Source: alwatan.com/details/435419Alwatan كتب:
د. رجب بن علي العويسي:
يعيش العالم اليوم في ظل أحداث جائحة كورونا (كوفيد19)، حالة من الاضطراب النفسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي الذي أثَّر على حياة الناس وقدرتها على التعايش مع الواقع والتحاور مع معطياته، ما أدَّى إلى ارتفاع معدَّلات القلق والخوف وتزايد نسبة الأمراض الناتجة عن التفكير السلبي، والاندفاع غير المبرر والحساسية المفرطة، وسرعة الردود والأحكام الجائرة، أسهم في التمرد على القوانين والأنظمة، وعدم تقبل الواقع، أو القدرة على تحمله، والتنمر الفكري الذي أصبحت تضج منه منصَّات التواصل الاجتماعي، فانتزع منهم فلسفة الصبر، وروح السكينة، وثقافة الانتظار، والتأمل في الواقع. وعلى الرغم مما اتخذته الدول والمجتمعات من استراتيجيات الضبطية القانونية مجالا لردع غوغائية السلوك البشري، والتجاوزات الحاصلة من البشر، وتأكيد سيادة القانون والقضاء وكفاءة مؤسسات الأمن والضبط الاجتماعي والمؤسسي في القيام بواجباتها في تحقيق الأمن وإشاعة النظام ونشر الطمأنينة والسكينة بين السكان، إلا أن ذلك لم يكن كافيا وحده في ردع همجية البشر ووحشيتهم، بل كان بحاجة إلى موجِّهات إصلاح وبناء الثقة تنطلق من الإنسان نفسه واستشعاره عظمة المسؤولية، وأخلاقيات الإنسان، بما يضمن نجاعة القانون والضبطية في تحقيق غاياتها الإصلاحية بكل مهنية واحترافية.
إنَّ الرقابة الذاتية بذلك مساحة اعتراف بتقصير الذات وقصورها في الوصول إلى درجة الكمال البشري، واستدراك النفس لسدِّ الخلل الناتج عن فجوة التباين بين الممارسة وقواعد السلوك الحاكمة، وفترة استراحة لالتقاط الأنفاس والوقوف على الواقع بروح ملؤها التفاؤل والإيجابية، والصدق والموضوعية، والثبات والالتزام، والوعي والفهم، وحس المسؤولية وحسن التصرف، مرحلة لتجديد الآمال، وإعادة هندسة الذات، وتصحيح الممارسات، واستشعار الموقف، إنها انتصار للآخر، في مواجهة أنانية النفس وفردانية السلوك، وسلطوية القرار، لذلك عندما تبني في صحائف النفس وصفحاتها البيضاء ذاتية الرقابة وتتجذر قيمة الردع الفطري، وتتأصل أخلاقيات الإنسان وقِيَمه، عندها تتجه الأمور إلى الصلاح والإصلاح، فتقل التجاوزات الناتجة عن هزيمة النفس في مواجهة ظروف الحياة، وتقلل من نزعة الذات وغلبة الأنا في التعامل مع الآخر، وتكسر شوكة النفس في جبروتها وفسادها وإفسادها واستهتارها، ومسار الوقتية في الالتزام بالقانون، فيصبح الالتزام نابعا من إرادة ذاتية، ورغبة فطرية، وشعور نفسي، وليس حالة طارئة، أو مسارا وقتيا بحسب الظروف والأحوال أو المزاجية في الاختيار، فإن أكثر المشكلات اليومية التي تواجه المجتمعات، الاقتصادية منها والأسرية والاجتماعية، والتجاوزات المالية، كالاختلاسات والرشوة والتحايل، أو حتى أبسط الممارسات اليومية والتفاعلات الحياتية التي يمارسها الفرد بقصد أو دون قصد مثل: عدم التزام السائق باستخدام حزام الأمان، أو عدم استعمال أجهزة الهاتف المحمول في أثناء القيادة، أو يفحّط بمركبته في الأماكن العامة، ويرفع صوت مركبته كلما اقترب من المناطق السكنية، أو رمي كومة القمامة والمخلفات خارج الحاويات، أو الإساءة إلى المواقع السياحية والتراثية والمتنزهات، أو تخريب الممتلكات العامة، أو العبث بمقدرات الآخرين ومواردهم، أو الإساءة القولية واللفظية في المنصَّات التواصلية تحت أسماء وحسابات وهمية، أو عدم التقيد بإجراءات الحجر المؤسسي والمنزلي في الإجراءات المقررة للداخلين للسلطنة عبر المنافذ المختلفة، أو لبس سوار التعقب، أو مخالطة الناس والمجتمع في أثناء الشعور بأعراض (كوفيد19) أو مخالطة أحد المصابين، إلى غيرها من المواقف والأحداث التي تحتاج إلى ضمير حي ورقابة ذاتية وأخلاقيات عالية، أكثر من حاجتها إلى رقابة القوانين والأنظمة، ولوائح العمل، أو وجود الجهات الأمنية والضبطية المعنية بتطبيق النظام والمحافظة على تنفيذ القانون.
