سعود بن علي الحارثي:
يتطلع المسلمون بحب واشتياق إلى رمضان، فهو شهر استثنائي تتنزل فيه الرحمات وتتضاعف البركات، يسألون الله العلي القدير أن يبلغهم إياه قبل أن يصيبهم مرض أو مكروه أو موت يحرمهم من ثواب ورزق صومه وأجر عبادته المضاعف. ما أن يدخل شهر رجب الأصم حتى يتدفق نهر السعادة والفرح والحب والشعور بالتحوُّل من حال الرتابة والخمول ونمط الحياة وبرنامجها الممل السائد على مدى عشرة أشهر، إلى إحساس بالحيوية والنشاط واللهفة والشوق إلى إطلالة الضيف القادم، الذي لا تبلغ مكانته في مقامها وعليائها أي ضيف آخر. نعد الساعات والأيام التي تفصلنا عن هلال رمضان والتي تتناقص شيئا فشيئا صباح كل يوم جديد، يولد هلال شهر شعبان، الذي يسميه العرب بـ”القصير” و”العجلان”؛ لأن المسلم لا يشعر بحركة أيامه وهو في انشغاله واستعداده وتهيئه نفسيا وروحيا للشهر الفضيل، للصوم والعبادة وتغيير برنامجه اليومي الذي سوف يختلف كلية في أكله وشربه وعمله وسلوكه وحديثه وصلاته وقراءته للقرآن وابتهاله وزياراته لأرحامه… أو “سموه بذلك استعجالا لرمضان”، وبعضهم يطلق عليه الطويل لشعورهم بأن حركته في نظرهم بطيئة وهم في تطلعهم ولهفتهم إلى رمضان. في رمضان تجتمع العائلة الكبيرة على مأدبة الفطور والعشاء والسحور، والأسر الصغيرة تنتقل من بيت إلى آخر ليلتئم شملها ضمن الحاضنة الأكبر، فرمضان شهر التجمع واللقاءات والسعادة والمشاعر الحميمية الصادقة. وفي رمضان تتجسد بشكل أعمق فداحة الخسائر وألم الفقد، وتستعر حرارة الذكريات في القلوب، وتحتشد الصور والمشاهد لمواقف وأحداث وشخوص وأزمنة لن نراها ولن نلتقي بها، ولن تتكرر مرة أخرى. في رمضان تتعمق الأحزان بفقد أُم حنون أو أب عطوف أو زوج محب أو ابن حبيب… كانوا في حضرة الشهر المبارك وجزءا من زخم برنامجه وعمادا من أعمدة المشهد في العام المنصرم، فغيبهم الموت وافتقدهم الزمان والمكان وتركوا ثلمة لا تسد. وبين رمضان ١٤٤1 ورمضان ١٤٤2 حدثت تحوُّلات عميقة انفطر من هولها قلبي واهتز عقلي حتى كدت أفقده، قلبت حياتي وشطرت نفسي إلى أجزاء تشبه انكسار الزجاج والمرايا، فيا لوحشة الحياة عندما يفقد الإنسان أُمَّه، ويسلبها منه الموت، فيستقبل الرمضانات والأعياد بدون أُم، بعد أن صام معها أكثر من خمسة وأربعين رمضانا دون أن يفارقها في أي منها؟ فكيف سيكون حاله في الرمضان الأول لغيابها بدون أن يسمع تلاوتها للقرآن ويراها خاشعة راكعة في زوايا غرف ومجالس البيت، وصوتها وهي تنبهه إلى أوقات الصلاة وتأمره بالتوجُّه إلى المسجد، ومكانها على سفرة الإفطار خالٍ موحش…؟ فهل أستسلم يا ترى لهذا الفقد وأحزانه وأوجاعه وآهاته وأصبح أكثر هشاشة فتذروني الرياح؟ أم أبذل جهدي في سبيل التعافي والخروج من أزماتي وأجعل من هذا التحوُّل ـ المصيبة ـ دافع خير وقوة وولادة جديدة تكون فيها حياتي أكثر وعيا وفهما للحياة وتقلباتها، وقدرة وتمكنا من مواجهة عواصف رياحها وكوارثها وهزاتها العنيفة؟ وأدرك بأن الموت حق علينا جميعا، والحياة الدنيا “دار فناء لا بقاء”، وما هي إلا “أحزان مؤجلة” ويوم علي وما بعده على قرين آخر، وجميعنا في نهاية المطاف راحلون، تقدم من تقدم، ومن تأخر منا ففي طريقه لا محالة إلى ذات النهاية وإن طال به العمر، وعلينا أن نواجه الأزمات والمصابات بروح صلبة وقلب قادر على تجاوزها قارئ لحكمتها ودروسها، وهذا ما أبذل جهدي لممارسته وتطبيقه وتنفيذه على نفسي في هذه الأيام الفاصلة من حياتي. وعلى مستوى المشهد العام وبين رمضان 1441ه حيث حرمنا فيه “كورونا” من الصلاة جماعة في المساجد ومن حلقات القرآن والتجمعات العائلية واحتضان الأحباب وأفراد أسرنا… وعلى مدى أكثر من ثلاثة عشر شهرا كئيبة، نتجرع فيها كؤوس المرارة ونعيش آلام الفقد، ونجترُّ وجع ما تخلِّفه لنا الجائحة من خسائر جسيمة، ودعنا رمضان الفائت والعيدين الفطر والحج ونحن نعيش أجواء العزل والحظر وسياسات الإجراءات والاحترازات والكمامات وإعلانات الإصابات والوفيات بـ”كوفيد ١٩” أو بغيره، ولا نملك مشاركة صديق ولا قريب أحزانه وأفراحه، وبثه جسدا بجسد حرارة المشاعر، فها هو رمضان 1442ه يشرفنا ولا يزال هذا الوباء جاثما على العالم، يلحق الخسائر في بلدانه وعلى مجتمعاته، وما زالت الاحترازات والإجراءات على حالها وأرقام الإصابات والوفيات ترتفع، وما علينا إلا التأقلم مع الوضع الاستثنائي والتقيد بتعليمات اللجنة العليا، والثقة في الأمصال واللقاحات التي أنتجها لنا العلم وعقول العلماء، وتقدير جهود الحكومة في ضمان وصولها إلى البلاد على دفعات متواصلة، واستثمار رمضان في تكثيف الدعاء إلى الله العلي القدير بأن يرفع عنا هذه الجائحة سريعا، متطلعين بأن نستقبل رمضان القادم وقد برئنا من “كوفيد ١٩” وشفي العالم من هذا الوباء الذي كلَّفه خسائر باهظة لم يشهد مثيلا لها في عصره الحديث.
Source: alwatan.com/details/421798Alwatan كتب:
في آراء 17 أبريل,2021
نسخة للطباعة
