د. أحمد مصطفى أحمد:
يركز العالم الآن على الاستثمار في الطاقة النظيفة المستدامة؛ أي توليد الطاقة من مصادر غير النفط، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها. صحيح أن الاستثمار في إنتاج الطاقة من تلك المصادر الجديدة بدأ قبل أكثر من عقد من الزمن، إلا أن التركيز عليها الآن بعد عام وباء كورونا زاد بشدة إلى حدِّ تخصيص الدول الكبرى مئات المليارات لتلك المشروعات. بالطبع أمر محمود تطوير البشرية لمصادر طاقة مستدامة قليلة الانبعاثات الكربونية لتلبية احتياج النشاط البشري المتزايد عاما بعد عام. فالتحول إلى مصادر الطاقة الخضراء، وما يسمى الاقتصاد الأخضر عموما (أي الأقل تلويثا للبيئة)، يسهم بشكل جيد في مكافحة التغير المناخي على كوكب الأرض. إنما ما بعد أزمة وباء كورونا، يعتبر كثير من الدول المتقدمة أن الاقتصاد الأخضر، بما في ذلك مشروعات الطاقة النظيفة، هي من السبل التي تساعد الاقتصاد على الانتعاش من الأزمة والاستمرار في النمو. بمعنى أنه قطاع جديد غير القطاعات الاقتصادية التقليدية التي تشبعت أو تضررت من أزمة وباء كورونا.
يصاحب كل هذا الاهتمام بالتحول إلى مصادر طاقة غير النفط حديث متصاعد عن أن عصر النفط انتهى أو أوشك على الانتهاء. ونذكر في البداية أن تلك المقولات ليست جديدة، بل سبق وأثيرت من قبل. وربما يربط البعض بين تخطيط دول مصدرة للنفط لعصر “ما بعد النفط” وتلك المقولات عن نهاية النفط. بينما الواقع أن الدول تخطط لعصر ما بعد “اعتمادها” على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي يعتمد عليه الاقتصاد أكثر من غيره من القطاعات. لذا تستعد تلك الدول بتنويع اقتصادها لتقليل اعتمادها على النفط كمصدر رئيسي للبلد، بغض النظر عن مصير النفط كمصدر للطاقة في العالم. ورغم كل ذلك، نجد الطلب العالمي على النفط يزيد كل عام، ربما بمعدلات أقل لكنه يزيد، وترجع معدلات الزيادة غالبا ما يكون له علاقة بمعدلات نمو الاقتصاد الضعيفة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. الأمر إذًا لا علاقة له بمسألة “نهاية النفط” كما يقول البعض. أما أن بعض الآبار الحالية لها عمر وتأخذ في النضوب، فإن عمليات الاستكشاف والحفر تعوض ذلك بآبار جديدة في مناطقة جديدة. ثم إن استخراج الغاز والنفط الصخري أصبح راسخا الآن مع تطور تكنولوجيات الإنتاج وبالتالي قلة الكلفة.
قبل أيام نشرت مؤسسة التصنيف الائتماني العالمية “ستاندرد آند بورز” تقريرا عن اقتراض شركات النفط التي تتابعها المؤسسة لنحو 16 مليار دولار في عام، منها أكثر من 11 مليار دولار فقط في شهر مارس الماضي. وأهمية تلك الأرقام ليست فقط في أن الشركات تقترض لتوسعة أعمالها في قطاع النفط والغاز. بل إنها مؤشر في غاية الأهمية على مدى ثقة الأسواق، والمستثمرين الذين يقرضون تلك الأموال، في قطاع النفط والغاز. وهذا في تصوُّري أهم من توقعات منظمة “أوبك” ووكالة الطاقة الدولية لزيادة الطلب على النفط. تلك الزيادة السنوية التي يتصور البعض أن إنتاج الطاقة من مصادر جديدة كفيل بتعويضها، بل ويذهب البعض إلى أن طاقة الرياح والشمس وغيرها يمكن أن تجعل الطلب على النفط يأخذ في التناقص سنويا. ومرة أخرى، ظهرت تك التوقعات من قبل بأن النفط وصل إلى قمة المنحنى ولم نشهد تغييرا في المنحنى نحو النزول. فإما أن تلك القمة لم تأتِ بعد، أو أنها ممتدة في خط مستقيم لوقت طويل. وفي الحالتين يمكن القول ببساطة إن النفط باقٍ كمصدر رئيسي للطاقة في العالم، على الأقل في المدى المنظور.
لا يعني ذلك أن إنتاج السيارات الكهربائية، ووسائل النقل الأخرى، لن تزيد في المستقبل وربما تحل تدريجيا في غضون عقدين محل أغلب السيارات التي تعمل بالبنزين أو الديزل. لكن ستظل محطات توليد الكهرباء التي توفر الطاقة لتلك المركبات الكهربائية الجديدة تعمل بمشتقات النفط والغاز الطبيعي. ربما يتم التوسع في محطات توليد الطاقة التي تعمل بالوقود النووي أو غيره، لكن ذلك لن يقضي على محطات تعمل بالغاز ومشتقات النفط. فحتى الآن، هناك محطات توليد كهرباء تعمل بالفحم، وهو أكثر تلويثا للبيئة لكثافة مخلفاته الكربونية في الجو. يذكرني ذلك بمثال له علاقة بمهنتنا ـ الصحافة ـ وأقوال مماثلة عن توقعات نهاية النفط تلك. فمع اختراع الراديو، كانت التوقعات أن الصحافة المطبوعة ستختفي ولم يحدث. وحين تم اختراع التلفزيون قيل إن الصحافة والإذاعة انتهت، ولم يحدث وظل الجميع معا. ثم جاءت الإنترنت وأصبح الجميع في شكل رقمي.
في النهاية، فكل التطور التكنولوجي الذي ربما يقال إنه يقلل الاعتماد على أدوات الإنتاج التقليدية يحتاج إلى مزيد من الطاقة. وتلك الطاقة في آخر الأمر تحتاج للنفط، والمصادر الجديدة لتوليدها. وحتى الآن، وربما لعقود قادمة، يبقى النفط والغاز عماد تغذية دينامو الاقتصاد العالمي بالطاقة ـ في شكل مشتقات أو تغذية محطات توليد الكهرباء لتلبية الطلب المتزايد على استهلاكها خصوصا من منتجات التكنولوجيا الجديدة. طبعا، ليس المقصود ألا تخطط الدول وتتحسب لما “بعد النفط” من باب تنويع اقتصادها والاستثمار أيضا في مصادر الطاقة الجديدة ـ فهي في النهاية فرصة أيضا للتنويع وتنشيط الاقتصاد.
Source: alwatan.com/details/421658Alwatan كتب:
في آراء 14 أبريل,2021
نسخة للطباعة