Source: alwatan.com/details/420622Alwatan كتب:
نجوى عبداللطيف جناحي:
تداول الناس في وسائل التواصل الاجتماعي حكاية طريفة استوقفتني وتأملتها كثيرا، وهي حكاية على لسان الواعظ والعالم الجليل الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه حديث النفس صفحة 167: فيقول: (نقلت إلى البصرة للعمل كمدرس في مرحلة البكالوريا، كان ذلك في عام 1936م، فاتجهت إلى الفصل ولم أكلم أحدا، دنوت من باب الفصل وجدت المعلم وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد يخطب في التلاميذ يودعهم ويوصيهم كرما بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويمدحني، فقلت إنها مناسبة طيبة لأمدحه أيضا، ونسيت أنني حاسر الرأس بقميص قصير الكم لأخفف لهيب الحر، فقرعت الباب لأدخل الفصل فإذا بالمعلم ينهال عليَّ بعبارات الغضب، وأجلسني على مقعد الطلاب، ثم وجَّه لي سؤالا صعبا بقصد الإحراج والتهكم، وكان السؤال عن البحتري، فشرحت شرحا جميلا هادئا عميقا، وقابلت بينه وبين أبي تمام، والطلاب يستمعون لي بدهشة لا تقل عن دهشة معلمهم، وهنا سألني عن اسمي ليعرف أنني أنا المعلم الطنطاوي، ولك أن تتخيل ردة فعل هذا الأستاذ ومدى الإحراج الذي وقع فيه). (بتصرف) فالمعلم استهزأ بالطنطاوي وأجلسه مجلس الطلاب لأنه حكم عليه من ملابسه.
ولسنا هنا في معرض مناقشة مصداقية هذه الرواية وصحة نقلها، لكن هذه القصة تذكرنا بقصة شبيهة وردت في كتب التراث وهي قصة أحدهم، ومفادها أنه لبَّى دعوة السلطان على العشاء فذهب بثياب رثة فلم يسمح له بالدخول، وعندما عاد إلى بوابة القصر بثياب الوجهاء، مهندم اللباس، فتحت له الأبواب على مصراعيها، ومُدَّت له الموائد الثرية بما لذَّ وطاب، فما كان منه إلا أن مدَّ كُم ثوبه فغمسه في الطعام قائلا: (كل يا كُمي قبل فمي) معترضا بذلك على ثقافة مجتمع يحكم على الناس بمظهرهم لا بعقولهم، وتداولت هذه العبارة بين الناس حتى صارت مثلا، ومثل هذه الحكاية نسبت لعدة شخصيات؛ فالبعض نسبها إلى الشيخ الدرويش (فرح ود تكتوك) والبعض نسبها إلى جحا، كما نسبت للعديد من الشخصيات الوهمية.
ما يستوقفنا في رواية الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ أن مثل هذا الموقف يتكرر مع الوجهاء والعلماء على مَرِّ التاريخ، وعلى مَرِّ الأزمان، وفي مختلف المجتمعات، المثقفة منها والأُمِّيَّة، فنظرة الناس وردود فعلهم تجاه الشخص المهندم لم تتغير، فهم يحترمون حسَن المظهر، ويزدرون من لا يهتم بهندامه. وكم قرأنا كتابات تنتقد رد فعل الناس هذا وتدعوهم للعقلانية في الحكم على الناس، وعدم الحكم عليهم من مظهرهم، وكم شنَّ البعض حملات التوعية في المجتمع لمكافحة هذه الآفة الاجتماعية وهي الحكم على الناس من خلال ملابسهم، إلا أن مثل هذه المواقف تتكرر، فهنا نشهد على أنفسنا نحن البشر بأن ردود فعلنا تكون نتيجة انطباعات نفسية وليس نتيجة قناعات عقلانية!!! هكذا نحن البشر ننتقد أنفسنا ونعجز عن تغييرها، فنعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا!!!
وهنا نطرح قضية وهي: هل هناك أمل في أن نغير نظرتنا لبعضنا البعض، فلا نجعل الهندام أحد المعايير المهمة لحكمنا على الناس، وتحديد طريقة تعاملنا معهم، وحفظ مقاماتهم، فإن لبسوا لباس الأغنياء أجلسناهم في صدر المجلس، وإن لبسوا ثياب الفقراء أجلسناهم في أطراف المجلس؟ وفي تقديري وبعد تكرار مثل هذه المواقف على مَرِّ الأزمان على الرغم من أننا ننتقد هذا السلوك، ونُعِده آفة اجتماعية، وننادي بالتغيير إلا أننا في واقع أحوالنا لم نتغير وما زال حكمنا على بعضنا البعض يتأثر بالمظهر. أرى أن تغيير هذا السلوك ضرب من المستحيل.
وقد استثمر تجار الملابس هذه الصفة في البشر، فعززوها وشجعوا الناس عليها، حتى أصبحت تجارة الملابس، وتصميم الأزياء من أهم الأنشطة التجارية التي تحقق الأرباح الطائلة وتستنزف جيوب الناس، بل حوَّلوا بعض منتجات الملابس إلى مقتنيات ثمينة تتوارث، ولم تقتصر على الثياب بل ما يتبعها من أحذية، وأحزمة، وقبعات وغيرها، ثم بالغوا وصنعوا ملابس باهظة الثمن فتكون في متناول الأغنياء، وبالتالي تميزهم عن غيرهم، فتسابق الفقراء إلى شراء هذه الملابس الثمينة ليقعدهم الناس مقاعد الأغنياء، فاقترضوا من البنوك وأرهقوا ميزانياتهم ليشتروا مثل هذه الملابس، وهنا دعونا نقر بأننا لن نستطيع تغيير ثقافة المجتمع بتأثير المظهر على حكمنا على الناس، ولكن تعالوا نجتهد لنواجه جشع التجار واستغلالهم لهذه الآفة ليستنزفوا ما في جيوب الناس، وعلى الأقل نقبل بعضنا البعض بملابس نظيفة مرتبة أنيقة ولا نشترط أن تحمل شعار علامة تجارية تكلف مبالغ باهظة… ودمتم أبناء قومي سالمين.كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية متخصصة في التطوع والوقف الخيري najanahi@gmail.com تويتر: @Najwa.janahi
وما زلنا نقول: كل يا كمي قبل فمي
- خبر
-
مشاركة