Source: alwatan.com/details/434401Alwatan كتب:
د. أحمد بن علي المعشني :
السير إلى وديان جبل الصلاة (صولوت) ليس مجرد مشي جبلي للرياضة والمتعة والفرجة، إنه أعمق من ذلك بكثير، إنه اندماج روحي مع وعي كوني يتيح قدرًا غير محدود من التركيز والوعي الصافي النقي، اتصال ينقل المتصل إلى مستويات تفوق الوعي وتحرره من تأثير الهرج اليومي المألوف لكائن يجعل حياته في الأكل والشرب والنوم، في وديان (صولوت) تحتاج أن تفرغ عقلك تمامًا من التأثيرات التي أوقعتك فيها الثرثرة.هذا ما أفعله عندما أذهب إلى تلك المنطقة، بدأت رحلتي الأولى إلى هناك في 29 أكتوبر 2016، قضينا ليلة هادئة وجميلة بمعية عدد من الأقارب في وادي محاط بصخور هرمية يطل عليه جبل الصلاة (سمحان) كلما أنظر إليه في الظلام أشاهده يلبس الضباب المتحرك ويعانق النجوم كما لو كان متصلًا بالسماء، أسمع همس الصمت يتخلله هفيف نسيم خفيف يأتي من جهة البحر، فتتلقاه الأشجار والصخور بإيقاع ناعم، وهناك تمتزج الروائح العطرية بتسابيح الطبيعة، فتسكن النفس وتحلق الروح في نشوة تسمو بالوعي عاليًا.
يلبسني شعور لطيف يمزج الخشوع بالرهبة والسكينة، فكنت حريصًا على ذكر الله، حتى يبقى الحبل الأثيري متصلًا بالله سبحانه وتعالى، وبين النظر إلى جبل الصلاة والإصغاء إلى تسابيح الوادي واستيقاظ الطيور والحيوانات، بدأ وعي الوجود الحسي يزيح أستار الليل، ويفتح العيون والعقول.
أدينا صلاة الفجر بطريقة عادية جدًّا، بحركات ميكانيكية وتمتمات مألوفة، وكنت ما زلت ثملًا بتلك الرحلة الروحية، كانت الهضاب والشعاب والمسالك خضراء، والسماء تتلبس السحب والجبل الشاهق يدعونا إلى طلوعه.
بدأنا السير قبل شروق الشمس وكانت الرحلة شاقة جسديًا لكنها تركت أثرًا عميقًا في عقلي وروحي، الأمر الذي جعلني أتردد من وقت لآخر إلى تلك البقعة المفروشة بالسكينة.
منذ ثلاثة أيام كنت محظوظًا من جديد مع بعض رفاقي، وبدعوة من الأخ محمد بن سعيد المشيخي (مراسل وكالة الأنباء وجريدة عمان)، وهو شاب مثقف يعمل معلمًا للغة العربية في وزارة التربية والتعليم، ويحفظ كثيرًا من الحكايات والقصص والاشعار الشعبية، فجمع الفصاحة والفلكلور والتاريخ، وقد أبهجنا بليلة قضيناها في وادي (لجأ الشؤ) يختلف النطق عن نطقها باللغة الدارجة، في وادي فسيح مفروش بالأحجار الملونة ومسور بأشجار السمر ونباتات (عِقْبَتْ) ذات الروائح العطرية، والكهوف والصخور التي تبدو في جمالها كمتحف طبيعي للحياة الفطرية، قضينا ليلة جميلة لا تقل روعة عن كل الليالي التي زرت فيها وديان الصلاة وجبالها الشماء.
تمثل الطبيعة ثروة بكل المعايير، ولكنها بالنسبة لي تعتبر كوكبًا آخر يرتاده من يبحث عن السعادة والراحة والسكينة ولملمة أشلاء الذات، فهو مشفى وهو قاعة تدريب واسعة ومحراب نقي حافل بتيارات روحية نقية جدًّا، استيقظت في تمام الساعة (3.20) دقيقة، كان رفاقي يغطون في نوم هادئ ووديع، بينما انطلقت أنا أخلع الشعور بالوحشة والرهبة، وأجتاز عتبات الذات مندمجا مع تلك الروح الكونية الرائعة التي تصل كل شيء بكل شيء، أتحرر من الوعي الفردي ومن أعباء الذات وأثقالها، أدخل في اتصال عميق مع الوعي الإلهي الذي ينزله الله في هذا الوقت من الليل إلى السماء الدنيا، لاستقبال الدعاء وتلبية الحاجات وإحداث التغيير ونشر السعادة والسرور في النفوس.
دخلت إلى خيمتي الصغيرة مجددًا، وبقيت يقظًا أستمتع بهذا الوعي الفريد الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى لجميع مخلوقاته، بدأت الطيور والعصافير والكائنات تستيقظ مرة أخرى وعادت الأرواح إلى أجسادها بعد رحلات بعيدة.
أدينا صلاة الفجر خلف أحد الأصدقاء، قرأ الفاتحة وأعقبها بآيات بسيطة أعادت اتصالنا بالسماء من جديد.
وفي الصباح كنا على موعد مع مرافقنا الأخ محمد بن سعيد المشيخي لاستكمال بقية مشوار الرحلة.
* رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية ـ مؤسس العلاج بالاستنارة (الطاقة الروحية والنفسية)
رحاب: العودة إلى وديان جبل الصلاة (1)
- خبر
-
مشاركة