مع المخطوطات العربية وكراتشكوفسكي

    • خبر
    • مع المخطوطات العربية وكراتشكوفسكي

      Alwatan كتب:

      كاظم الموسوي:
      في زمن غابر، من أكثر من عقدين من الزمان كنت أعد برامج ثقافية أسبوعية لمنتجين وقنوات فضائية، ومن بين المشاريع التي كنت أنوي المساهمة فيها برامج عن المخطوطات العربية في بلاد الغرب والشرق، والبداية من موسكو، من معهد الاستشراق ومكتبة لينين، وغيرهما.. حيث كنت قد زرتهما وتعرفت عليهما على عجل في حينه.. وحسب المطلوب تابعت أو اطلعت بكثافة عن المخطوطات، انواعها ومكانها والمختصين بها من المستشرقين أو العرب، وكالعادة أعددت قوائم منها، ولكن لم نتفق في النهاية وظلت تلك الأفكار والمشاريع مركونة في زوايا الرفوف والنسيان.
      اهتمامي بهذا الموضوع منطلق من تقديري الكبير للمخطوطات العربية ومن جهود مؤلفيها، ومواضيعها ومبتكراتها، حسب وقتها وتاريخها وإعلامها، وأهمية إعادة نشرها وتوفير الإمكانات للحفاظ عليها والاستفادة من مضامينها أو مكانتها التاريخية ودورها في بناء الثقافة والحضارة العربية الإسلامية. فهي في كل الأحوال كنوز ثقافية ناطقة ومعبِّرة عن مبدعيها وعن زمانها ومكانها، وتبقى كذلك مهما مرَّ عليها من غبار الزمن.
      من بين ما أعادني إلى تلك الأفكار كتاب المستشرق الروسي الكبير، كراتشكوفسكي: مع المخطوطات العربية، صفحات الذكريات عن الكتب والناس، من نشر دار التقدم بموسكو، الذي شدني لإعادة قراءته من جديد والتمتع بأسلوبه وتذكره وحياة الكتب والمكتبات، والمخطوطات والاستشراق، والتراث وكنوزه لكل أمَّة وشعب. ولدي النسخة الإلكترونية التي اعتمدها، وبحثت عن الورقية، وللأسف لم أعثر عليها. فقد تكدست الكتب على الكتب، وليس يسيرا الوصول إليها، والتي لا أعرف اسم من ترجمها وأي سنة صدرت باللغة العربية، حيث تفتقد في النسخة التي اعتمدتها، وأحيانا لا ينشر ولا أعرف السبب الفني، وعسى ألا يتكرر مثل هذا الاعتبار.
      وكراتشكوفسكي يستعيد بذاكرته ما تعلمه وقام به في هذا العالم الثقافي ومن حبه له وكأنه حين كتب الكتاب يتغزل بمحبوبة له، وهما في ريعان شبابهما. وتلك أول صفة لمثله ولمن يريد أن يخوض في هذا السبيل، البحث عن الكنوز، احتراما وتقديرا وتبجيلا لجهود مبذولة وأعمال مشغولة وتعب وسهر وإنتاج لا يقدر ولا يعرف فضله إلا من تعب وسهر وحرص على الإبداع ومنفعة الناس. وسجل في تقديمه: “أرجو ألا ينظر إلى هذا الكتاب على أنه مذكرات شخصية للمؤلف. فما كتبت هذه المذكرات عن نفسي، بل عن المخطوطات العربية التي لعبت دورا كبيرا في حياتي، والتي شاء لي الحظ أن أقع عليها، أو التي شقت طريقها إلى دنيا العلم عبر يدي.”
