نشر المقالات العديدة في الصحف والمجّلات المختصة عن خصائص هذه الفاتنة التي ولع بها ..، ومن ضمن ما قاله عنها وفيها:
قصيدة النثر في رأيي تمثل إضافة جديدة إلى جماليات الشعر، وكشف لأرض بكر لم تطأها أقدام الشعراء القدامى، فالشعر العربي طوال تاريخه إعتمد على التشبيه في صنع صورة مدهشة، وتطور الشعر بتطور صناعة الصورة من خلال التشبيه الصريح، فالاستعارة التصريحية والمكنية، ثم المجاز بدرجاته، وأصبحت قدرة الشاعر تتجلى عن نظرائه في المباعدة بين المشبه والمشبه به، أو-بتعبير آخر-إيجاد علاقة بين ما لا علاقة ظاهرية بينهما، وهو ما قاد إلى الغموض، بدءاً من تجربة جماعة”شعر”في لبنان، وتجربة محمد عفيفي مطر، ثم شعراء السبعينيات في مصر، إلى أن انسد الطريق، ولم يعد ثمة أفق، وكانت قصيدة النثر هي طوق النجاة لأنها تخلت عن الشكل الجمالي التقليدي، واعتمدت على ما نسميه”مجاز النص”بالنظر إليه كوحدة مكتملة، يصنع المفارقة بين الأشياء داخل النص، والأشياء ذاتها خارجه.هذا لا يعني أن الأشكال الأخرى لا تصنع المفارقة الجمالية، لكنها تصنع مفارقة قديمة، لا تحتاج من الشاعر إلى كثير عناء ليشكلها لأنها متاحة على الطريق، فعلها الشعراء العرب لقرون طويلة، الفارق فقط في مسحة الآنية، سواء في اللغة أو الموضوع………
أنفق شعراء هذا الجيل بعض الوقت في محاولة كتابة قصائد تشبه تجربة أدونيس وأنسى الحاج ومطر وشعراء السبعينيات، لكنهم في النهاية استطاعوا تطوير “قصيدة النثر” إلى هذا الشكل الذي أصبح مألوفًا الآن، حيث القصيدة مكثفة إلى أبعد حد، تستغني بشكل شبه كلي عن “مجاز الصورة”، وتعتمد بديلًا له على “مجاز المشهد”، حيث تتفجر المفارقة الشعرية من العلاقة بين النص الشعري كوحدة واحدة وبين ما حوله في الواقع، بين الأشياء داخل النص والأشياء خارجه، مع الذهاب إلى المواقف العادية واليومية والمألوفة والتافهة، والميل إلى السرد أكثر من الإيقاع بشكله القديم. لذلك أنا أعتبر أن هذا الجيل مؤسس بالفعل، اشتغل على إنتاج نص عربي مفارق، ولم يلتفت إلى الصخب الذي كان يفتعله السبعينيون من الخلف، والتسعينيون من الأمام.
.
وختام لهذا الحبّ الصافي لشاعر يكتب بجسده وبكلّ ذرة فيه ..، اخترت لكم من مجموعته الجديدة ” كاملُ الأوصافِ ” مقطعا مغايرا لأيّ شاعر آخر لو كتب عن الموت ..فثمّة لدى هؤلاء الشعراء ..وخصوصا كتّاب قصيدة نثر نظرة مختلفة عن الحياة:
” حين يموت الشاعر
يترك أزهارا في شرفة امرأة سريّة
وتصويبات في دفتر يوميّاتها، ونبتة في بطنها
وحكايات عن الوطن الذي اكتشفه في الميدان
وقلادة ذهبية اسطوانية الشكل
وهمسا مدويّا عند امتزاج البحرين
وصورته مبتسما في صفحات أصدقائه
تتفرّج عليها خلسة، كي لا يلحظ الجالس انشغالها “