منذ أن تفشى فيروس كورونا، اكتشفت الشركات معلومات لم نفصح عنها من قبل عن تفاصيل حياتنا الشخصية، فهل سيوظف المديرون هذه المعلومات لتحسين حياتنا العملية، أم أن الإفصاح الزائد عن المعلومات قد ينعكس سلبا على مستقبلنا المهني؟
قبل تفشي فيروس كورونا، كانت غيل كورنوول، التي تبلغ من العمر 40 عاما وتكتب عن التنشئة والتعليم، تتحدث عن أطفال الآخرين أكثر مما تتحدث عن أطفالها بمراحل. وكانت تنجز معظم أعمالها بعد ذهاب أطفالها إلى المدرسة. لكن بعد الوباء، أصبح جميع أطفالها الخمسة، الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاما، يقضون كل وقتهم في المنزل.
وتقول كورنوول، التي تعيش في سان فرانسيسكو: "عاد اثنان فقط من أطفالي إلى المدرسة بدوام جزئي". وتتحدث الآن كورنوول رغما عنها كثيرا عن أطفالها، وكثيرا ما تستهل المكالمات الهاتفية بتحذير المتحدث من أن منزلها مليء بالأطفال وقد يقاطعونها في أي لحظة. وتقول: "من الأفضل أن يتوقع المتحدث المقاطعة بدلا من أن يفاجأ بها دون سابق إنذار".
وتغير أيضا إيقاع عملها، وتقول: "عند تحديد موعد تسليم العمل، أحاول أن أمنح لنفسي متسعا من الوقت لإنجاز العمل، وقد أتحجج للعميل بالقول: 'يمكنني تسليم العمل بعد أسبوعين، لكن من الأفضل أن نجعل موعد التسليم بعد أربعة أسابيع، لأن لدي في المنزل الآن الكثير من الأطفال وقد أتعطل لأسباب خارجة عن إرادتي'".
وقد وجد الكثيرون على مدى العام الماضي أنفسهم مرغمين على مناقشة مسؤولياتهم الشخصية أثناء الاضطلاع بأعباء العمل. في حين أن الموظفين قبل الوباء لم يكونوا ملزمين بالإفصاح عن أي معلومات عن شؤون حياتهم الخاصة لرؤسائهم، ولم تكن إدارة الموارد البشرية في المؤسسات الكبرى تعرف عن الموظف أية معلومات عن حياته الخاصة، بخلاف اسمه وعنوانه وتاريخ ميلاده.
لكن بعد أن أجبر الوباء الموظفين على العمل من المنزل، بات من الصعب الفصل بين حياتنا الخاصة وبين العمل، وأصبحنا مضطرين للكشف عن تفاصيل أكثر عن حياتنا الخاصة لأصحاب العمل.
وبينما يرى البعض أن الإفصاح للمديرين عن ظروفنا العائلية ومسؤولياتنا وحتى حالاتنا الصحية قد يساعدنا على تحقيق التوازن بين أعباء الأسرة والعمل، فقد أثار آخرون تساؤلات حول حجم المعلومات التي يمكننا أن نفصح عنها للمديرين عن حياتنا الشخصية، ومتى يعد الكشف عن المعلومات خرقا للخصوصية؟ وكيف تستخدم الشركات هذه المعلومات؟
صدر الصورة، Alamy
تدخل أم تفاصيل ضرورية؟
أصدرت مؤسسة "فوروورد"، غير الربحية بالمملكة المتحدة، تقريرا عن استجابة المؤسسات لفيروس كورونا، وتضمن التقرير ما أطلقت عليه المؤسسة "التحول الجذري في نوعية المعلومات التي يعرفها أصحاب العمل والتي ينبغي أن يكونوا على دراية بها، عن ظروف الموظف الشخصية".
وخلص الباحثون، بعد إجراء لقاءات مع مديرين في عدد من المؤسسات الكبرى، إلى أنه: "لم يكن أي من هؤلاء المديرين يعرف شيئا عن البيئات التي يعمل فيها موظفوهم قبل الأزمة"، أي قبل أن تتحول المنازل إلى بيئات عمل. وكانت استفسارات أصحاب العمل عن الظروف العائلية والمعيشية تعد تدخلا في شؤون الموظفين الخاصة.
