Source: alwatan.com/details/434577Alwatan كتب:
د. رجب بن علي العويسي:
ما بين حينة وأخرى يظهر عبر المنصَّات التواصلية من يتحدث باسم المجتمع، يمثِّل دور الوصي، والحامل للواء الإصلاح ورائد التغيير، بينما لا يتعدى دوره حدود الدعاية والإعلان، والترويج والتسويق للملابس والأحذية والعطور، ومساحيق التجميل، واضعا الشهرة طريقه في تجميع عدد كبير من المتابعين، والحصول على أكبر فرصة من الاهتمام؛ إنهم كما يحلو أن يسميهم المجتمع الواعي بأدواره، الفاهم لمسؤولية، الحريص على ولائه وانتمائه (مشاهير الغفلة). من يتحيَّنون الفرص للصيد في الماء العكر، يهوِّلون الواقع، ويشوِّهون صورته ويصنعون منه مساحة للاختلاف والخلاف، فيما يقدمون عبر هذه الوسائط من كتابات أو تغريدات، أو تعليقات، أو عبر ظهورهم في وسائط سمعية، أو وسائط الفيديو واليوتيوب أو السناب شات وغيرها من الفنون التواصلية المتعددة، تدفعهم في ذلك رغبتهم في الضجيج، وشغفهم للإعجاب، ونشوتهم في تعليقات المتابعين، ليس بعمق طرحهم، أو جدية محتواهم، أو واقعية حديثهم، بقدر حبهم للظهور، وسرقة الأضواء، والدخول إلى باب الشهرة، والمنافسات العارية على حساب الجسد والقِيَم والأخلاق والهُوية، في رسم صورة مشوهة لهذه المنصَّات، في فراغ المحتوى، وخداع المظاهر، منطلقا من فكرته نحو الآخر، وغروره بنفسه طريقه لبلوغ الهدف وتحقيق الغاية، وإرهاق الناس بقضايا لا طائل منه، وإمتاع الناس بمواضيع أقرب وصف لها أنها تافهة، حتى أصبحت مثارا للضحك والهرج، والتهكم والسخرية، وإشغالهم بقضايا جدلية بعيدا عن أولوياتهم الحياتية وواجباتهم الاجتماعية، وتوجيه أفكارهم إلى التنازع والخصام في قضايا ومسلمات بات الحديث عنها نوع من العبث الفكري والضلال المعرفي، ليس لكونها تقع في دائرة العصمة والتنزيه، بل بما تحمله من دافع استدراج الناس عن مواقفهم، وتشويه صورة الواقع لديهم، وإحداث الإرباك والخلل الفكري في قناعاتهم وإيمانهم، وإضاعة الوقت والجهد في حرب كلامية، ونقاشات مستهجنة، وعبارات عنوانها السب والشتم، والجدال العقيم، والتنابز والتناحر والتشاحن المؤدي إلى الخلاف، حتى وجد أصحاب الشهرة في الإشاعة والسلوك المخالف طريقهم لكسب الرهان، والحصول على نقاط النجومية، وحديث الناس عنهم، وترويج أسمائهم، وتداول الحديث حول شخصياتهم، حتى اختزل الواقع في سفاسف الأمور، وانحطت فكرته إلى دركات السقوط الأخلاقي، وانتزعت منه ثورة إنسان المبادئ والأخلاق، وحس الشعور بالمسؤولية وصدق اليقين، ليجدوا في الشباب الحائر الباحث عن أمل وعمل، المرتمي في أحضان التواصل الاجتماعي، في ظل انسداد آفاق التشغيل، وفقدان الأمل، وعجز المؤسسات عن إسدال الستار على قضيتهم كباحثين عن عمل، أو فتح آفاق أوسع لرفع سقف توقعاتهم في المستقبل والحياة، وتعزيز فرص الانتماء الوطني لديهم؛ من يحيطهم بمتابعته، ويمنحهم ثقته، في ظل ترويج قوالبهم الفكرية المشوهة، ومساحتهم الشخصية المتصنعة، ومحتواهم الفارغ الذي يكرر نفسه.
