د. رجب بن علي العويسي:
تؤدي التقنيات الحديثة وفضاءات العالم الافتراضي المفتوحة دورا محوريا في حوكمة المؤسسات، وترسيخ مشاركة المواطن في جهود التنمية والتطوير عبر هذه المنصات، بما أتاحته له من فرص التعبير عن ذاته، وإيصال صوته ورأيه إلى الحكومة ومؤسساتها والرأي العام، حيث أصبحت أداة لتقييم الجهد المؤسسي، وقدمت بدورها الهاشتاقات وصرخات الاستغاثة، وإثارة بعض القضايا عبر هذه المنصات والتي تمس عمل المؤسسات وكشف أوراق بعضها، وإعطاء صورة واضحة حول الأداء الحكومي، واستثارت الرأي العام حول الكثير من القضايا المطروحة، عزز من متابعة المؤسسات لما يدور في هذه المنصات، واهتمامها بما يطرح عبر فيها من قضايا، وأسهمت كأقل ما يقال في تقديم إجابة أو بيان مؤسسي لتوضيح الصورة حول الموضوع المثار، والقرارات والتوجهات التي اعتمدتها بشأن تحسين الوضع أو الوقوف على الواقع ورصد تجليات الحدث، كما أسهم في فتح المجال للالتقاء بالمواطن والاستماع إليه والإنصات له، وإشراكه معا توفير البدائل والحلول والمبادرات التحسينية، كداعم يضع مؤسسات الجهاز الإداري للدولة أمام مسؤولية تشخيص الحالة وإدارة الواقع والعمل على تحسينه واتخاذ إجراءات عملية ومبادرات جادة وحزم تحفيزية وتطويرية لتبسيط الإجراءات وتقليل الهدر والحدِّ من فاقد العمليات المتكررة، نظرا لما تتميز به المنصات التواصلية من خصوصية التفاعل وسرعة الانتشار، وإمكانية الوصول إليها من كل أطياف المجتمع ومجتمع الشباب بشكل خاص، الذي يشكل الفئة الأغلب حضورا في هذه المنصات، وما تتميز به من إمكانية توظيف نواتجها والاستفادة مما يطرح فيها باستخدام عمليات التحليل والإحصاء واستطلاعات الرأي والمسوحات الدورية والتشخيص المستمر للحالة، الذي يساعد على تحديد اتجاهات الأفراد وقياس الرأي العام، وتوفير الحلول والبدائل لإدارة معطيات الواقع.
على أن التوجُّهات العالمية في دور التقنية والفضاءات المفتوحة والحضور المؤسسي الواسع اليوم في هذه المنصات، وما توفره من بيانات ومعلومات ومعارف ومشروعات لم تعد ترفا فكريا أو حالة مزاجية وقتية للمؤسسات أو مساحة للتسويق الإعلامي للمؤسسة، كما لم يقصر دورها على تبسيط الإجراءات، وتقليل اللامركزية، وتسهيل التواصل عبر التطبيقات الإلكترونية في الهواتف الذكية التي تتبناها المؤسسات في سهولة ويسر تقديم خدماتها الإلكترونية وسرعة الوصول إليها في ظل الظروف الحالية والتي أفصحت عن أهمية هذه التوجُّهات في التعاطي مع ما فرضته جائحة كورونا “كوفيد19″، من تحديات؛ بل اتَّجه العمل اليوم إلى علاقة هذه التقنيات بتجويد الأداء المؤسسية وتحقيق الابتكارية والاستدامة فيه، وفق آليات مقننة تستهدف تعظيم استثمار منصات التواصل في شراكات تفاعلية مع المواطن، وصناعة نموذج مؤسسي يستجيب لتطلعات المجتمع ويستفيد من مرئياته، ويحاكي في كفاءته تطلعات الشباب واهتماماتهم، وتصبح المنصات التواصلية بهذا المعنى أسلوبا في الإدارة والتطوير يسهم في تحقيق معايير الحوكمة القائمة على توظيف مرئيات المجتمع ومشاركته في تحقيق رسالة المؤسسة وأهدافها وتقييم نواتج أدائها؛ لذلك لم تعد مسألة مشاركة المواطن في تقييم أداء الجهاز الإداري للدولة قائمة على تكهنات شخصية، وانطباعات ذاتية، ومزاجية رؤساء الوحدات الحكومية ومن في حكمهم، بل ضرورة حتمية وخيار استراتيجي، يتم وفق معايير وأسس واشتراطات تترجم على هيئة إحصائيات رقمية، ومؤشرات أداء نوعية لقياس مستوى التقدم الحاصل في منظومة الأداء الحكومي.