غير أن هذه الاستفسارات، وكذلك التغييرات التي طرأت على السياسات استجابة للمعلومات التي جمعت عن الموظفين، اكتسبت أهمية كبيرة بعد الوباء. وتقول روث تيرنر، كبيرة المديرين بمؤسسة "فوروورد": "بمجرد ما أغلقت المدارس، أخذ الموظفون يظهرون في محادثات الفيديو عبر تطبيق زوم وهم يحملون أطفالهم. وكان الأقارب كبار السن أيضا الذين يرعاهم الموظفون أو يعيشون معهم حاضرين في الخلفية". وأصبح الكثير من أصحاب العمل، استجابة لذلك، أكثر مرونة مع الموظفين، وتفهموا أن الموظفين، الذين يتحملون أيضا مسؤولية رعاية أطفالهم وذويهم من كبار السن، مثقلون بالأعباء.
ورأى البعض أن ظهور الموظفين في محادثات الفيديو من منازلهم كشف الكثير عن أوضاعهم المعيشية، التي كانوا يفضلون كتمانها عن أصحاب العمل قبل انتشار العمل عن بعد، فمنهم من يعيش في قبو منزل والديه سواء بسبب الطلاق أو تعثره في سداد الدين، ومنهم من يعيش في شقة صغيرة مع ثلاثة بالغين آخرين.
وقد أصبح الآن الإفصاح عن بعض المعلومات عن الحياة الخاصة ضروريا، لأن أصحاب العمل قد يكونون ملزمين بتهيئة بيئة العمل المناسبة التي تساعد الموظفين على إنجاز مهام الوظيفة.
وأجريت دراسة حديثة على أكثر من 30 ألف موظف على مستوى العالم وخلصت إلى أن أكثر من 40 في المئة من الموظفين يفتقدون لوازم المكتب الأساسية في المنزل، وأن واحدا من كل 10 موظفين غير متصلين بشبكة الإنترنت ولا يمكنهم تأدية وظائفهم بكفاءة. وربما ينبغي أن يحدد أصحاب العمل مدى التزام الشركة بحل هذه المشاكل للموظفين قبل تقييم قدرة الفرق على مواصلة العمل عن بعد.
وتقول تيرنر: "إذا كنت تنوي تطبيق أنظمة العمل المرنة التي تتيح للموظفين العمل من المنزل، سواء اختياريا أو إجباريا، فمن سيتكفل بسداد فواتير الإنترنت؟ وإذا لم يجد الموظف مكانا لتأدية مهام الوظيفة سوى الفراش، فهل ستمنعه الشركة من مزاولة أعماله لأن بيئة العمل في المنزل لا تتفق مع سياسة الصحة والسلامة في الشركة؟ وكل هذه الأسئلة، على أهميتها، لم تجد إجابة بعد".
صدر الصورة، Alamy
"هل ستتغير معاملتهم لي؟"
وبخلاف الظروف العائلية ومسؤوليات الرعاية، قد يضطر بعض الموظفين للإفصاح عن حالتهم الصحية التي كانوا سابقا يخفونها عن الآخرين.
وتقول تيرنر: "شعر الموظفون أن عليهم الإفصاح عن أمراضهم المزمنة وإعاقاتهم، التي لم يرغبوا في الكشف عنها لصاحب العمل في الماضي، لأنهم أصبحوا عرضة للإصابة بفيروس كورونا".
ويقول بريندان روش، مدير الإستراتيجيات والشبكات بشبكة "بيربل سبيس" في لندن لإتاحة موارد التنمية المهنية للموظفين ذوي الإعاقة، إن الموظفين ذوي الإعاقة أو الذين يعانون من أمراض مزمنة وإصابات يمثلون 10 في المئة من القوى العاملة على مستوى العالم، لكن أصحاب العمل قد لا يعرفون شيئا عن إعاقات الموظفين التي قد تكون غير مرئية.
ويقول روش: "الكثير من الإعاقات قد لا تكون ظاهرة، مثل عسر القراءة أو القلق وحتى مرض السكري. وقد غير الوباء طبيعة المعلومات التي ينبغي أن يعرفها صاحب العمل عن صحة الموظف، وهذا يعد أمرا إيجابيا، لأنه أتاح للموظفين والمديرين التحدث صراحة عن الصحة والعمل".
