Source: alwatan.com/details/420770Alwatan كتب:
التطوع قيمة حضارية واعدة، وسلوك إنساني أصيل، يعبِّر عن رقي المجتمع، وتكاتف أفراده، وتعاون كياناته في مواجهة الشدائد والمحن، والتحديات والصعوبات، يقف فيه الجميع على مسار واحد وطريق واضح لصناعة الفارق وإنتاج الحلول، إنه أصدق تعبير عن سمو النفس، وصفاء القلب في مواجهة حالة الفردانية والأنانية والسلطوية، يتنازل فيه الفرد عن رغباته الشخصية ليصنع بها مددا للآخر، ومخرجا له من أزماته ومساعدته على تجاوز مشكلاته، والوقوف على احتياجاته، إنها مساحة من التفاعلات التي تنصهر فيها النفس وتتماهى مع أولويات المجتمع، لتشكل ثنائيا واحدا، يقوِّي من سواعد العطاء، ويؤسس لمنهجيات البر والإحسان، ويبني فرص أكبر للمشاعر النبيلة التي تقرأ الوطن في تكاتفه وتعاونه ووحدته ولحمته الاجتماعية، تاركة خلفها المصالح الشخصية التي تتجه في إخلاص ورغبة واختيار إلى أولويات الوطن نموذجا للحياة في صفائها ونقائها وبلسمها وإنسانيتها وصدقها، إنه مرحلة صياغة الذات، وتجديد الممارسات، وتنشيط الوعي، وتقييم السلوك، وتأصيل وازع الضمير والخلق الحسن، وانتزاع الذاتية والتعالي على صيحات الأنا، ليثبت خلاله المواطن جدارته في الوفاء بحق المواطنة، وتأكيد مبدأ الإيثار في مواجهة سلوك الأثرة، وتقدير قيمة الالتزام بالمعايير والأسس، والعمل ضمن الفريق الواحد، وتأكيد قيمة العمل الجماعي المشترك، إنه نقل الفرد من البحث عن الذاتية إلى صناعة إنسان منتج فاعل مناضل من أجل الآخرين وتحقيق سعادتهم، فيتخلى الفرد عن فوقيته لينصهر في المجتمع قلبا وقالبا، وينزل من أبراج السلطة والفوقية ليشارك المجتمع أهداف وطنه وغاياته السامية.![]()
د. رجب بن علي العويسي
إن التطوع بذلك حياة للمجتمعات، ومساحة أمان، تتعايش في زواياه الأنفس لتقرأ الواقع في ملحمة وطن واحد، ورؤية صادقة، ومنهجية حكيمة، تتغلب فيها على الأزمات والأحداث، والظروف والمتغيرات، وتقوى فيها روح التغيير لتتجسد واقعا جميلا، يستشعر المجتمع فضله، ويدرك الكل خيره، ويصل إلى الجميع نتاجه وغرسه، ويقطف المجتمع ثمره، وهو من مكارم الأخلاق، ونبل الصفات، مبدأ إسلامي أصيل، ومنهج ديني عظيم، يسعى لتأليف القلوب وتقريب النفوس، واستشعار المسؤولية نحو الآخر، وترسيخ معاني الأخوة، وتعزيز فرص الشراكة، وبناء أرضيات المحبة، وتعميق عرى الترابط والتكامل، لذلك شكل التطوع في الثقافة العمانية ممارسة مجتمعية أصيلة، وقيمة حضارية جسَّدت الهُوية العمانية ونموذجها المتفرد في تعزيز فرص التعايش والسلام والوئام والتكافل الاجتماعي والوحدة والإخاء الإنساني في الداخل والخارج، حتى كان لها حضورها الواسع في أخلاق العمانيين وسيرتهم الطيبة في العالمين، والمفردات الدينية والحياتية والثقافية التراثية المادية وغير المادية التي يتعامل معها الإنسان العماني ويمارسها في ظل رغبة واختيار ومسؤولية واستشعار لعظمتها وأهميتها، وجسَّد تعامل الإنسان العماني مع الأزمات والأنواء المناخية والحالات المدارية التي مرت على عمان شواهد إثبات عملية على أصالة هذه الثقافة وحضورها النوعي في فقهه وقناعاته وأخلاقه واستجابته لنداء الواجب الإنساني في كل الظروف والأحوال، في الداخل والخارج، ورسمت الشخصية العمانية في توادها وتعاطفها وتآلفها كالجسد الواحد، صورة مشرقة في امتهان العمانيين لثقافة التطوع وإدارتها وتجسيدها في حياتهم الشخصية والعامة.