ولمَّا كان الشباب أكثر الفئات حضورا في هذه المنصات وتقع عليهم اليوم مسؤولية المشاركة الجادة في تعزيز الأداء الحكومي، فإن استثمار الحضور الشبابي في المنصات التواصلية، وإيجاد أدوات للرصد والتقييم والتشخيص، وتوفير نماذج للقياس وتحليل الآراء والاستفادة من الحوارات والنقاشات وتوجيهها لصالح العمل المؤسسي الكفء، والانطلاقة منها لتنفيذ أولويات والخطط والبرامج، والتعريف بالمبادرات وتقييمها من خلال تبني نماذج للقياس والتقييم توظف عبر هذه الوسائط سوف يسهم في تعزيز الفرص جودة الحياة المؤسسية وترسيخ معايير المنافسة فيها؛ هذا الأمر يستدعي اليوم وجود مختبر وطني متخصص يقرأ فكر الشباب ومبادراته ويجسد طموحاته في رفد المؤسسات، ويستفيد من أطروحاته في تحليل بيئة العمل وتصحيح انحرافات الواقع، وفي الوقت نفسه تبرز جوانب القصور، وعلامات الاستفهام التي يطرحها المواطن، والإشارات والتعبيرات التي يطلقها عبر هذه المنصات، هذا الأمر من شأنه أن يوفر معلومات أكثر ارتباطا بالواقع اليومي، ويقلل من مساحة الاجتهادية والتكهنات، ويعطي صورة واضحة حول كفاءة الإجراءات التي اتخذتها مؤسسات الجهاز الإداري للدولة ذات العلاقة في التعاطي مع الموضوع المثار، وآلية التعامل معه، والبدائل والحلول المناسبة لصناعة نموذج مؤسسي واعد، يجسّد هذه الأنماط التفاعلية في نظامه الداخلي والعمليات الإدارية للمؤسسات؛ وبالتالي أن تقرأ في هذه الشراكة المرتقبة، مرحلة جديدة تضع المؤسسات أمام مسؤولية إعادة ترتيب بيتها الداخلي وتصحيح ممارساتها، وبناء ذاتها، والتسويق لبرامجها، وإدارة حالة الاحتقان الاجتماعي الناتجة عن بعض السياسات، والحواجز التي يفرضه بعض رؤساء الوحدات في الاحتكاك بالواقع، فإن ما يظهر في المنصات التواصلية من نقد وتشاؤم، أو تقييم وتشخيص، أو مناقشات ومداولات وآراء وتغريدات إنما يستهدف تقليل جانب الخطأ، وتوجيه المؤسسة نحو الوصول إلى مكمن المشكلة والمساعدة في توفير بدائل الحل والمعالجة، لذلك كان عليها أن تتعاطى مع ما تطرحه هذه المنصات من نقد وتصحيح وتشخيص بحكمة وتقبل واستشعار لعظمة المسؤولية.
