Source: alwatan.com/details/433901Alwatan كتب:
د. أحمد مصطفى أحمد:
يفترض في الألعاب الرياضية، خصوصا الجماعية منها، أنها وسيلة إمتاع للجمهور إلى جانب فائدتها للاعبين من ناحية السلامة الجسدية وإبراز المهارات وصقلها. بالطبع لا يمكن إنكار حاجة الفرق والأندية للمال من أجل الإنفاق على التدريب والتأهيل، والحاجة أيضا للإنفاق على المنافسات الكبيرة. ومنذ بدأت الألعاب الرياضية تتحول إلى مناسبات جماهيرية أصبح دخل الفرق والأندية يعتمد على بيع بطاقات المنافسات للجمهور. وذلك أمر طبيعي، ولا يقتصر فقط على كرة القدم التي تعد أكثر الرياضات الجماعية شعبية حول العالم. فحتى صارع الديكة في أميركا اللاتينية، ومصارعة الثيران في إسبانيا اعتمدت في تمويل إقامتها على بيع البطاقات للجمهور.
لكن ما حدث مع كرة القدم، وبعض الرياضات المماثلة والأقل شعبية عالميا، في العقود الأخيرة حولها من رياضة ومتعة إلى “بزنس”. ولا يمكن تبرير ما وصلت إليه من كل مضار “البزنس” باحتراف اللاعبين وأنها أصبحت “مهنة” أكثر منها رياضة للهواة المتبارين. فحتى الحرفة تظل منطقية حتى تعاني من تغوُّل رأس المال بكل ما يتبعه من ممارسات تفقد كل ما هو ممتع متعته. ربما بدأ الأمر، خصوصا مع كرة القدم، بصفقات البث التلفزيوني للمسابقات الكبرى، سواء القطرية أو الإقليمية والعالمية. فمنافذ البث التي تشتري الحقوق بالملايين، وربما المليارات الآن، تحول ما تبثه إلى مهرجان للإعلانات والرعايات التجارية بغرض تحقيق المكاسب والأرباح. زاد من مسألة تحويل الرياضة الشعبية تلك إلى “بزنس” خالص اهتمام أصحاب ثروات خاصة، أو حتى دول، بامتلاك “أصول استعراضية” أي بغرض التباهي وإظهار الغنى الفاحش. بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى استخدام “بزنس” الرياضة لغسيل الأموال، كما فعل الأثرياء الجدد في روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بشرائهم نوادٍ شهيرة وكبيرة مثل بعض أندية الدوري الإنجليزي الممتاز وغيرها في بلدان أخرى.
من هنا بدأت تظهر قضايا الفساد بالملايين في الاتحادات الدولية والإقليمية وحتى القطرية على مستوى أقل طبعا. لكن الأهم والأخطر هو صفقات بيع وشراء اللاعبين المحترفين بعشرات ومئات الملايين، وهو ما أفقد اللعبة جوهرها الأساسي كوسيلة رياضة وترفيه للجماهير. بل إن ذلك في العقود الأخيرة أدى إلى موجة من تدهور قِيَم العمل وغيرها لدى الأجيال الشابة، حيث تجد تلاميذ المدارس يريدون جميعا أن يصبحوا لاعبين محترفين فيكسبون الملايين من مجرد اللعب دون حاجة لعلم أو عمل. وبدلا من أن تصبح منافسات اللعبة وسيلة لبث ما تُسمى “الروح الرياضية” أصبح المشجعون وكأنهم في حالات حرب تنتهي أحيانا بسقوط ضحايا. وصاحب سعار “البزنس” الرياضي سلوكيات ليست غير رياضية فحسب بل مدمرة أحيانا. وكم شهدنا في السنوات الأخيرة من مباريات أعقبها وقوع قتلى وجرحى بين المشجعين نتيجة هذا السلوك المتوحش فعلا.
بالطبع ستجد تفسيرات كثيرة لهذا التغير السلوكي لدى جماهير كرة القدم، منها ما يرجعه إلى تطور عادات اجتماعية وقيمية جديدة، ومنها ما يعيده إلى ما يوصف بأنه تدهور عام للأخلاق.. إلى آخر تلك التفسيرات المحتملة. لكن الأكيد أن فساد منظومة اللعبة بعدما أصبحت “صناعة” بالمليارات عامل أساسي في هذا التغير في الرياضة وجمهورها. وحتى لا يفهم من ذلك أن المال “مفسدة” بالمطلق، لا بد من التأكيد على أن وصول رياضة كرة القدم إلى مستوى متقدم يحتاج إلى المال. وطبيعي أن اللاعب الذي يحترف، أي تصبح مهنته الوحيدة هي لعب كرة القدم، من حقه أن يحصل على أجر جيد، خصوصا وأن عمله في هذه المهنة لا يستر طويلا فعليه الاعتزال عند سن معقولة وبالتالي يحتاج للادخار لبقية حياته. لكن ما يحدث الآن في “بزنس” الرياضة لا علاقه له بهذا الأمر المنطقي، فقد تجاوز هؤلاء بمراحل نجوم السينما العالميين ومشاهير وسائل الترفيه الأخرى. مع الأخذ في الاعتبار أن الرياضة بالتأكيد غير التمثيل وغيره من مهن الترفيه. فقد بدأت منذ القدم بشكل مختلف، وظلت حتى قبل عقود قليلة ينفق عليها من عائدات بطاقات الجمهور ـ بالضبط كما بطاقات السينما لمشاهدة الأفلام.
ظهرت في السنوات الأخيرة دعوات تطالب بعملية “إصلاح” لمنظومة كرة القدم كلها، لكن تلك الدعوات تخفت بسرعة أمام طوفان أموال الأثرياء ومن يسمون “رجال أعمال” من هواة العجرفة بالثروة أو الحاجة لغسيل أموال جمعوها بطرق غير شرعية. ولأن تلك الرياضة عالية الشعبية عالميا وصلت إلى مرحلة من الصعب عليها فيه أن تستمر بدون تلك المليارات، لن يكون الإصلاح سهلا هذا إذا كان ممكنا من الأساس. وستكون المقاومة الأكبر لأي محاولة إصلاح من القائمين على تلك الرياضة أنفسهم، من لاعبين ومسؤولي أندية وإدارات اتحادات قطرية وإقليمية وعالمية. ولعل أسهل ما يمكن قمع أي دعوات للإصلاح به هو اللجوء لجماهير المشجعين، بسلوكياتهم الغريبة حاليا، وإثارتهم بحجة أن من يدعو للإصلاح إنما يريد أن يسلبهم شغفهم باللعبة وإمتاعهم بها. مع ذلك، لا يمكن السير وراء “الجمهور عاوز كده”، ولا بد من الدعوة إلى تغيير. على الأقل أن يعاد لكرة القدم بعض الرياضة على حساب غيرها، أي ألا تكون كلها “بزنس”. فذلك في النهاية غير ممتع وغير رياضي.
«بزنس» الرياضة
- خبر
-
مشاركة
-
مواضيع مشابهة