في العمق: حتى لا تتحول القوانين إلى التزامات ورسوم مالية صرفة

    • خبر
    • في العمق: حتى لا تتحول القوانين إلى التزامات ورسوم مالية صرفة

      Alwatan كتب:

      د. رجب بن علي العويسي:
      حملت رؤية عمان 2040 على عاتقها الكثير من الطموحات والآمال والتوجُّهات لبناء عُمان المستقبل، منطلقة من الإرث الحضاري، وأخلاقيات الإنسان العماني، والهُوية والخصوصية العمانية طريقها لتحقيق التحوُّل، وتوظيف الفرص التنافسية التي تتميز بها السلطنة، لبناء اقتصاد معرفي يستوعب الواقع، ويتسم بالتنويع والتنوع، والكفاءة والملاءة المالية، موظفا الفرص والثروات والموارد الوطنية وفق مرتكزات عمل قائمة على كفاءة الإدارة، وحوكة الأداء الحكومي، وتبسيط الإجراءات وتعزيز إنتاجية القوانين، في ظل مرحلة حرجة فرضت على الواقع العماني أنماطا أخرى من التعامل مع هذا الوضع، وقرارات استهدفت الحدَّ من الإنفاق الحكومي وترشيد الاستهلاك، والمحافظة على التوازن الاقتصادي وتحقيق الوفرة المالية، ووضع البدائل والحلول المعززة للاستدامة المالية في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية والظروف المالية الناتجة عن جائحة كورونا (كوفيد19) والانخفاض القياسي لأسعار النفط في فترات سابقة، في ظل سعي الحكومة نحو معالجة إشكالية الديون الخارجية والعجز المالي للدولة.
      لقد ارتبط بهذه التحوُّلات الحاصلة في المنظومة الوطنية لتحقيق أولويات رؤية عُمان 2040 جملة من المرتكزات التي أوضحها الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم في الثالث والعشرين من فبراير 2040 والتي بدأت مع إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئه وتبنِّي أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات الرؤية وأهدافها، بما يضع منظومة التشريعات والقوانين في أولوية الاهتمام، وأجندة عمل الحكومة، بما يعنيه ذلك من توقعات باستصدار مجموعة كبيرة من القوانين والتشريعات التي تترجم الرؤية وأهدافها وتجسد محاورها في الواقع في مختلف مجالات العمل الوطني، وأن يكون دور التشريع في المرحلة المقبلة والحالية مع الإقرار السامي لرؤية عُمان 2040 أكثر احترافية ومهنية في تحقيق الثبات والاستدامة وتعزيز الثقة وإيجاد بيئة عمل جاذبة ومنظومة أداء معززة للابتكار، وفي الوقت نفسه الحدُّ من التغييرات المتسارعة التي أدَّت إلى قلق المستثمرين وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ ومع القناعة بالحاجة إلى إعادة منظومة التشريعات والقوانين بما يضمن مواءمتها لأولويات الرؤية وأهدافها والمرتكزات التي أشار إليها خطاب جلالة السلطان المعظم سالف الذكر، خصوصا ما يتعلق منها بتبسيط الإجراءات والحوكمة والمرونة، إلا أن التخوف الحاصل لدى المواطن أن يتجه هدف الاهتمام بدراسة هذه القوانين والتشريعات ليس إلى التبسيط والتسهيل والتمكين والتحفيز والتقنين والتنظيم والتوسع في الخيارات وتوفير الفرص والبدائل بقدر اتجاهها نحو فرض رسوم مالية على المواطن، سواء فيما يتعلق بالأنشطة الاقتصادية التي يمارسها، على شكل رسوم قبلية بشأن تسجيل وانتهاء السجل التجاري للمنشأة الاقتصادية أو النشاط، وسواء كان في أثناء ممارسة النشاط أو عمليات المتابعة المنفذة من جهات الاختصاص، والمخالفات التي تسجل ضده، أو ما يرتبط بتأخير المعاملات وفرض رسوم إضافية عليها، فيتجه العمل إلى التعقيد والتشدد بدلا من التبسيط والمرونة في تقدير الظروف الناتجة عن حالات الإغلاق والمنع الكلي والجزئي للأنشطة الاقتصادية والتجارية.
