Source: alwatan.com/details/433186Alwatan كتب:
د. أحمد مصطفى أحمد:
من الواضح أن آمال الحكومة البريطانية بسرعة التوصل لاتفاقية تجارية شاملة مع الولايات المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) تتضاءل. فإدارة الرئيس جو بايدن ليست بحماس إدارة سلفه دونالد ترامب في مكافأة الشريك البريطاني على بريكست. لا يعني ذلك أي تقليل من أهمية “العلاقة الخاصة” بين لندن وواشنطن، لكن الإدارة الجديدة لديها أولويات أخرى ولتأخذ مفاوضات التجارة البريطانية ـ الأميركية مداها. ربما لا يسعد ذلك حكومة المحافظين التي يترأسها بوريس جونسون، خصوصًا لوعودها للشعب البريطاني بأن بريكست سيعزز من فرص بريطانيا للاستفادة أكثر من شراكاتها وهي متحررة من قيود البيروقراطية الأوروبية. لكن غياب اتفاقية تجارة جديدة لم يمنع موجة كبيرة من شراء صناديق الاستثمار الأميركية للأصول البريطانية بشكل ربما لم يكن متاحا بالوتيرة نفسها وبريطانيا عضو في الاتحاد الأوروبي. ولا ترى حكومة حزب المحافظين، اليميني تقليديا، أي غضاضة في ذلك بل ربما تحبذه وتشجعه.
تستهدف الصناديق الأميركية قطاعات الصحة والعقار وشركات التجزئة، وأيضا شركات الصناعات الدفاعية وخصوصًا التكنولوجية منها. وفي الأسابيع الأخيرة، قدمت شركة باركر الأميركية عرضا لشراء واحدة من أقدم شركات الصناعات الجوية البريطانية (ميجيت) بينما تقدمت شركة أميركية أخرى (كوبهام) مملوكة لصندوق استثماري أميركي (أدفنت) بعرض لشراء شركة صناعات تكنولوجية عسكرية بريطانية (ألترا إليكترونيكس). وإلى جانب الإجراءات التقليدية في صفقات الاندماج والاستحواذ التي تتضمن موافقات من هيئات منع الاحتكار وتنظيم السوق، تخضع الصفقتان لتمحيص يتعلق بالأمن القومي البريطاني. فالشركتان من بين الموردين لوزارة الدفاع البريطانية وتدخل مكوِّنات الطائرات التي ينتجانها في الطائرات العسكرية كما في طائرات الركاب المدنية. مع ذلك، لا يتوقع أن يكون هناك اعتراض بريطاني على خلفية مخاوف أمن قومي. ففي النهاية لا توجد أسرار عسكرية بين لندن وواشنطن، كما أن برنامج الصواريخ النووية البريطاني تتم صيانته في الولايات المتحدة.
ومن سياسة المحافظين تقليديا أن “البيع شطارة”، وبالتالي فتشجيع بيع الأصول البريطانية للشريك الأميركي أمر مرحَّب به من قِبل حزب الحكومة الحالية. لا يعني ذلك أن حزب العمال المعارض ضد البيع، وإن كان تقليديا لا يرغب في استحواذ الأميركيين على قطاعات معيَّنة مثل خدمة الصحة الوطنية. حتى هذه، كان رئيس الوزراء العمالي في نهاية القرن الماضي توني بلير مستعدا لفتح قطاع خدمة الصحة الوطنية للشركات الأميركية الخاصة. لكن معارضة أغلبية البريطانيين لأي خصخصة للصحة العامة جعله يتردد ثم يحجم. وفي أي مفاوضات اتفاق تجارة مع الأميركيين يتردد البريطانيون كثيرا في مناقشة قطاع الصحة العامة، رغم إصرار الأميركيين على أن يكون ضمن أي اتفاق. حين كانت بريطانيا ضمن أوروبا كانت “محمية” إلى حدٍّ ما من “الانقضاض” الأميركي الخاص على قطاعها الصحي الحكومي. لكن الآن بعد بريكست، ربما لا ترى حكومة المحافظين غضاضة في ذلك الآن، وإن كان لا يعرف ماذا سيكون موقف ملايين البريطانيين المستفيدين من الخدمة الصحية الوطنية حين يرون أنها ستتحول إلى النموذج الأميركي الخاص.
أمر طبيعي في الاقتصادات الرأسمالية المفتوحة أن تتحرك الاستثمارات عبر الحدود، طالما في إطار القواعد والنظم والقوانين. لكن ما يبدو الآن من أن “أميركا تشتري بريطانيا” يشبه ما وصفه الألمان قبل عقدين في معارضتهم للتغوُّل الاستثماري الأميركي على الأصول الأوروبية. ويذكر أن القيادة الألمانية استخدمت وقتها وصف “الجراد” على الصناديق الأميركية التي تنقض للاستحواذ على الأصول ثم تتخلص منها لتحقق أرباحا دون اعتبار للاستدامة أو دور تلك الأصول في اقتصاد بلدها الأصلي. ورغم ما يبدو من مباركة المحافظين وحكومتهم لهجمة الاستحواذ من قِبل صناديق الاستثمار الأميركية على الأصول البريطانية إلا أن ذلك لم يمنع الجدل الدائر حاليا في الصحافة والإعلام حول تبعات ذلك. فأولا، هناك مشكلة أن عمليات الاندماج والاستحواذ، حتى لو كلها بين شركات بريطانية دون رأسمال خارجي، تعني احتمالات إعادة هيكلة أي إلغاء وظائف وتسريح عاملين. وفي وقت يعاني فيه البلد من تبعات أزمة وباء كورونا وارتفاع معدلات البطالة فإن أي وظيفة تلغى هي مصدر قلق وانزعاج. ومصدر إغراء الشركات البريطانية للصناديق الأميركية أنها أرخص كثيرا من الاستحواذ على شركات أميركية أو حتى أوروبية.
لكن الأهم والأخطر أن صناديق الاستثمار الأميركية غالبا ما تحوِّل الشركات التي تستحوذ عليها من شركات عامة مدرجة في البورصة إلى شركات خاصة، قبل أن تبيعها أو تتخلص من أجزاء منها لتحقق أرباحا سريعة. ويجادل بعض البريطانيين، حتى من المستثمرين المؤيدين تقليديا لحزب المحافظين، بأن موجة اقتناص الصناديق الأميركية للشركات البريطانية قد يعني تدريجيا ضعف مؤشرات بورصة لندن مع “سحب” تلك الشركات منها. ويخشى هؤلاء أنهم بعد فترة قد تضيق عليهم فرص استثمار أموالهم في شركات مدرجة على مؤشر البورصة البريطانية. بالطبع يستطيع هؤلاء الاستثمار في شركات مدرجة في وول ستريت بأميركا، وهم يفعلون ذلك بالفعل. لكن المثير للجدل هو أن حكومة بوريس جونسون روجت للبريكست بالعبارة الشهيرة “سنملك زمام أمرنا”، والمفارقة أن هذا “الزمام” قد لا يلوي على الكثير مع استحواذ الأميركيين على أصول بريطانية كثيرة.
أميركا تشتري بريطانيا
- خبر
-
مشاركة