لقد جاء في النظام الأساسي للدولة في المادة (15)، المبادئ الاجتماعية، ما يشير إلى الغاية الكبرى والهدف الأعظم من بناء هذه الروح الإيجابية، ويؤسس لشراكة المجتمع وتفاعله وتضامنه في الظروف والأزمات بما يعطي لمسار التطوع فرصة أكبر للنمو وتعميق حضوره في أبجديات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لعمان، وقد ورد في هذه المادة: “التعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين” كما ورد “تعمل الدولة على تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة”، وبالتالي شكلت هذه المبادئ موجِّهات لها دلالاتها في تأصيل قيمة العمل التطوعي، وتجسِّد روح التطوع ومنهجياته، وتضع المؤسسات والأفراد جميعهم أمام مسؤولية تجسيد هذا السلوك في واقع الممارسة المجتمعية، نماذج حياة، ومبادرات جادة، وخطوط اتصال والتقاء تستهدف تعزيز اللحمة الاجتماعية وبناء مجتمع القوة، هذا الأمر يأتي في ظل توجُّهات السلطنة نحو تعزيز مفهوم العمل الاجتماعي وتمكين الشباب وترسيخ المسؤولية الاجتماعية باعتبارها منطلقات لنمو ثقافة التطوع من خلال تعزيز مبادرات الشباب وإدارة المشاريع الاقتصادية والتنموية الاحترافية عبر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتعميق مفهوم حضاري مؤسسي وفق معالم واضحة للعمل الخيري في ظل اختصاصات عمل الهيئة العمانية للأعمال الخيرية، والجمعيات التطوعية في المجالات البيئية والاجتماعية والسياحية والاقتصادية والأسرية والتقنية وغيرها والتي تشرف عليها وزارة التنمية الاجتماعية، وأثمرت جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي عن مؤشرات تحوُّل نوعي في ثقافة المجتمع والشباب، ورسَّخت مبادئ الشراكة والتمكين كمنطلقات للعمل التطوعي المسؤول.
ولمَّا كانت جائحة كورونا (كوفيد19) قد فرضت واقعا جديدا على المجتمع أن يتفاعل معه بمهنية ويتعاطى مع احتياجاته وفق مسار أداء واضح ينطلق من الأولويات الوطنية، ويجسِّد روح التكامل في العمل الوطني الموجه نحو “كوفيد19″ والحدِّ من انتشاره، والتقليل من آثاره على حياة المواطن، في ظل حجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي ارتبطت بهذه الجائحة، وخلق منصة تواصلية اجتماعية تضع هذه التوجُّهات والأفكار والرؤى المطروحة من قبل المواطنين في سبيل الحدِّ من تأثير الجائحة موضع التنفيذ على شكل مبادرات تطوعية ومشاركات مجتمعية جادة تجسِّد أخلاقيات هذا المجتمع وهُويته، لذلك جاء بيان اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19) يوم الأربعاء 21 أكتوبر 2020م مدخلا استراتيجيا في نقل هذه الطموحات والأفكار والمبادرات التي يبديها المجتمع إلى واقع عمل وعبر قرار اللجنة الذي جاء نصُّه في الآتي: “اللجنة العليا تقر فتح باب التطوع في مختلف القطاعات ذات الصلة بالجائحة، وستعلن الجهات المختصة عن الآليات المنظمة لذلك”، وفي ظل مرحلة تشخيص مستمرة للواقع الوطني، ومؤشرات الحالة الوبائية وعودة كورونا بسلالاته الجديدة إلى الواجهة في ظل ما تشهده السلطنة من زيادة مقلقة في أعداد الإصابات بالفيروس، جاء قرار اللجنة العليا