المهاجرون… رحلة اللاعودة

    • خبر
    • المهاجرون… رحلة اللاعودة

      Alwatan كتب:

      خولة بنت سلطان الحوسنية:
      بعد انقطاع دام سنة ونصف السنة عن قراءة الروايات للتركيز في أجواء الدراسة عدت لقراءة رواياتي المفضلة وهي الروايات التاريخية التي تحمل بين طياتها عمقا تاريخيا معرفيا كونها تقدم معلومة تسهم في قراءة واقع الشعوب والدول في الفترة التي كُتِبت عنها، وبما أني عشت تجربة الهجرة المؤقتة من أجل العلم ومعاناتها على الرغم من قصر الفترة، لذلك اخترت أن أبدأ العودة للقراءة مع الرواية السويدية المهاجرون لكاتبها السويدي فيلهلم موبيرغ، وهي الرواية الأولى لملحمة رباعية تاريخية كتبها موبيرغ عن المهاجرين السويديين، تلتها رواية في البلاد السعيدة، ثم المستوطنون الجدد، وآخرها الرسالة الآخيرة إلى السويد.
      المهاجرون رواية حملت بين طياتها معاناة السويديين والأسباب التي جعلتهم يغادرون الأرض التي نشأوا فيها إلى اللاعودة، لذا أسهب الكاتب في التفاصيل كونه عاش المعاناة، وبما ان الرواية مترجمة للعربية فقد تكون الترجمة أفقدتها جانب التشويق في بعض الأحداث فجاءت مملة أحياناً وخاصة التفاصيل التي دارت على متن السفينة التي شهدت الهجرة الأولى.
      دارت أحداث الرواية في القرن التاسع عشر وبالتحديد في سنة 1850م، في أبرشية ليودر الواقعة في مقاطعة سمولاند بالسويد حيث نشأ الكاتب وعاشت عائلة نيلس ابن يعقوب، من هناك بدأت أحلام هجرة السويديين إلى أميركا أو كما يسمونها آنذاك العالم الجديد، تلك الاحلام التي لم تتشكل خلال فترة القيلولة أو النوم ليلاً ولكنها كانت أحلام يقظة في عقول داخل أجساد مرهقة ومتعبة من ذل الحياة ومرارة العيش التي كانت معظم شعوب أوروبا تعاني منها آنذاك بسبب الظلم الإجتماعي وسوء توزيع الثروات والعبودية وسيطرة نظام الكنيسة والرهبنة القمعي. وبما أن معظم أهل المقاطعة يعملون في الزراعة حيث لم يكونوا يعرفون من الحياة إلا تراب الأرض وما يزرع بها من أشجار للانتفاع منها في الأكل واستخدام حطبها لإشعال النار شتاءً وإطعام الحيوانات لاستخدامها في التنقل وأكل لحومها، لذلك ما أن يبلغ اطفالهم الثامنة حتى يبدأوا في العمل في أراضي المزارعين الذين يملكون مساحات كبيرة أو إقطاعيات، ويقضي الطفل حياته لخدمة تلك العائلة فهو عبد لديهم لا يحق له التمتع بحياته أو حتى زيارة أهله ما لم يسمح له بذلك ويخصص له سرير في أسطبلات الخيول أو غرف الأبقار والماعز ولا يحق له أن يطلب غير ما يقدم له وقد يتعرض للضرب والعنف إذا اشتكى أو لمح برغبته في تحسين وضعه، وهذا ما حدث لروبرت ابن عائلة نيلسن لذا استسلم للأحلام، فأخذته للتفكير في العيش خارج هذا الإطار المعيشي البائس لأن يكون مزارعا في بلد آخر حيث يعامل كإنسان يكسب من أجل لقمة عيشه، وبما أن روبرت كان يطّلع منذ صغره على الأخبار التي كانت ترد من الدول والعوالم الأخرى فكر في الهجرة إلى أميركا حيث كانت الكثير من القصص والأخبار تتداول عنها وكأنها البلاد الوردية