في العمق: نحو تفعيل دور المحافظات في العمل الاجتماعي

    • خبر
    • في العمق: نحو تفعيل دور المحافظات في العمل الاجتماعي

      Alwatan كتب:

      د. رجب بن علي العويسي:
      يمثل العمل الاجتماعي اليوم في اتساعه وعمقه وشموليته وتنوعه وارتباطه بالإنسان وتطوير المجتمع وتعزيز روح الاستدامة في الموارد وتكافؤ الفرص، مرحلة متقدمة من الوعي المجتمعي، تعبِّر عن روح التناغم الحاصلة بين أبناء المجتمع، وحس الشعور الإيجابي الذي يجمعهم من أجل بناء وطنهم وتحقيق أهدافه وطموحاته، ومساحة أمان يتشارك الجميع خلالها مسؤولية تحقيق روح المواطنة وترسيخ المسؤولية الاجتماعية، كل بحسب قدراته واستعداداته وتخصصاته، لضمان الإسهام في خدمة الوطن والمواطنين، وتقديم نموذج ريادي في البناء المجتمعي المسؤول والسلوك الاجتماعي المتفرد، وقد جاء في النظام الأساسي للدولة ما يشير إلى هذه المعاني التي تؤسس روح المودة والتعاون والتكافل والإخاء وفق مبادئ الحق والعدل والمساواة بين أبناء المجتمع، لإنتاج مجتمع القوة وبناء أرضيات أوسع لنمو ثقافة العمل الاجتماعي وترسيخ مفاهيمه وأُسسه وقواعده وفلسفته في ظل الاستفادة من الإرث الحضاري والقِيمي والتاريخي لعُمان، ومنظومة العادات والتقاليد، والهُوية العمانية التي جعلت أبناء عُمان على قلب رجل واحد، انطلاقا من مبادئ الإسلام العظيمة ونُهُجه القويمة الداعية إلى مقاصد الخيرية وفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق.
      ولمَّا كان العالم اليوم يعيش تحوُّلات في منظوماته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي وضع الدول والحكومات أمام مسؤولية توفير الممكنات الداعمة للعمل الاجتماعي، وفق سياسات واضحة ونهج حضارية متقدمة، واستراتيجيات وخطط وبرامج تضمن له القوة والاستدامة، والكفاء والإنتاجية بالشكل الذي يخدم أكثر شرائح المجتمع، ويكون وسيلته في مواجهة الظروف المتغيرة وتخفيف تأثيرها على حياة الفرد والمجتمع، وإعادة تقييم آليات التعامل مع المستجدات الاقتصادية ليتجه إلى التقنين والتنظيم ووضوح المعايير وكفاءة الاشتراطات لضمان استمرارية تحقيق أهدافه بكفاءة عالية، وفي ظل عمل مستمر من التحسين والتطوير والتجديد في منظومة العمل الاجتماعي، ليصبح أكثر مهنية واحترافية، ليتسع في مفاهيمه وأهدافه وبرامجه وأجندة عمله، بحسب تشعب ظروف الناس وتنوع احتياجاتهم وتعدد مطالبهم، وتغاير مصالحهم، وارتباط العمل الاجتماعي بمبادئ الحوكمة وغايات التنمية المستدامة، فشمل بالإضافة إلى العمل التطوعي، والضبط الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعية، والأعمال الخيرية، وفك كربة، ومساعدة محتاج، والأسر المنتجة، وذوي الدخل المحدود، وإعانة أسرة، وإفطار صائم، ومساعدة الملهوف والمتضررين من أبناء المجتمع من الكوارث والأزمات وتوفير أماكن الإيواء، والوقوف على الظواهر الاجتماعية والنفسية في المجتمع، والجمعيات الخيرية، والصناديق الوقفية، والتعامل مع القضايا الإيجارية والمديونيات المرفوعة على عدد من المدانين بالمحاكم في قضايا مالية نتيجة تعثرهم عن سدادها، في قائمة غير منتهية يمثل العمل الاجتماعي فيها مساحة للمنافسة، وشاهد إثبات على الحس الاجتماعي الوطني.
