العلم والتنمية

    • خبر
    • العلم والتنمية

      Alwatan كتب:

      د. أحمد مصطفى أحمد:
      تستهدف الصين في خطتها الخمسية القادمة زيادة الإنفاق على البحوث والتطوير بشكل كبير، وذلك ضمن استراتيجية حكومية لتقليل الاعتماد على الواردات في تلبية الطلب المحلي المتصاعد. وحسب مسودة الخطة ستزيد الحكومة مخصصات البحوث والتطوير بنسبة سبعة في المئة سنويا حتى عام 2025. والغرض هو أن تصبح المكونات في المنتجات الصينية الصناعية محلية إلى حد كبير ما يمثل قيمة مضافة أكبر، ويخرج الصين بسرعة من سنوات اعتبارها مجرد بلد للتصنيع قليل الكلفة من قبل الشركات العالمية متعددة الجنسية. فمثلا، تريد الصين التقليل من استيراد أشباه الموصلات، بما في ذلك الرقائق الإلكترونية التي أصبحت مكونا أساسيا في أغلب المنتجات الصناعية الآن. ويعاني العالم منذ العام الماضي أزمة خانقة في الرقائق الإلكترونية عطلت صناعة السيارات في أوروبا وأميركا الشمالية.
      صحيح أن الصين تسعى منذ سنوات لتغيير استراتيجيتها الاقتصادية بعدما استفادت من سنوات طويلة من تحول الصناعات العالمية إليها باعتبارها بلدا قليل الكلفة الإنتاجية ومنصة لإعادة التصدير، لكن الخطة الخمسية الجديدة تركز على التوسع في زيادة القيمة المضافة للمنتج الصيني المحلي. والسبيل الأمثل الذي ينتهجه البلد الذي أصبح اقتصاده ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعدما كان في مصاف الدول النامية التي تتلقى دعم المؤسسات الدولية، هو الاستثمار في العلم. فالزيادة الهائلة في إنفاقها على البحث والتطوير يذهب الجزء الأكبر منها للبحوث الأساسية؛ أي الاعتماد على العلم. وهكذا، رغم كل التطور الاقتصادي والتوسع الذي يبهر العالم تهتم الصين بالبحث العملي كأساس لمزيد من التنمية والقدرة على المنافسة في العالم.
      لا غرو أيضا أن تخصص إدارة الرئيس الأميركية جو بايدن المليارات للأبحاث والتطوير للحاق بركب صناعات تكنولوجية تخلفت فيها الولايات المتحدة بعدما كانت تقود التطور العلمي والابتكار العالمي فيها. وهكذا تفعل بريطانيا، وإن بقدر أقل، خصوصا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي وسعيها لأن تكون مركز تقدم علمي وتكنولوجي. وإذا كانت الدول المتقدمة والاقتصادات الكبرى تزيد إنفاقها الحكومي على البحث والتطوير لتنافس وتتجه نحو مزيد من التقدم، فما بالك بالدول الصاعدة والنامية التي تحتاج إلى جهود مضاعفة لدفع مسيرة التنمية فيها. صحيح أن تلك الدول الأخيرة ربما تواجه مصاعب اقتصادية، ضاعفتها أزمة وباء كورونا بما أدت إليه من زيادة الدين العام وعجز الميزانية في أغلب تلك الدول. كما أن هناك قطاعات أساسية تحتاج إلى استثمارات ضخمة وإنفاق حكومي كبير، ولو بالاقتراض، مثل التعليم والصحة التي كشفت أزمة كورونا الحاجة إليها. لكن البحث والتطوير، والاستثمار في البحث العلمي في غاية الأهمية أيضا، كما أنه استثمار عالي المردود لو قيس الأمر بغير حسابات السوق التجريدية. فالاستثمار في البحث والتطوير يرفع من نسبة القيمة المضافة في المنتج المحلي (السلعي والخدمي) وبالتالي يزيد من قدرته على المنافسة. ويحقق ذلك مردودا ماديا مباشرا إما بالحدِّ من الاستيراد لصالح المنتج المحلِّي المستفيد من البحث والتطوير أو للمنافسة الأقوى في السواق الخارجية.
      منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، تراجعت مخصصات البحوث والتطوير في الميزانيات الحكومية، ولم يعد البحث العلمي في الجامعات والمعاهد الحكومية رائدا لقلة الاعتمادات والاختصاصات. وترك هذا الجانب تقريبا للقطاع الخاص، الذي يهتم بالبحث والتطوير في قطاعات إنتاجه من سلع وخدمات وينفق عليه بقدر ما ينعكس على العائدات والأرباح على المدى القصير أو المتوسط في أفضل الأحوال. ووصل الأمر في كثير من البلدان في العالم أن أصبحت البحوث الأساسية (البحث العلمي الأساسي) التي غالبا ما تكون في الجامعات والمعاهد العلمية تعتمد على منح القطاع الخاص التي لا تأتي إلا مرتبطة بأهداف محددة. وأضر ذلك إلى حدٍّ كبير بالبحوث الأساسية، وانعكس ذلك على المجتمعات بشكل أشمل وليس فقط القطاع العام أو الخاص فحسب.
      لعل أزمة وباء كورونا، بما مثَّلته من تحديات علمية في مجال الطب والدواء تكون عاملا محفزا لعودة اهتمام الحكومات بالبحث والتطوير، خصوصا البحوث الأساسية التي قد لا يرى القطاع الخاص طائلا مباشرا وقويا لاستثماره فيها. وليكن ذلك مكملا للاستثمار في القطاعات التي تهتم بها لحكومات الآن من تعليم وصحة ومشروعات بيئية ذكية وتطوير تكنولوجي وما شابه. فبدون البحوث الأساسية وزيادة مخصصات البحث والتطوير إجمالا ضمن الميزانيات العام للدول ستتكرر الأزمات المشابه لوباء كورونا. ليس بالضرورة أزمات صحية عالمية وإنما أزمات أخرى في مجالات مختلفة من حياة البشر واستغلالهم للأرض لضمان استمرار معيشتهم. كما أن الاستثمار في البحث والتطوير ضروري جدا لابتكار نشاطات بشرية جديدة والدخول في قطاعات اقتصادية ذكية تسهم في التوازن على كوكب الأرض بين موارده المحدودة وزيادة أعداد البشر المطردة عليه.
      لقد كشفت أزمة وباء كورونا أن العالم كله في الهم سواء، المتقدم منه والنامي الغني منه والفقير، وأن تراجع البحث العلمي أصبح سمة عامة مع خفض الإنفاق الحكومي عليه في أغلب البلاد. ورغم أن البحث والتطوير في الشركات الخاصة أفاد نسبيا، إلا أنه كما قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كان بدافع “الجشع الرأسمالي” الذي مكَّن شركات الدواء من تطوير لقاحات بسرعة وبكميات كبيرة.

      Source: alwatan.com/details/423119