التي تتحقق من خلالها الأحلام ولا يسكنها الفاسدون، ولكن الحلم كان صعب المنال حينذاك، وبعد أشهر من المعاناة اضطر للهرب من مالكه واللجوء إلى عائلته التي كانت ستعيده إلى رب عمله لكونه وفق القانون مخالفا ويحق معاقبته ويسلم لرب عمله لمعاقبته كيفما يشاء، ولحسن حظه وجد أخاه الكبير وهو كارل أوسكر الذي اتعبه الوضع الإقتصادي وفقدان ابنته الكبرى يفكر بنفس تفكيره في الهجرة، ومن هنا بدأ الحلم يقترب من الواقع، وخاصة أن الكثير من أهل المقاطعة كان لديهم نفس الحلم لكن من دون أن يبوحوا به خوفاً من العواقب، منهم أولئك المناصرون لعقيدة الآكية المحافظة التي تمنع تناول الكحول وهي جماعة دينية متشددة يطبقون تعاليم الكنيسة الأولى، منعتهم الكنيسة من إقامة اجتماعاتهم الدينية البسيطة وبسبب التضييق الذي كانوا يعانون منه قرروا الهجرة إلى بلد كان يشاع عنها بأنها قارة يعيش الكل فيها سواسية ويمارسون طقوسهم كيفما شاءوا فهي بلد الحرية.
      يوما بعد يوم بدأت الأعداد تتزايد حتى أتى يوم الهجرة الموعود، وبالرغم من ان الحلم بدأت خيوطه تنسج إلا ان الخوف كان ملازما للجميع وخاصة كريستينا زوجة كارل أوسكر التي قرأت عن البحر الذي سيسافرون من خلاله الكثير من القصص المرعبة والتي تنتهي في قاعه قبل الوصول إلى الوجهة، ولكنها التزمت الصمت ورافقت زوجها في رحلة اللاعودة بصحبة أطفالها الثلاثة والرابع الذي كانت تحمله بين أحشائها، وذلك من أجل تأمين مستقبل آمن لأبنائها وذريتهم.
      ومن ميناء كارلسهامن انطلقت الرحلة الموعودة على متن سفينة تشارلوتا وهي سفينة شحن كانت تنقل البضائع ولكن بسبب طمع ربانها لكثرة المسافرين فنقل من خلالها أجسادا كانت تتوق لرؤية العالم الآخر والعيش بطعم الحرية الذي لم يذوقوه في حياتهم بل سمعوا عنه فقط. بدأت قصص معاناة أخرى على متن السفينة وقذفت الكثير من الأجساد في قاع المحيط وبقي من تشبث بأمل الحرية بمشاعر غير واثقة وغير مستقرة. كانت هذه أولى الأسر التي غادرت السويد تبعتها هجرات كثيرة حتى وصل عددهم إلى المليون مهاجر أي ما يعادل ربع السكان آنذاك.
      اختتمت الرواية بنهاية مفتوحة تجبر القارئ على قراءة الرواية التي تلتها وهي رواية في البلاد السعيدة والتي يبدوا من عنوانها بأنها تحمل تفاصيل مغايرة عن رواية المهاجرون التي كانت كئيبة حيكت في زمن أسود قاتم عاشه الأوروبيون قبل قرنين من الزمن ويعيشه العرب في هذا العصر، لذلك فإن جميع المشاهد التي قرأتها بين سطور الرواية شاهدتها منذ أشهر قريبة في شاشات التلفاز عندما كان العرب يهاجرون لنفس الأسباب الاقتصادية التي ولدّتها الحرب والأنظمة العربية الاستبدادية.. الفرق أن السويديين غادروا موطنهم وفق نظام السفر وبوثائقهم الحقيقية ولكن العرب غادروا في ظروف لا إنسانية لوجهة مجهولة، حملوا أجسادهم فقط ليرموا حملهم في أقرب شاطيء يؤمن لهم السلام والأمان، السويديون هاجروا قبل قرنين أما هجرة العرب فكانت في القرن الحادي والعشرين؟!!!

      Source: alwatan.com/details/419833