عليه، وفي إطار رؤية عمان 2040 وخطاب عمان المستقبل الذي حدد ملامح العمل الوطني والأداء الحكومي وفق منظومة إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئ وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة، تأتي أهمية تبني نظام وطني يستهدف تعظيم القيمة المضافة لما يطرح من أفكار ومعلومات وأطروحات، أو يعرض من تجارب وخبرات، وما يتاح فيها من لقاءات وحوارات بشكل توجَّه نتائجها، بعد عمليات التبويب والتنقيح والتلخيص والتطوير وإعادة صياغتها إلى المؤسسات المعنية بالمجال، التي عليها أن تتخذ إجراءات المتابعة والتنفيذ وقياس الرجع الناتج، وبما يسهم في رفد متخذ القرار بالبيانات والمعلومات والخبرات والمقترحات التي تعزز من جودة الأداء، وفق أطر تشريعية تتسم بالمرونة والكفاءة والمهنية، وأن يتبع ذلك وجود تقسيمات بالمؤسسات تعمل على تحليل ما يرد في المنصات التواصلية ودراستها، بما يضمن للجهد المؤسسي الاستدامة والابتكارية والمنافسة واضعا المواطن بصره وبصيرته وطريقه لصناع الفارق.
أخيرا، تبقى شراكة المواطن في تقييم أداء الجهاز الإداري للدولة مرهونة بمساحة المشاركة الممنوحة له في عملية التقييم، فإن تحقيق نموذج وطني لشراكة المواطن عبر التقنيات الحديثة، يستدعي اليوم توفير الممكنات الداعمة لصناعة مواطن يمتلك مهارات استخدام التقنيات وتوظيفها في مساعدة المؤسسات على بناء ذاتها، وتصحيح ممارساتها، والوفاء بالتزاماتها، وتوظيف مواردها، بحيث تجد في ثقافة المجتمع ووعيه والوقت الذي يمنحه للتقييم، فرصتها لبناء مرحلة جديدة من العمل المشترك، وترسيخ عادات تواصلية قادرة على تحويل نواتج ما يقدمه المواطن عبر هذه المنصات من ردود فعل وتغريدات وتعقيبات ومناقشات وحوارات لصالح مساعدة المؤسسات في جدية الوقوف على مسؤولياتها، وإعادة إنتاج السلوك المؤسسي ـ ثقافة العمل والتكامل في تنفيذ المهام والاختصاصات ـ بما يتوافق مع حجم الطموحات الوطنية وتعاظمها؛ بالإضافة إلى وجود قاعدة بيانات متكاملة بالخبرات المتخصصة والتجارب المجيدة وأصحاب النتاج العلمي الرصين والمؤثرين في المنصات التواصلية، في تعزيز تفاعلهم مع خطط المؤسسات، وتجاوبهم مع ما تطرحه في واقع عملها، لضمان دعم المؤسسات بهذه الخبرات والتجارب الوطنية؛ وهنا يقع الرهان الأكبر على ما يمكن أن يؤسسه اختصاصات ونظام عمل كل من اللجنة وجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة المشار إليهما في الفصل السادس من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (6/2021) بشأن المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي، حيث جاء في المادة (٦٥) “تنشأ لجنة تتبع السلطان، تختص بمتابعة وتقييم أداء الوزراء ومن في حكمهم، ووكلاء الوزارات ومن في حكمهم، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات العامة وغيرها من وحدات الجهاز الإداري للدولة، ورؤسائها أو رؤسائها التنفيذيين، ويصدر بتشكيلها ونظام عملها وتحديد اختصاصاتها الأخرى أمر سلطاني”. وجاء في المادة (٦٦) “ينشأ جهاز يسمى “جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة” يتبع السلطان، يختص بالمتابعة المالية والإدارية لوحدات الجهاز الإداري للدولة، وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، وذلك على النحو الذي يبينه القانون”، وبالتالي ما يمكن أن تخرج به من مرتكزات تشريعية تستحضر فيها دور المواطن ومشاركته في تقييم أداء مؤسسات الجهاز الإداري للدولة وفق أطر مقننة واستراتيجيات أداء واضحة، بالإضافة إلى ما يطرحه هذان النظامان من بدائل وفرص وخيارات عبر تحليل نواتج استطلاعات الرأي وردود الأفعال وقياس الرأي العام حول الأداء الحكومي، بما ما يتناغم مع موجهات خطاب عمان المستقبل من خلال تمكين المواطن من المشاركة في تقييم الأداء الحكومي.
Source: alwatan.com/details/422564Alwatan كتب:
في آراء 24 أبريل,2021
نسخة للطباعة
											