المكلفة في السابع عشر من مارس 2021 لوضع قرار التطوع، موضوع التطبيق وتكليف أصحاب السعادة ولاة الولايات بمتابعة آليات التعامل مع التوجه وفق محددات واضحة ومسارات عمل مقننة، حيث جاء في قرار اللجنة ما نصُّه: “تفعيل عمل المتطوعين في جميع ولايات السلطنة بالتنسيق مع أصحاب السعادة الولاة”، وقد نشر موقع “عمان تواجه كورونا” الذي يديره مركز التواصل الحكومي نموذجا يحدد شروط التطوع ومجالاته، والتي جاءت في المجالات الصحية، ومجال التوعية والإرشاد المجتمعي، ومجالات تطوعية أخرى، وتناول المجال الثاني التصوير والتصميم الرقمي، وتنظيم الحملات التوعوية، والتغطية الإعلامية، والعلاقات الشخصية، بما يفتح المجال للمواطنين والمقيمين في التطوع والمبادرة بكل ما من شأنه الوصول إلى الغايات الوطنية، كما تضمنت استمارة التطوع (المحافظة، والبيانات الشخصية، ووسائل التواصل، والبيانات العلمية والعملية، وغيرها) لضمان ترسيخ قيمة الالتزام بالمعايير في كفاءة الإنجاز وجودة الممارسة التطوعية.
أخيرا، فإن دعوة اللجنة العليا للمشاركة في العمل التطوعي في التعاطي مع جائحة “كوفيد 19″ منطلقا لبناء نموذج وطني في العمل التطوعي، ورسم خريطته المستقبلية التي تصنع من العمل التطوعي القوة وتؤسس له حضوره في كل مكونات العمل الوطني، وتصبح له أدواته وآلياته وبرامجه وخططه ومؤسساته التي تضمن الاستفادة من التأطير الفكري والفلسفي والعملي لهذه الثقافة لتشكل منطلقا لترسيخ عادات العمل التطوعي وقِيم التطوع في المجتمع؛ وتحوُّلًا في نوعية الخدمات المقدمة وطريقة تقديمها في ظل استخدام التقنية الحديثة، بما يؤسس لدعم النماذج الإيجابية المعززة للعمل التطوعي القائم على وضوح المعايير، واستخدام منهجيات مبتكرة وأدوات رصينة، تنطلق من مفاهيم العمل التطوعي، وتبرز مداخله وعملياته ومخرجاته، وتنظم آليات عمله، وتؤسس لفلسفة أدائه، وتضمن احتواء الكفاءات الوطنية الداخلة فيه وحمايتها وتقديم كل وسائل الدعم لها، وتوظيف الكفاءات الوطنية المتخصصة في هذا المجال لتنطلق بالعمل التطوعي إلى آفاق رحبة من العطاء المتجدد والسلوك المتمرس، في سبيل تحقيق ممارسة تطوعية عالية الجودة تضمن نموها في المجتمع وقبولها من قبل مختلف فئاته، كما تقف معها الأيادي البيضاء من أبناء المجتمع ورجال الأعمال وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
ويبقى أن نشير إلى أن تشعب العمل التطوعي وتعدد مجالاته وتزايد الحاجة إليه، وتعقد الظروف التي يعمل بها، خصوصا في وقت الأزمات والكوارث والأوبئة، وتحقيقا لمفهوم الاستدامة في العمل التطوعي، وكفاءة إنتاجيته وتحفيز المجتمع بكل فئاته نحوه، تأتي أهمية مأسسة هذا العمل وفق بيئة تشريعية مرنة، وبرامج متقنه يقوم عليها المتخصصون وفق معايير دقيقة، وهو ما يؤكد حاجته إلى المزيد من التأطير والتقنين عبر تعزيز السياسات الداعمة والراعية للعمل التطوعي واقتراح مشروعات القوانين الضابطة لها، وتوفير التشريعات التي تضمن تطبيق معايير الأمان والسلامة وتحمي المتطوعين والقائمين على العمل التطوعي من المخاطر.
في العمق: (كوفيد 19) وخيار التطوع
- خبر
-
مشاركة