وبالتالي أهمية أن تتجه منظومة العمل الوطني في مختلف جوانبها ومجالات عملها وتوجُّهاتها، إلى الإعلاء من قيمة الرقابة الذاتية وترسيخ مفاهيمها ومعاييرها وأدواتها وآليات إنتاجها، وتجسيد قيمة الرقابة الذاتية في سلوك الفرد والمجتمع باعتبارها مكوِّنا ذاتيا نابعا من قناعات الفرد وإيمانه وثقته، وتقوية الروح الإيمانية النابعة من قِيَم الدين العظيم وأخلاقه الرفيعة، وتعريض أبناء المجتمع لهذه المبادئ والأخلاقيات والحث عليها، كونها الطريق لتجنيبه أشكال التجاوزات غير المسؤولة، والعادات التي تشجع على سلطوية الذات وأنانية النفس، وما تتركه من مظاهر القلق والطيش وعدم المبالاة وإقلاق الآخرين وترويعهم، فيفسد بممارساته ما أصلحه المجتمع، على أن ما تحمله أخلاق الإسلام ومبادئه وقِيَمه من فرص بناء الرقابة الذاتية وتأسيس الرادع النفسي في ظل منهج الأوامر والنواهي والثواب والعقاب وفلسفة التوجيه الرباني في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تمثل مساحة واسعة من الضبطية التي تعمل كسياج يحمي الفرد والمجتمع من السقوط الفكري والنفوق الأخلاقي، وعبر تمكين الضمير من إحداث تحوُّل في سلوك الفرد والمجتمع، فإن الرقابة الذاتية في قدرتها على ترقية الوازع النفسي وصقل الرادع الذاتي، أمان للفرد أي توجُّهات غير مسؤولة أو ممارسات غير مقبولة، تبني فيه روح المسؤولية، والالتزام بالواجب، ويقوي فيه فضيلة الأمل وحب التجديد ورغبة العطاء، فإن المفاهيم الشرعية والأحكام الدينية في تنظيم العلاقات وفضائل الأعمال تمثل رادعا تشريعيا يحمي الفرد من الوقوع في التجاوزات، وصمام أمام يضع أمام الفرد حدود الاستطاعة ليوجه بها بوصلة عمله، ويحدد خياراته، بطريقة تتناغم خلالها خيوط التأثير مع مدركات النفس، وتلتصق برحم الأخلاق وفلسفة التغيير والإصلاح الذاتي للفرد لتؤسس له طريق التغيير الشامل والمستدام، فيصبح محطة تحوُّل في حياة الفرد تدير حركة التفاعلات اليومية والممارسات والمواقف التي يتعامل معها، وتوفر له سياجا يحميه من أي انحرافات قد تؤثر على استدامة هذه الشعور وكفاءته وتجلياته في حياة المجتمع.
وفي المقابل يقع على عاتق منظومات المجتمع الدينية والتعليمية والثقافية والفكرية، ومؤسسات القضاء والقانون والتشريع، تأصيل استراتيجيات بناء الرقابة الذاتية في المجتمع، منطلقة من روح التشريع والتأصيل الفقهي والقِيَمي، ومنظومة الثواب والعقاب، والأوامر والنواهي الربانية، باعتباره مدخلا مهمًّا في حقن الأرواح بأنسولين القِيَم وحس الضمير، فيتربَّى المواطن منذ صغره على قيمة هذه المبادئ والقواعد؛ لذلك فإن التعاطي معها يجب أن يكون في إطار من الالتزام والثقة والتكامل وإعادة إنتاج القِيَم الأصيلة في ظل معطيات المرحلة وبما يتناغم مع طبيعة الظروف، بحيث تسري في تفاصيل العمل وتجد التقدير والاهتمام لها في فقه الشباب وقواعد السلوك العام، وتفعيل خيوط التأثير في المجتمع الإعلامية والأمنية والدينية والرياضية والتعليمية، وتعزيز دور المؤثرين المخلصين من العلماء والقدوات في مختلف المنظومات المجتمعية، المهنية، والأسرية، والاجتماعية، والاقتصادية وغيرها، في المساهمة في إيصال هذه الصورة الإيجابية في أفضل حالاتها وأنبل معانيها، وأرقى درجاتها، وأوضح معانيها، وأصفى دوافعها، بأسلوب سلس سهل، تعلوه القدوة، ويجسده الاحترام، فينطلق بعون الله في ثبات، واضعا مبادئ التشريع وأخلاقيات الدين طريقه الأسمى ونهجه الأعلى وروحه الأنقى وعمله الذي يتجاوز به سقطات النفس، وإنتاج القوة الذاتية المعينة على استحضار هذا الشعور في مختلف المواقف، وعندما تقوى رقابة النفس على النفس، وتتشرّبها عن رغبة وقناعة، وثقة وإيمان، وثبات والتزام، عندها لن تجد الحكومات والمنظومات الأمنية والقضائية والقانونية أي إشكاليات تذكر في التزام الناس بواجباتهم، أو أدائهم لمهامهم، أو إخلاصهم في مسؤولياتهم، أو محافظتهم على أماناتهم.
