(كائن، فهم أفضل لضخامة التعقيد)

    • خبر
    • (كائن، فهم أفضل لضخامة التعقيد)

      Alwatan كتب:

      سعود بن علي الحارثي:
      من دواعي الوفاء ورد الفضل لأهله ـ كما يقال ـ وقبل أن أشرع في تقديم مختصر أو قراءة موجزة لهذا الكتاب الشيق الذي يفصح عنوان المقال عنه، أن أزجي عبارات الشكر والتقدير للأستاذ المثقف إبراهيم بن أحمد الصلتي، صاحب مشروع ثقافي ناجح، ومكتبة غنية تُعنى بالكتاب العماني “مكتبة قرَّاء المعرفة”، الذي بادر فاختار مجموعة من الكتب قدر بأنها تدخل ضمن اهتماماتي وستنال إعجابي، فبعثها مع مندوب المبيعات إلى منزلي، وكان تقديره في محله بالطبع، فإبراهيم قارئ ذكي واسع الثقافة حصيف وبارع في اختياراته، لذلك يجد مشروعه الثقافي التأييد والتقدير والتحفيز من قِبل العديد من الشخصيات العلمية والثقافية، ويواصل نموه وازدهاره باستمرار، وتحوَّلت مكتبته في الأنصب إلى ملتقى ثقافي وزيارات لعشاق الكتب وقرَّائها والباحثين الذين يعبِّرون عن تجربتهم ومواقفهم وإعجابهم بالمشروع وصاحبه في سلسلة من التغريدات والكتابات التي لا تتوقف. من هذه الكتب الثمينة التي اختارها “الصلتي”، كتاب “كائن، فهم أفضل لضخامة التعقيد”، للكاتب يحيى عبيد إبراهيم الزعابي، الذي يختص بحقل علمي مجاله دراسة وفهم “الكائنات المجهرية”، أو العالم “الميكروبي”، وتشمل البكتيريات والفطريات والطحالب، والتي يستعصي فهمها على الفرد العادي غير المتخصص، وهو علم مرتبط بالإنسان، كون الكائنات الحية الدقيقة تعيش في جسمه وبيئته وجزءا أساسيا من حياته، وما اكتشفه العلم الحديث منها وتعرف عليه وصنفه محدود جدا مقارنة بالأنواع الهائلة التي تعيش بيننا، الضار منها والنافع. توافقت قراءتي للكتاب في مرحلة زمنية حرجة واستثنائية يفتك فيها بالبشرية “كوفيد19” مثيرا الرعب والفوضى والخسائر في الأرواح والأجساد واستنزاف الاقتصاد العالمي، فـ”كائن، فهم أفضل لضخامة التعقيد”، يسرد في لغة أدبية جميلة لتاريخ الفئة الشريرة التي تنتمي إلى العالم الميكروبي ولكل أنواع الفيروسات التي أرعبت العالم ومزقت أوصال حضارات وقوى وأجهضت مشروعات إنسانية وأجهدت العلماء… وفي مقدمتها وأخطرها بالطبع وباء “الطاعون”، الذي “أتلف ربع سكان الأرض”، وتطلب أكثر من ألفين وثلاثمائة سنة من التجارب والتضحيات قبل أن يتعرف العلماء على طبيعته وخصائصه ومنشئه واكتشاف علاجاته ولقاحات تحتويه وتضعف انتشاره. بحسب التعريف، فالكتاب “يسعى إلى إزاحة كل ما من شأنه أن يفصلنا عن رؤية الأشياء كما هي، خصوصا تلك التي نعتقد أنها تشغل حيزا صغيرا من الوجود”. استعرض الكتاب في فصوله، تشابكات ومسارات الصراع الشرس بين مواقف العلم وإنجازاته من جهة، والمعتقدات المتشبثة بالأساطير والخرافات والتفسير الديني للأمراض الفتاكة والكوارث من الجهة الأخرى، وانعكاساتها العميقة على تفشِّي وعنف وعتو الأوبئة، أو القضاء عليها ومحاصرتها، وعلى ضوء تقدم العلم وإنجازاته أو عجزه وإخفاقاته، والعلم يكون