      وعليه، فإن إسقاط منظومة العمل الاجتماعي على نظام المحافظات والشؤون البلدية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/2020) إيذانا بمرحلة جديدة يمارس فيها المجتمع دوره الريادي الفاعل في العمل الاجتماعي وفق أطر واضحة واستراتيجيات دقيقة وخيارات أوسع، التي تتيح لها مساحة أوسع لبناء منظومة اجتماعية كفؤة قادرة على استيعاب التحولات الحاصل في منظومة العمل الاجتماعي، لتمكين المحافظات من القيام بدورها الاجتماعي، المستمد من واقع الخبرة والتجربة، وقدرتها على إعطاء صورة مكبرة حول العمل الاجتماعي بالمحافظات، كونها أعلم باحتياجات المواطنين وظروف السكان فيها، في ظل الصلاحيات الإدارية والمالية التي تتيح لها مساحة مرونة أوسع في تقديم منتج اجتماعي يتناغم مع حجم الموارد والإمكانات المالية المتاحة، ويستوعب حجم الدعم المقدم من مؤسسات المجتمع المدني، وأصحاب الأيادي البيضاء، وذوي الاستطاعة المالية في المجتمع، ورواد الأعمال وأصحاب الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها، وليمنح المحافظات بعدا استشرافيا في تقييم الحالة الاجتماعية واستيعابها وتشخيصها، والمشاركة في تقديم الحلول والبدائل في التعاطي مع معطيات الواقع الاجتماعي باعتبارها أحد الهواجس الاجتماعية التي باتت اليوم تشكل مصدر قلق اجتماعي يجب التعامل معها بمهنية، ويصبح التقنين في هذه المسألة فرصة لتقديم نموذج عمل ريادي اجتماعي يتفاعل مع شرائح المجتمع، ويوفر موارد رزق مناسبة للمواطنين، والباحثين عن عمل والمسرحين، ويتيح للأسر فرص الاعتماد على نفسها، والخروج من دائرة العسر أو الضمان أو الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها، لتعتمد على نفسها وتنتج مواردها، ومعنى ذلك أن الحديث عن تفعيل دور المحافظات في مواجهة الظروف الاقتصادية، خيار مجتمعي يقود إلى بناء أرضيات أوسع للتكامل والتعاون والحوار، وتكافؤ الفرص، والروح المعنوية الإيجابية في استنهاض همم المجتمع ودوافعه، واستنطاق قِيَمه وعاداته وتقاليده في تقديم نموذج عملي في العمل الاجتماعي المسؤول.
      على أنه يمكن استشراف البعد الاجتماعي في نظام المحافظات والشؤون البلدية، من خلال دور المحافظات في تعزيز مفهوم الضبط الاجتماعي، وتوجيه مجتمعها نحو تحقيق معايير الالتزام بالقواعد والضوابط والأسس التي تقرها السياسة العامة للدولة، بما يضمن المحافظة على روح التناغم والتقارب في النسيج الاجتماعي، ومنع كل أشكال الهدر الذي يسهم في إثارة القلق وإقلاق السلوك العام؛ والاستفادة من كل منظومات المجتمع وخيوط التأثير فيه الدينية والتعليمية والثقافية والأمنية والخبرات والكفاءات البشرية بالمحافظة في إعادة إنتاج الهامل منها بطريقة تتناغم مع طبيعة التحولات الحاصلة في منظومة العمل الاجتماعي واتساع مساراته، وبحسب الإمكانات والقدرات وطبيعة المهام التي تقوم بها وبما يضمن مساعدة المحافظة في تقديم كافة أوجه المساعدة لها فيما تتخذه من إجراءات أو تستحسنه من مبادرات، وضمان تكاتف الجهود وتقاسم المسؤوليات وتكوين تناغم كلي في منظومة العمل الاجتماعي في ظل حجم الصلاحيات والممكنات الداعمة؛ وتعزيز فرص بناء نماذج عمل تنافسية وريادية وتسويقية للمحافظة يمكن أن تشكل احد أفضل النماذج في العمل الاجتماعي المسؤول التي تستفيد منها المحافظات الأخرى، بالإضافة إلى تشجيع حركة التغيير وتبادل الأفكار والآراء بين أبناء المحافظة في كل ما من شأنه الارتقاء بالعمل، وإدماج ولايات المحافظة ومشاركتها الفاعلة ضمن إطار وطني يحفظ الجهود من التشتت والتبعثر، ونقلها من حيز التفكير الذاتي إلى المشاركة الجمعية، ومن العمل الفرداني إلى العمل بروح الفريق الواحد، هذا الأمر من شأنه العمل على إيجاد فرص عمل جديدة ومبتكرة يجد أبناء المجتمع فيها فرصتهم للتثمير في موارد محافظاتهم، وتشغيل أموال أبناء المحافظات داخليا من خلال تعزيز ثقافة الجمعيات التعاونية، وتفعيل الجمعيات الخيرية الداخلية، والتوسع بشكل أكبر في منظومة الجمعيات المهنية على مستوى المحافظات وبناء أطرها وتحديد آلياتها بالشكل الذي يقلل من أثر الالتزامات الاقتصادية على حياة المواطن، فهي من جهة تتيح للأسر والأفراد التفكير في موارد رزق أوسع، ومن جهة أخرى تعطي فرصا أوسع لأبناء المحافظات في إنشاء شركات أهلية في مختلف المشاريع الحيوية الواعدة لتضم فيها قائمة من ذوي الاهتمام والاختصاص أو العلاقة من مختلف ولايات المحافظة.