      غير أن واقع الأمر، والغاية من المراجعة للقوانين يبدو أنها تتجه إلى منحى آخر، واضعة المسار المالي محور عملها ودائرتها المغلقة التي تقرأ بها الواقع الاقتصادي الحالي، وهو ما لا يتوقعه المواطن أو يحسب له حسابا، فمنظومة القوانين التي تم استحداثها لضبط أداء الجهاز الإداري للدولة اتخذت موقفا سلبيا من البند المالي بعموميته وخصوصيته متخذة من الظروف الاقتصادية وترشيد الإنفاق الحكومي مبررا لها، فمن جهة ألغت أو حجّمت الاستفادة من هذا البند لأضيق الحدود، ومن جهة أخرى أعطت جانب فرض الرسوم على بعض الخدمات أو استحداث رسوم أخرى على خدمات جديدة، أو على إنجاز بعض المعاملات المزيد من الاهتمام، فهي الأكثر حظا في هذه القوانين، وهو الذي يرصده واقع التعديلات الحاصلة في بعض القوانين التي أعطت هذا الجانب مساحة أوسع، أو كذلك القرارات الوزارية والتي صدرت في إطار رؤية المراجعة للوائح التنفيذية وأنظمة العمل، لتتحول القوانين من موجهات لصناعة الإنتاجية وإيجاد الفرص وتعزيز مساحة الخيارات للمواطن والتفكير خارج الصندوق وإكساب المواطن الثقة، ومساعدته في مواجهة الصعوبات والتحديات المرتبطة بتخليص المعاملات أو إنجاز الخدمات، إلى أن اتخذت هذه القوانين بُعدا اقتصاديا صرفا، مما شكَّل تحديا آخر على المواطن أن يتعامل معه في ظل الظروف الاقتصادية التي يواجهها، والتي ستكون نتيجتها على أكثر تقدير، طريقه للهروب من هذا الواقع، أو تغيير مسار التوجُّه وبوصلة العمل، أو حتى التنازل عن هذا الطموح، أو البحث عن مكان أو اتجاهه للدول المجاورة في ظل استفادته من حزمة الحوافز التسهيلية التي تقدمها في هذا الشأن، ليمارس فيها نشاطه بكل أريحية، ووفق ضوابط وإجراءات أكثر استقرارا ونضجا، قادرة على احتوائه، وتوفير ضمانات النجاح وبيئة العمل المساندة له في تحقيق أهدافه وطموحاته.
      وبالتالي فإن وظيفة القانون في ظل هذه الظروف تصنع منه دورا أكثر إنسانية ومراعاة للمشاعر واحتواء المواطن، في أن يكون مظلة أمان له في حفظ حقوقه الاقتصادية التي ضمنها له النظام الأساسي للدولة، وتعزيز مساحة المرونة له في ممارسة الأنشطة الاقتصادية، بالشكل الذي يضمن الحدَّ من الممارسات السلبية التي تتجاوزه أو تخالف قواعده ومواده ولوائحه التنفيذية، وتعميق الممارسات الإيجابية الداعمة لبناء قانون يتصف بالاستمرارية وقدرته على تغيير أدوات الواقع وإعادة بنائها وإنتاج الحياة فيها، وإعادة صياغتها بطريقة تضمن ترجمة القانون في واقع حياة الناس، واحتوائه للكثير من الممارسات الدقيقة التي باتت تجسد تفاصيل مواقفهم وظروفهم، وبالتالي التثمير في هذه الموارد، وتقوية فرص العمل المتجه إلى الاستفادة من كل الفرص الممنوحة للمواطن، سواء بدافع الاستثمار أو الشراكة أو الاستفادة من الخدمات، وترقية فرص الإنتاجية المستدامة فيها، وأن تتجه القوانين إلى تقوية الشعور الإيجابي، واستنهاض الهمم، واستنطاق القِيَم، وترقية الذات، وتعميق حس المسؤولية، وتقوية العمل المنتج، ليتجه دور القانون إلى بناء النموذج الوطني القادر على رسم استحقاقات المرحلة، وتعزيز مسار الإنتاجية في سلوك صاحب العمل؛ بمعنى أن لا تصبح القوانين حالة منفرة للمستثمر وصاحب العمل، بحيث تتسبب في إبعاد صاحب المشروع من تنفيذ مشروعه أو التضييق عليه، أو التسبب في إرهاقه بالديون والعجز المالي، وعندها يتراجع عن تنفيذ مشروعه الذي سعى إليه، والتزم بدفع مستحقاته من الرسوم الأولية للبدء في التسجيل للمشروع أو النشاط أو المنشأة الاقتصادية، أو غيرها في ظل إجراءات مهينة، وممارسات بيروقراطية قاتلة، وعمليات إدارية متكررة، وهدر واستنزاف للطاقة والجهد الذاتي في سلسلة من المطالب الطويلة غير المبررة.