ومع ما أشرنا إليه يبقى المجتمع أحد أسباب اتساع مساحة الشهرة بين أبناء المجتمع، وصناعة هذه الفئة وإنتاجها، فإن ما يعيشه المجتمع من فاقد العمليات المتكررة، وغياب الإنتاج الفكري، والوعي المجتمعي في قراءة ورصد ومتابعة الإنتاج المعرفي الرصين وتشجيعه، وتداول ما يطرحه المفكرون والكتَّاب والباحثون وغيرهم من أبناء المجتمع عبر الفنون الإعلامية المختلفة، وما يؤسسونه من فرص نجاح، في مقابل اهتمامه بالأفكار السطحية، وتداوله للمعلومات المغلوطة، واهتمامه بالتغريدات التي تحمل في ذاتها خروجا عن المألوف، في إساءة لمسؤول بعَيْنه، أو ذكر سقطات لمؤسسة معيَّنة، أو التركيز على حدث غير مقبول مجتمعيا ليصنع منه مساحة لانطلاقته وفرصة لظهوره عبر تداول المجتمع لهذا المقطع أو المعلومة، لتؤسس هذه الصورة المشوهة للفكر الإيجابي والطرح الراقي وصناعة النماذج، واتجاه المجتمع إلى التركيز على السلبيات والاهتمام بالقشور والشكليات، والانجراف نحو المغردين وبياع الكلمة، أوجد من يتفنن اليوم في البحث عن الشهرة، وأن يتصدر بعض الكتَّاب والمحسوبين على الثقافة والفكر وغيرهم في المجتمع الذين لم ينالوا حظ الذكر والشهرة رغم تاريخهم الزاخر بالكتابة والتغريد وغيره، ورغم ما يقدمونه من محتوى راقٍ وفكر رصين، ليتجه بعدما عجز عن إيجاد من يتداول تغريداته، أو يتفاعل مع محتواه، أو ينشر ما يكتبه ويعبِّر عنه من مصداقية الكلمة، وسمو الفكرة، ومنطق التحليل، وعمق القراءة، إلى الشهرة بدافع توجيه الأنظار إليه، ليخطئ ويشتهر، ويفصح عن سيئة ويغتفر بزيادة متابعيه، ليتعاظم أمام الناس قدره، ومع أن الباحث عن الشهرة لا يضع في اهتمامه رضا الناس عنه، وتأييدهم لفكرته، وحبهم له، بقدر اتساع شهرته، وتداوله اسمه، فلن يعير حديث الناس اهتماما، ولن يصنع من انتقاصهم له أي فرصة للمراجعة والتصحيح، لأنه في قرارة نفسه قد كسب الرهان، أو حقق الإنجاز، وأن اتجاه الناس إليه وتوجيه بوصلة الذكر له ـ أيا كان ـ فرصة للاعتراف به، والإخبار بوجوده، وإعلام الآخرين بحضوره، هكذا بدأ الكثير من أبناء المجتمع يتجه اليوم إلى الشهرة رجالا ونساء، كبارا وصغارا، ليمارسها في أشكال مختلفة، وأساليب متعددة، في مخالفة معتقد، أو التعدي على قناعة أو الانتقاص من مبدأ، أو استحلال محرم، أو استحباب منكر، أو الوقوف مع منبوذ، أو ممارسات تخدش الحياة وتخل بالأدب والذوق العام، وترسم قبح السيرة ودناءة السريرة، وقد يجاهر أحدهم ربه بالمعصية، ويلحد في قوله وفعله، ولا يتأدب مع الذات الإلهية، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وقد يكون بمعاقرة محرم والدعوة إليه وحث الناس على فعله، أو بمخالفة الناس في أمر دينهم وعقيدتهم ومبادئهم، أو بكسر حاجز الالتزام بالمعهود من القِيَم الأصيلة، والمسموح من العادات السليمة، أو بإظهار مفاتن الجسد، وإثارة الغريزة الجسدية أو بالدعوة للتبرج، أو بتشجيع الحركات التحريضية كالنسوية والإلحاد، أو بالحديث عن قضايا باتت في طي النسيان، فلم تعد حاضرة لينبث فيها بأنيابه مستحضرا دعواها الجاهلية وفكرها المنحرف، أو عبر تصوير ونشر مقاطع الفيديو واليوتيوب ونشرها في أبسط الأشياء، وأصغر المواقف الشخصية، ليعمم الأمر على الآخرين، دون أن يمنح نفسه فرصة في التأمل، أو ينزِّه نفسه عن الخوض في المحظور، ساعيا إلى التأثير على