      ويبقى ما يحمله نظام المحافظات من موجِّهات للعمل، ومرتكزات للأداء الكفؤ، ومحطات للمزيد من الشراكة والتعاون والحوار، وفرص لبناء نماذج وطنية في الأداء المسؤول الذي يحتفظ بدور المجتمع في رسم استحقاقات المرحلة، وتجسيد روح التغيير في حياة أبناء المجتمع، في عمق تواصلهم وتفاعلهم، ونوعية المبادرات والفرص، وكفاءة الاحتواء ومستوى الرضا الاجتماعي المتحقق، والحراك الاجتماعي متعدد الجهات، ودخول شرائح المجتمع جميعها بلا استثناء في برنامج عمل المحافظة؛ مرهونا بحجم التنسيق الحاصل، والريادة في إدارة الملفات، وحجم المشاركة التي يقدمها المجتمع في تذليل الصعوبات التي تواجهها إنسانية العمل الاجتماعي، ووجود قاعدة بيانات بالمحافظة للكفاءة والخبرات والتجارب والمبادرات، واستيعاب أبناء المجتمع وإشراكهم الفاعل في كل محطات العمل ومد جسور التواصل والتناغم معهم في مختلف حلقات البناء، ومستوى التناغم الحاصل بين التقسيمات الإدارية في المحافظة (المحافظ، الولاة، نواب الولاة، والمساعدون)، وتبسيط الإجراءات وتعزيز التكامل في الخدمات البلدية والإسكانية وغيرها (البلديات والجهات والهيئات والمؤسسات الحكومية)، أو تفعيل الدور القادم للولاة في المادة (15) من النظام “7- الإشراف على سير عمل لجان التوفيق والمصالحة في الولاية” والذي بدوره يشكل الجزء الأكثر حساسية في منظومة العمل الاجتماعي، وبقدر الكفاءة والمهنية والتوسع في الخيارات، واستنطاق قِيَم الشرع ومبادئه ومرتكزاته وأخلاق المجتمع فيه، بقدر ما يقدم صورة جديدة أكثر ابتكارية لاحتضان المحافظات لشؤونها الداخلية وسعيها للصلاح والإصلاح؛ فإن عمليات التنظيم والتقنين والرقابة والمتابعة والتصحيح والوقوف على مجريات الواقع، والتقارير الدورية، والتواصل المجتمع، ورفع حجم التنسيق والتكامل بين مختلف التقسيمات الإداري للمحافظات، موجِّهات لتعزيز مفهوم أعمق للعمل الاجتماعي، وتجسيده في أجندة المحافظات، كونه نتاجا أصيلا لجهد متواصل، وعمل متقن، وبرامج مشتركة، وشراكات عملية لبناء نموذج وطني يستجيب للظروف ويتكيف مع معطيات الواقع، ويجيب عن التساؤلات المطروحة لدى المواطن حول موقع المحافظات في دعم المواطنين والأسر في مواجهة تداعيات الإجراءات الاقتصادية، وفتح آفاق أوسع لتقديم مبادرات مجتمعية معبِّرة عن روح الإنسانية والرحمة بين أبنائه.

      Source: alwatan.com/details/423245