وقبل الوباء، كان الموظفون ذوي الإعاقة غير المرئية يؤثرون كتمان المعلومات ذات الصلة بحالتهم الصحية، ويعزو روش ذلك إلى الخوف. ويقول: "قد يقول الموظف هل ستتغير معاملة صاحب العمل لي إذا أخبرته عن حالتي الصحية؟ أو ستمنعني هذه المعلومات من الترقي الوظيفي؟"
مشكلة الثقة
فضل الكثير من الموظفين على مر السنين النأي بالنفس عن المشاكل في العمل وإخفاء شؤون حياتهم الخاصة عن صاحب العمل، وقد يرجع ذلك إلى مخاوف ذات الصلة بالخصوصية، أو بسبب الخوف من أن يؤثر الإفصاح عن كل صغيرة وكبيرة في حياتهم الخاصة لصاحب العمل سلبا على مستقبلهم المهني.
ولهذا كان الكثير من الآباء والأمهات لا يتحدثون في بيئات العمل عن مسؤوليات رعاية الطفل والتربية تجنا للوصم بأنهم غير قادرين على إنجاز العمل أو مشتتو الانتباه أو غير ملتزمين. وهذه المخاوف مبررة، فقد أشار تقرير إلى أن حالات التمييز ضد الموظفين بسبب المسؤوليات العائلية في الولايات المتحدة تضاعفت ثلاث مرات في الفترة بين عام 2006 و2015.
صدر الصورة، Alamy
وعلى الرغم من أن الوباء أجبر الكثير من الموظفين على التحدث مع الرؤساء عن المسؤوليات العائلية والبيئات المنزلية وأيضا الحالة الصحية والإعاقات، فإن الأسباب التي كانت تدفع الموظفين لكتمان هذه المعلومات لم تتلاش بعد.
وتقول تيرنر إن مسؤولية عدم تعرض الموظف للتمييز أو انسداد آفاق الترقية أمامه جراء الإفصاح عن هذه المعلومات تقع على عاتق صاحب العمل، الذي يلتزم أيضا باستخدام هذه المعلومات بطريقة مسؤولة. وتصف تيرنر ذلك بأنه "مسألة ثقة ضمنية. فإذا شعرت أن صاحب العمل يضع مصالحك في مقدمة أولوياته، أو يحقق التوازن بين احتياجاتك وبين متطلبات المؤسسة، لن تشعر بالحرج من البوح له بمخاوفك الصحية أو إعاقتك".
وتقول تيرنر: "إن الأفراد لديهم توقعات مشروعة بأن تحافظ الشركة على سرية المعلومات التي كانوا يفضلون كتمانها في المعتاد. وستزداد أهمية سياسات خصوصية المعلومات، إذ ينبغي أن يعرف العاملون لماذا تحتاج الشركة لهذه المعلومات، ولمن الحق في الاطلاع عليها، والأغراض التي ستستخدم فيها هذه المعلومات".
ويرى روش أن التحدث مع المديرين عن المسؤوليات والمشاكل الشخصية، سيكون مدخلا نحو تغيير طبيعة الوظائف لتلبية احتياجات ومتطلبات الموظفين، وليس العكس. ويقول: "أتاحت التغيرات في بيئة العمل على مدى العام الماضي للموظفين التعرف على جوانب أخرى من حياة رؤسائهم، بعد أن شاهدوهم في غرف المعيشة يرتدون الملابس الرياضية".
ويعتزم بعض هؤلاء الرؤساء إقامة بيئات عمل تلبي احتياجات الموظفين ولا يتعارض فيها العمل مع الحياة الشخصية.
وإذا كان الإفصاح عن المزيد من المعلومات لأصحاب العمل سيفضيِ في النهاية إلى خلق بيئة عمل مرنة تساعدنا على الاضطلاع بمهام العمل جنبا إلى جنب مع مسؤولياتنا ومواجهة تحدياتنا ومشاكلنا التي تمثل جزءا من حياتنا، فإن هذه النتائج تستحق التضحية ببعض الخصوصية.