هو المنتصر بالطبع في نهاية المطاف. تحدث “الزعابي” كذلك في كتابه عن طبيعة الحرب الطاحنة التي تشهدها أجسادنا بين الفيروسات القاتلة وأجهزة المناعة ودفاعاتها، التي تفقد قواها وتنهار أمام الكثير من الكائنات الدقيقة المدمرة. يحتوي الكتاب على معلومات مفيدة جدا عن طبيعة أجسامنا المعقدة التي يسعى لتبسيطها أمام القارئ، ومنشأ الحياة وإبداع الخالق في صور ومشاهد مثيرة تضمنتها الفصول الأربعة، وعرض بالتفصيل لتضحيات العلماء وجهودهم وتجاربهم لدراسة وفهم “الكائنات المجهرية”، والكشف عن طبيعة الأوبئة التي ضربت البشرية، ومحاولة إيجاد واستخراج اللقاحات لاحتوائها والسيطرة عليها… وضمن كتابه محطات تاريخية فاصلة في حياة الإنسان، وصور ومشاهد مؤلمة لضحايا الطاعون، وأخرى شيقة. وبالمختصر المفيد قدَّم قراءات وخلاصات مهمة للغاية تعزِّز وعي القارئ ومفاهيمه، وتمكِّنه من القدرة على التعامل مع الكثير من الإشاعات والمعلومات والأخبار المغلوطة عن “كوفيد19″، وعن اللقاحات التي تمتلئ بها وسائل التواصل هذه الأيام، وتشوش على الناس بشكل كبير. أول وباء تم توثيقه والإشارة إليه كان عن الطاعون الذي اجتاح “أثينا في الفترة ما بين 430 – 426 قبل الميلاد” والذي تسبب في “تقويض الإمبراطورية العظيمة”، التي “طرق بابها نزيل غير مرحب به إطلاقا، آتيا من القارة السمراء، عبر السفن إلى المدن. تتبع طرق التجارة ببراعة مدهشة. كان الضيف عابرا للقارات، كان شيئا جديدا ولعنة جديدة شقت طريقها إلى المآسي، إنه الطاعون الدبلي الذي كان توَّاقا لعرض قدرته المروعة بشيء من الغطرسة والعجرفة”. و”في نهاية الثلاثينيات من القرن السادس، اجتاح طاعون آخر “قرية عمواس”، بعد فترة وجيزة من فتح بيت المقدس، واشتعل في أبدان المسلمين”. من المواقف التاريخية العجيبة التي كشف عنها “يحيى عبيد”، وتسببت في مأساة عالمية كانت عندما حاصر المغول مدينة “كافا”، في 1345 واجتاحهم الطاعون للمرة الثانية، فماذا فعلوا؟ لكي يطفئوا النار المشتعلة في نفوسهم حقدا وغيظا على أعدائهم المتحصنين في راحة وعافية، فقد استخدموا المنجنيق لإلقاء جثث جنودهم الذين فتك بهم الطاعون على المدينة، و”تفاجأ السكان بأشياء تلقى عليهم من خارج السور، من المكان نفسه الذي تمركزت فيه كتائب المغول: السماء تمطر أجسادا متعفنة؟ ما الذي يحدث بحق الرب؟ وبينما ظل السكان يراقبون دون حول منهم ولا قوة، تحطمت الجثث إلى أشلاء وانتشرت رائحتها النتنة في كل بقعة”. فأصيب الجميع بلعنة الطاعون، “فر أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة عبر السفن إلى عمق أوروبا طلبا للمساعدة. غير أنهم دون وعي تسببوا بواحدة من أوسع الكوارث عبر تاريخنا الطويل. بدأ حصد الأرواح بحلول الخريف؛ انهيار مروع لبني البشر، حمى متموجة اقتحمت رحم الأرض وأدت إلى مخاض أبنائها في وقت مبكر”. يتكرر سيناريو الأوبئة والجوائح في تعاملها مع الإنسان، فمثلما نشهد اليوم تحوُّرات “كوفيد19″، مولدا سلالات أشد فتكا وأكثر