الشباب، وتشجيعهم على الباطل والتغرير بهم، ليعلن الحرب على المؤسسات، والفشل الذريع للجهات المعنية في تحقيق أدوارها أو القيام بمسؤولياته، دون أن يقف على مسببات الأمر، أو أن يرفع سماعة الهاتف ليتواصل مع جهات الاختصاص لمعرفة ما يحدث، فهو يقدم على الفعل بدون أن يسأل نفسه، هل لديه القدرة على أن يقدم للناس منتجا ينفعهم، أو يدلهم على بديل آخر يفيدهم في أمر دينهم وشؤون دنياهم، وغيرها من الأمور التي بات الحديث عنها تعبيرا عما يعيشه البعض منهم من فضاوة في التفكير وسطحية في الفكر وفراغ في قراءة الحياة، لتسدل الشهرة الستار على مساحة التأمل وفضيلة الانتظار وحس المسؤولية وعظمة الكلمة وخشية الخطأ، بل حتى صدق الفكاهة وصدق الابتسامة، فمن يسعى للشهرة معرض أكثر من غيره للخطأ؛ كونه لا يراجع نفسه لا يردعه عن تحقيقه هدفه الوقتي، نصح ناصح، أو توجيه عارف، أو تصحيح غيور، أو حكمة حصيف، حتى وجدوا في المثل الدارج “خالف تعرف” بوابة دخول تكسبهم الوقت في المزيد من المهاترات الإعلامية، والسقطات الفكرية والأخلاقية المتكررة، التي تفتقر إلى تأنيب الضمير، أو حفظ ماء الوجه، ليأتي حديثه مجانبا للمقبول، مغايرا للمشهور، ضاربا بالقِيَم والمبادئ والأخلاقيات عرض الحائط، فأخذت الشهرة منهم وقتهم، وأضاعت عملهم، وأذهبت ثوابهم، واتجهت بهم إلى الأنانية والذاتية، والفردانية والسلطوية، خرّبت البيوت، وأضاعت النفوس وأرهقت البلاد والعباد.
أخيرا، ندرك أن منصَّات التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، فمع الاعتراف بما أوجدته من فرص، وأسَّسته من محطات للتحوُّل، وممكنات للوعي، وأصَّلته في فقه الشباب من مهارات اختيار مصادر المعرفة التي تتناغم مع هُويتهم وتتوافق مع مبادئهم، لذلك لا نجد للتعميم مدخلا في التعاطي مع هذا الأمر، ويصبح الفيصل في الأمر، والحكم النهائي في القاعدة مرهونا بمصداقية المحتوى وكفاءته، وجديته وموضوعيته، والأمانة الأخلاقية التي تحتويه، ومبادئ الذوق والأسلوب المرهف الذي يسكنه، فإن الأمر مرده كله للمحتوى الذي يحمله الناشط في هذه المنصَّات، ومع ذلك فإن ما أشرنا إليه إنما يتجه بالأخص إلى أولئك الذين جعلوا من هذه المنصَّات محطة للشهرة، وصناعة متابعين مزيفين لهم في الواقع، رغم أنهم لا يملكون محتوى هادفا، أو مسارا واضحا، أو أصالة فكرية، أو أسلوبا يحترم ذوق المجتمع وأعرافه. ومع تزايد أخطاء هؤلاء وغلطاتهم وسقطاتهم المشينة ندرك أن ما يحظى به هذا المجتمع في شبابه وبناته، ورجالاته ونسائه، واعين لمثل هذه التصرفات، قادرين على تمييزها، مدركين بأهمية فتح المعلبات الفارغة قبل ترويجها ونشرها، وعندما يتكاتف المجتمع في فضح تغريداتهم، وكشف زيف معلوماتهم المغلوطة، تصبح بيوتهم الفكرية أوهن من بيت العنكبوت في قدرتها على الصمود وتحملها للمواجهة، وفي الوقت نفسه، ليس لنا أن نعيب على هذه المنصَّات أو نقرأها في سلوك أحد هؤلاء المشاهير، فهي وجدت من أجلنا، ووضعت تحت تصرفنا، والكيِّس الفطن من استثمرها لخدمة الإنسان وسعادة الأوطان، فالعيب كل العيب في من أدخل فيها من عوالق النفس الدنية، ورغباتها السطحية، والبحث له عن حضور أجوف، وموقع قدم معرض للسقوط، لتنهار به شهرته في قعر الجهالة، وتنحط به في دركات الدناءة.
في العمق: الشُّهرة التي أفقدت مشاهير التواصل الاجتماعي توازنهم
- خبر
-
مشاركة