نبض طبيب: قبل الاعتداء على طبيب

    • خبر
    • نبض طبيب: قبل الاعتداء على طبيب

      Alwatan كتب:

      د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية:
      تظلُّ ظاهرة الاعتداء على الأطبَّاء ظاهرة غير حضارية، وغير مقبولة على جميع المستويات. ومع تقدُّم المنظومة الصحيَّة وجب أنْ يرتقي الحوار بين الطرفيْنِ، وأنْ يُبنى جسر متين من الثِّقة المتبادلة.
      تتكرَّر هذه المشاهد في معظم المستشفيات، ولكن بسيناريوهات مختلفة.. حدث مشهد أمامي لابنة أحد المرضى المُرقَّدين في العناية المركَّزة وهي تتعامل بطريقة غير لائقة مع طبيب وافد يُشرف على حالة والدها، والذي يحاول شرح الوضع الصحِّي، وكان ينظر إليَّ بقلَق من ردَّة فِعْلها وتحامُلها عندما يحاول أنْ يخبرها الحقيقة بأنَّ الحالة حرجة جدًّا؛ لتبدأ بلهجتها الحادَّة مهاجمته، وبِلُغة فيها اتِّهام وتشكيك، كنتُ ألاحظ الإرهاق عليه؛ كونه مناوبًا لساعات طويلة من العمل المُجْهد بدون نوم، وكان يتعامل معها بكُلِّ احترام وسَعة صدْر، حاولتُ احتواءَ الموقف وأتفهَّم نفسيَّة الابنة القَلِقَة على والدها، لكنَّ الأطبَّاء يجتهدون بكُلِّ ما أُوتُوا من عِلْمٍ من أجْلِ مَرْضاهم وهم ملتزمون بقَسَم الطِّب أمام الله بالإخلاص وإنقاذ الأرواح.. التشكيك بالأطبَّاء مرفوضٌ بكُلِّ أشكاله، وإلقاء اللَّوم عليهم في حال ساءت حالة المَرِيض بطريقة غير مُنْصِفة غير مقبول.
      سلوكيَّات الاعتداء على الكوادر الصحيَّة وجَبَ أنْ تُواجَه بشجاعةٍ وحَزْمٍ قَبْل أنْ تتفاقم. وأغلَبُ أسباب هذه الظاهرة قد تكون التَّسرُّع ورفْض رأي الطَّرف الآخر وغياب لُغة الحوار، وسيطرة ثقافة تزايُد الأخطاء الطبيَّة وغيرها، مع العِلْم أنَّ حقَّ المَرِيض وأهله مكفولٌ قانونًا بتقديم شكوى في حال تَوجُّسهم من حدوث خطأ طبِّي بإجراءات واضحة، كما أنَّ الاعتداء على طبيب لا يندرج كونه مشاجرة عاديَّة، بل هو جريمة قانونيَّة بحقِّ الوطن ككُلٍّ. وفوق أنَّه مُخالفٌ لعاداتنا وتقاليدنا المُتسامحة فإنَّه يُشوِّه الوجْهَ المُشرق لنهضتنا الرَّائدة ومَنْظُومتنا الصحيَّة، وجَبَ إعطاء الطَّبيب مساحةً من الأمان لمُمارسة عمله، وإيجاد بيئة عمليَّة تكتنفُها الثِّقة والطمأنينة الَّتي من شأنها تطوير الخدمات الصحيَّة.
      قَبْلَ الاعتداءِ على طبيبٍ، تَذكَّرْ بأنَّني أقْسَمتُ على تقديم عناية طبيَّة صادقة، وتخفيف الأوجاع، ولكنَّ الشِّفاء بِيَدِ الله وحْدَه. قضيتُ سنوات عُمري، وسهرتُ بيْنَ الكُتب والامتحانات، ولكنَّ مُهمَّتي الحقيقيَّة هي بَيْنكم والأخذ بِيَدِكم، وتخفيف آلامكم، طَوال أيَّام الدراسة لم نتعلَّم فقط العلوم والتَّشريح، بل زُرِعت فِينَا الرَّحمة والرِّفق والإنسانيَّة، صُورَتُنا الملائكيَّة بأذْهانكم هي صُورةٌ نمطيَّة كمخلوقات لا تنام، لا تُخطئ، لا تَتْعب، ولكنَّك لا تعْلَم أنَّ هناك الكثير من المُقايضات اليوميَّة التي أُقدِّمها وأنا أقضي ساعاتٍ طويلةً بعيدًا عن عائلتي خارج بَيْتي لأسْهرَ على راحتكم، نُصبح ونُمسي بمشاهد مُؤلمة بكميَّة من المشاعر المُوجِعة، التي قد يختبرها المرء مرَّة أو مرتَيْنِ بحياته، ولكنَّها روتين يوميٌّ نعيش قَسْوةَ لحظاته بتفاصيلها.
      الدخول من باب كلِّية الطِّب أخذني إلى عالَمٍ أحادي الاتجاه، لا يمكن الخروج منه، سأظلُّ عالقًا في مشواري الذي لن ينتهي، وسأظلُّ أطَّلع وأدرس طيلة حياتي لأكونَ مُلمًّا بتطوُّر الأمراض والعلاجات لأعطي أفضل ما عندي.
      صدِّقْني في الكثير من الحالات نعمل ما بِوُسْعنا لمنْع تدهوُر حالة المَرِيض، ولكنَّ بعض الأمراض تتلاعَبُ بنا في جميع الاتِّجاهات، نَسْهرُ لساعاتٍ طويلة بأقصى جهدنا، ولكنَّ القرار النِّهائي ـ من بعد الله ـ للمَرَض، والطِّب لا يصنع المعجزات دائمًا.
      بالرغم من أنَّ المَرِيض هو المحور الأساسي في العمليَّة العلاجيَّة، إلَّا أنَّ إنسانيَّة الطَّبيب تجاه المَرِيض يجب أنْ تُقابلَها إنسانيَّة من المَرِيض وأهْلِه تجاه الطَّبيب الَّذي له حرمتُه وقُدسيَّتُه لِمَا يحمله من عِلْمٍ يخدم به النَّاس.

      Source: alwatan.com/details/432562