انتشارا، كذلك كان الأمر مع الطاعون وغيره من الأمراض، “فلمواصلة تربعها على حكم أكثر المخلوقات فتكا في تاريخنا البشري، طورت الجراثيم المسببة للطواعين بمرور الوقت تعديلات في جيناتها جعلتها أكثر وحشية”. في واحدة من أشد غزواته ـ أي الطاعون ـ وفي منتصف عام 1665، “اجتذبت القمامة في الأحياء الفقيرة المركونة على حواف مدينة لندن الفئران المصابة بالوباء، فتسللت إلى لندن حاملة معها الجرثومة، ولكن بشكل متطور وعصي. تركت المدينة، في واقعة غريبة جدا، تحت رحمة الطاعون بعدما فر الأطباء مع التجار والمحامين والأغنياء… لقد ظهر الطاعون الرئوي بشكل لم يسبق له أن تفشَّى بهذا الشكل من قبل…”. ظلت البشرية تعاني من الجراثيم المسببة للطاعون، ومن سلالاته المتحوِّرة التي تظهر بأشكال وأعراض متعددة، ولكن في صيف عام 1894م، أحرز العلم تقدما كبيرا بعد أن اكتشف “الطبيب السويسري ألكساندر يرسن، بأن مسبب المرض بكتيريا لا يتعدى طولها مايكرومترين، فلم يكن يرسن بحاجة إلى أكثر من مجهر صغير ومعقم ومزرعة بكتيريا ليميط اللثام عن القاتل”. بعدها بسنة فقط، “غادر يرسن إلى هونج كونج محملا بقنان زجاجية مليئة بسائل شفاف، ولكن ليس لتحقيق تجارب إضافية هذه المرة، وإنما لعلاج المصابين بمضاده الجديد”. ليعلن عن انتصار العلم بعد قرون من المعاناة. صحيح أن العلم يتقدم، ونتائج الجهود والتضحيات التي يقوم بها العلماء في الميادين والمختبرات والجامعات، وخلاصة التجارب والأبحاث المكثفة تتوصل إلى نتائج مثيرة جدا، وكل نظرية تعزِّز وتكمل وتصحِّح سابقاتها، وصحيح بأن العلماء يتوصلون إلى علاجات ولقاحات تقضي على الأوبئة والأمراض التي تتسبب فيها الفيروسات والطفيليات، ولكن مع كل هذه الإنجازات المتحققة والثورات العلمية المتواصلة إلا أن الإنسان لا يزال في مرحلة المنشأ والطور في مقابل التعقيد وحجم الأسرار وما هو مخفي وعجيب ومعجز وغير مفهوم في كل ما يحيط بنا. لقد وقف العلماء مبهورين بالحقائق التي يكتشفونها، ومحبطين وهم في حيرة وعجز لأن “جبل الأوراق” لم يقدم دليلا على ما أهدروه من أبحاث وتجارب، والكم الهائل من الخلاصات قادتهم بأسلوب مراوغ بعيدا عن الإجابة المؤملة، فالعلم “ما زال يثبت، وباستمرار، أنه لا يملك إلا الشيء اليسير مما يمكن تفسيره إزاء الكثير من الحالات والأمراض البشرية”، فحضور الفرد ومتابعته “لمحاضرة واحدة في علم الأحياء، فصل: اللبنات الأساسية للخلية، درس: البروتينات. كفيلة بإخبارك ماذا عني الله بقوله: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”. هل نجح “يحيى عبيد” في تبسيط التعقيد لقارئه، وهل قاده إلى “فهم أفضل لضخامة التعقيد”؟ كانت عبارته التي ختم بها كتابه “لن يظهر الفهم العميق وجها آخر غير الغموض”، حاسمة وتحتوي على الإجابة وتعبِّر عن آيات الإعجاز التي تحتشد بها حياتنا، مما يتجاوز بكثير إدراك وفهم الإنسان مهما بلغه من علم، ومهما بذله الكاتب من تبسيط.

      Source: alwatan.com/details/434910