      من هنا يطمح المواطن، سواء كان صاحب مشروع أو غيره من منظومة القوانين التي يتم مراجعتها في إطار تحديث منظومة الجهاز الإداري للدولة والتغيرات التي يجب أن تصاحبها للوصول إلى أداء حكومي كفء قادر على المنافسة وتحقيق مؤشرات نجاح إيجابية تنعكس على استدامة المشروع وابتكاريته وإنتاجيته وقدرته على المنافسة، كما تنعكس على صاحب العمل والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مسار الأريحية التي تحظى بها في إجراءات العمل، بحيث يقرأ المواطن في هذه القوانين مرحلة متقدمة من العمل الوطني الكفء الذي يتجه نحو التثمير في الموارد البشرية وتمكينها وإعادة إنتاجها بطريقة تحقق رؤية التحوُّل في قناعات المواطن نحو القطاع الخاص والعمل النوعي المحترف، وتعزيز الثقة في الكفاءة الوطنية، وتعزيز حضورها في سوق العمل الوطني، إنها مساحة أمان يعيد فيها قراءة الواقع الاقتصادي بروح متجددة يبتكر خلالها من الوسائل والأساليب التسويقية والترويجية ما يصنع لعمله قوة ويؤسس لواقعه الاقتصادي بدائل وفرصا أوسع، كما يتجه بنشاطه إلى المزيد من الابتكارية في المنافسة، والقدرة على الوصول إلى شرائح المجتمع الأخرى، ذلك أنه يجد في القانون مساحة من الأريحية والتفكير خارج الصندوق، وإضافة بعض النكهات الجمالية في هندسة التسويق الرقمي لمشروعه الاقتصادي، مستفيدا من جملة الحوافز وخطة التحفيز الاقتصادي وخطة التوازن المالي في تقديم منتج نوعي قادر على تحقيق المنافسة.
      أخيرا، فإن قدرة القوانين على رسم الابتسامة، ونقل الخبرة والتجربة، وإعادة هيكلة الممارسة وتوجيهها لصالح تعميق المبادرة المجتمعية والابتكار في المنتج، يتطلب اليوم إعادة النظر في مسار تغليب النظرة المالية والتعقيدات على حساب المنتج ذاته أو الدوافع التي ستصنع الفارق، وتنشيط حركة النَّفْس في إدارة المشاريع الابتكارية والاحترافية، وإثبات بصمة حضورها في واقع سوق العمل الوطني، فإن البحث اليوم في تحقيق إنتاجية القانون وضمان توجيهها لصالح تحقيق ممارسة نوعية تنعكس على أداء الفرد وإنتاجيته، ينطلق من المساحات التي تمنحها للأدوات والأطر التصحيحية والبرامج التطويرية والتوجُّهات الساعية لإيجاد مناخ عمل يقوم على تعزيز كفاءة الممارسة المهنية، وبيئة إيجابية لدى المستفيد من الخدمة أو غيره في حصوله على الخدمة بأسرع وقت ممكن وبجودة عالية، ولتصبح إنتاجية القانون هي المعادلة الأقوى في قدرته على الثبات المصحوبة بالابتكارية والتفاعل والاستدامة والشمولية والاتساع، والتجديد والواقعية في ربط الناس بواقعهم الاقتصادي وتقديم حلول المعالجة له.

      Source: alwatan.com/details/433038