أخيرا، فإن ما يمرُّ به العالم اليوم من أحداث ومواقف، وظروف ومتغيرات، ابتعدت إلا قليلا عن منهج السماء، واتجهت نحو تفسيرات البشر وقراراتهم وانطباعاتهم، أسهمت في خلق هذه الفوضى الفكرية، وأدَّت إلى اتساع بروز الحركات التحريضية كالنسوية والإلحاد وغيرها، واتساع دور مشاهير الغفلة في منصَّات التواصل الاجتماعي المعزِّزة لنرجسية الذات وأنانية السلوك وبراجماتية التفكير، وعبَّرت عن تزايد حدَّة صراع البشر نحو كسب رهان المادة، واتساع فجوة الخلاف بينهم رغم وجود منصَّات التكامل وفرص الالتقاء والحوار، ومساحات الشراكة والبناء؛ إنما هي نتاج لفجوة الروح التي أغلقت مساحة الرقابة الذاتية والرادع الشخصي، بالرغم من وضوح منظومة التشريعات والقوانين وما حملته في نصوصها من جزاءات وعقوبات، إلا أن الناس ظلت في ممارساتها الغوغائية وسلوكها المتحدي لكل أساليب الضبط والربط، لذلك كانت الرقابة الذاتية وبناء الضمير الحي وترسيخ قِيَم المسؤولية الشخصية مدخلا لوضع التشريع كموجِّه لديباجية القوانين والأنظمة واللوائح، يستشعر فيها المخاطب بالقانون، القيمة الناتجة عن التزامه، ليس في كونها تعبيرا عن احترام إرادة المجتمع، وتقدير مؤسساته ومنظوماته، واستشعار عظمة النفس في حسن سلوكها وسلامتها، بل أيضا في كون الالتزام ومبادئ التقدير والاحترام تعبيرا عن صدق التأدب مع الله وطاعة أوامره والتزام منهجه، والسير في طريق الرشاد الذي رسمه لصلاح البلاد والعباد، وتصبح الرقابة الذاتية في بناء الوازع النفسي، والرادع الأخلاقي والقِيَمي، حياة متجددة للضمير وحس المسؤولية في مواجهة غوغائية السلوك البشري وتجاوزاته، عندها يصبح الالتزام شرعة ومنهاجا، وطريقا آمنا مطمئنا، يحفظ به النفس من الضرر، ويحافظ عليها من الغرور، ويبعدها عن السقوط، ويقيها من الحرمان، فيقوي في النفس وازع الإيمان، وسمو المبادئ، ونبل الخلق، ونضارة الفكر، ورقي العاطفة، ليتجه الفرد بقلبه وفكره لله، فهو سمعه وبصره، وسره وجهره، ويومه وأمسه، وحياته ومماته، وصلاته ونسكه، وخوفه وأمنه، وسلامه وأمانه، وملاذه واحتواؤه، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، فيقوى إحساسه بالأمان، أصيلا متقلبا، وسلوكا حميدا مستحسنا، ودافعا ذاتيا نابعا من إرادة النفس، وشعورا بالفخر، وإحساسا بالأمان والأمن.
عليه، تتجه الأنظار إلى دور الرقابة الذاتية في بناء الوازع النفسي والرادع الأخلاقي والقِيَمي، وترقية حياة الضمير وحس المسؤولية في مواجهة غوغائية السلوك البشري وتجاوزاته.
في العمق: الرقابة الذاتية في مواجهة غوغائية السلوك البشري وتجاوزاته
- خبر
-
مشاركة