      في سبعة فصول أو أبواب سرد قصته، أو سجل عن الذكريات التي عاشها مع أول خطوات وصوله لقسم المخطوطات في مكتبة الجامعة وهو يواصل دراسته.. وفي كل فصل أو باب أجزاء ومسميات، تتعاقب زمنيا وتتذكر كل ما شاهده أو قام به أو تعرف عليه. وكان الفصل الأول بعنوان: في قسم المخطوطات، والثاني بعنوان: جولات في الشرق، والثالث: كتاب عرب ومستعرب روسي، والرابع: في المتحف الآسيوي، والخامس: في المكتبة الجامعية، والسادس: كل من سار على الدرب وصل، والسابع: ظل الأجداد. وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب روى قصة الكتاب، كاتبا: في جلسة مكتب الاستعراب بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي في 13 أيار/ مايو 1941 قرئ لأول مرة الفصل الأول من هذا الكتاب، وكان هذا الفصل يحمل في ذلك الوقت طابعا مستقلا بذاته. وقرأت لأول مرة فصولا أخرى في جلسة لجنة طبع الكتب العلمية الشعبية لأكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي في 26 حزيران/ يونيو 1943 وأول إشارة عن إعداد الكتاب وعن قراءة قطع منه في الجلسة السابقة، كانت في مجلة “أخبار أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفييتي، عدد 7-8 في 1943 وأول طبعة للكتاب نشرت في1945 والثاني في 1946 وبعض الفصول طبعت في سلسلة مكتبة “أوجوتبوك” (الشعلة) في1948 العددين 9-8.
      لخَّص المؤلف في فصول كتابه حياته مع المخطوطات والمكتبات وأمنائها وأساتذته الذين لهم دورهم في السيرة المشوقة، عن المخطوطات العربية والعمل معهم. وكيف عمل نهارا وليلا وكيف توافرت له المصادر والنصائح لإنجاز ما شغله وتتلمذ له. مسجلا بشغف ومحبة أسماء من عمل معهم ومن قدم له مساعدة في عمله، من إدارات المكتبات إلى الأساتذة المشرفين أو المنشغلين معه، من أبناء بلده أو من الزوار من بلدان أخرى، من بينها بلدان عربية، بحدود دنيا أو بمساعدة فردية.
      ومن أبرز المخطوطات التي حظيت باهتمام كبير، نسخة من القرآن الكريم، من القرنين الهجريين، الأول والثاني، ويمثل كما سماه الكاتب القرآن الكوفي شيئا نادرا جدا في مجموعات المخطوطات. وتُعد النسخ الكاملة منها أحادية في كل العالم (ص291). وفي تقديره للنسخة المتفردة؛ “كان زينة مكتبتنا العامة مدة طويلة، القرآن الذي يعرف بالعثماني أو السمرقندي، وقد حمل إلى مدينتنا بأمر الجنرال فون كاوفمان كغنيمة حربية عند غزو آسيا الوسطى”. ومرت عليه ظروف كتب عنها متابعا ما حل بالنسخة من تنقلات وجهود وأين استقرت أخيرا.
      ورغم كل الأعمال والاعتزاز بالمخططات العربية خصوصا لا يشعر المؤلف بما يقابلها من أهلها العرب، رسميين أو مهتمين، ومع أن هذه ملاحظة قديمة، قبل صدور الكتاب، أي في وقت الكتابة وإبراز الجهد والسعي والسهر على المخطوطات العربية. ومهما حصل بعدها، تظل صرخة كراتشكوفسكي مهمة ولا بد من وضعها نصب الاهتمام والاعتبار. فما يتحدث عنه وما كتبه ونشره عن مخطوطات بالعربية، عمل عليها واحتفظت مؤسسات بلاده بها، جدير بالاحترام والاهتمام والتقدير، ليس أقلها تسمية مكتبات عربية باسمه وإعادة الروابط الثقافية بين مكتباتنا وتلك المكتبات، رسميا وشعبيا، مؤسساتيا ووضع ميزانيات مخصصة لإحيائها والافتخار بها، كجزء من تاريخ ثقافتنا وحضارتنا، ودور العرب تاريخيا في الحضارة العالمية.

      Source: alwatan.com/details/433579