Source: alwatan.com/details/436298Alwatan كتب:
د. جمال عبد العزيز أحمد:
وألمًا: أن فقدت رغمًا عنها وأمام أعينها حقَّها، وهو أن تجيءَ مشتقة كأخواتها من الكلمات الحالية، نحو:(فخرج منها خائفًا يترقب)،ومثل:(يوم تولون مدبرين)،ونحو:(إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)، وهكذا فالأصل في الحال الاشتقاق، حتى إن النحويين يعتذرون للشواهد التي ورد الحال فيها غلى غير ضابطه،وقاعدته، ويصفونه أحيانًا بالشذوذ، أو السماع الذي لا يُقاس عليه، أو الضرورة الشعرية إذا كان في شعر، أو يقولون: هو مما يحفظ فقط، ولكنْ لا يُقاس أو لا يُستشهَد به .. إلى آخر تعبيراتهم التي تدل على كونه لم يرد على أصل ووفاق القاعدة، فكلمة (غصبًا) مصدر، والمصدر جامد، والحال مشتقة، ولكنَّ أحد أعاريبها المقبولة أنها حال، فالتساؤل هنا: كيف تعربونها حالًا، وهي مصدر، والمصدر جامد؟، فتجدهم يلتمسون لك عللًا واهية، ويقولون معناها:(غاصبًا إياها) أي: يؤولونها على الحالية فيخرجونها عن اللفظ الذي وردتْ عليه، ولو أن القرآن أراد (غاصبًا) لقالها، أو يؤولونها بمعنى المفعول لأجله، أيْ: يأخذها من أجل الغصب، أو على المفعول المطلق بتأويل فعل محذوف، أي: يأخذها: يغصبها غصبًا، ويروحون، ويجيئون مؤوِّلين اللفظ على غير ما ورد عليه في كتاب الله، ولو أنهم أوضحوا أن البِنْيَةَ وردت موافقة لسياقها، ومرماها، وأنها أُكْرِهَتْ على المجيء على تلك الصيغة، واغتُصِبَ حقُّها، وألجِم فُوها عن الحديث عن حقها في الاشتقاق، ولكنها فُتِحَتْ لها العينُ، وفُغِرَ لها الفمُ إنْ هي طالبت بحقها، أو رفعت عقيرتها رافضةً الظلمَ، فلزمت الصمتَ، وسكتت على غمٍّ، وهمٍّ، وكربٍ عظيمٍ، وهو الذي يرمي إليه السياق، ويبعث به المعنى: أن الحال هنا أُكْرِهَتْ على الجمود حيث جاءت مصدرًا، تماشيًا مع الظلم العام في الآية، الحاصل من الملك الذي سيمرُّ بعد قليل، وكان الرجلُ الصالحُ قد فهم طبيعة الموقف، وتدخَل لحل المشكلة، بإحداث خَرْقٍ يسير، أوقف السفينة، وعطَّلها عن العمل، فهي راكدة قد دخلها الماء، وأُلْقِيَ بها معوجةً، ملتصقة بطين البحر، هذا الأمر يسميه النحاة العدولَ النحويَّ، أي الانحراف عن القاعدة، فالعدل في اللغة يعني الانحراف والميل، كما قال تعالى:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام ـ 1).
وفي رأيي أن سببَ تضخمِ كتب التفاسير، وكتب الشواهد النحوية، والبلاغية أنها حُلِّلَتْ على وفاق الظاهر، ولم تتعمق في فهم طبيعة العدول النحوي، أو الصرفي الوارد، وسببه، ولو تركوا مساحة للتأمل، وربط هذا العدول بالسياق، والمضمون، والدلالة البعيدة، وقراءة ما في جعبة الشاعر، أو الناثر ـ لعرفوا لمَ عدلَ؟!، ولأيِّ شيء انحرف، ومال، فعلى سبيل المثال، قالوا في قول امرئ القيس في وصف شَعْر محبوبته العالي المتلوي فوق رأسها:
(غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا تضل العقاص في مثنى ومرسل)
قالوا: تفوَّه امرؤ القيس بما أخرجه عن الفصاحة، ورمي به ناحية مخالفة ما عليه العرب من اجتماع أحرف مثل: السين، والشين، والتاء، والزاي، وهي مجتمعة أمٌ صعبٌ النطق، ومستثقل على اللسان، وشنَّعوا عليه، وهو الرجل الذي ملأتْ فصاحته الفيافيَ والقفار، ووقف أمام براعته اللغوية الكبار والصغار، وصال في شوارع الفصاحة، وميادين البلاغة وجال، وما فهموا طبيعة ما رمى إليه بمخالفته ما نصُّوا عليه، والبلاغة والفصاحة في النهاية تذوقٌ، وروحٌ، وليست أحجارًا وقواعدَ صماءَ، جوفاءَ، لا محيد عنها، ولا مفر منها فالكلمة التي أخذوها عليه هي في الحقيقة، ووفق معطيات علم النص، وشروطه، وقراءة دواخل القائل، والعيش في عقله، وقلبه، وفكره ـ وهي كلمة مستشزرات ـ لو حللناها لوجدناها قمةً في البلاغة، وروعةً في سياقها، وأدائها، فـ(مستشزرات) بمعنى مرفوعات، عاليات فوق رأسها، كالعروس التي تُوِّجَتْ ليومها، فجعلت ضفائرها تعلو، وتعلو، وتعلو، وتتداخل يمنة مرة، ويسرة أخرى، لكبر، وطول شعرها، فهي تتأنق في إخراجه، وتتألق في تسويته درجاتٍ بعضها فوق بعض، وطبقات تتداخل في طبقاتٍ، كأنما أقامه لها كبارُ مصفِّفي الشعر، وأعدُّوها ليوم زفافها، وأصل الشزر الفتلُ على غير جِهة، وذلك لكثرة غدائره، فهي مرفوعات إلى العلا، وإلى ما فوق رأسها أشبارًا، والعُقَاصُ جمع عقيصة، وهو كل ما جُمِع في حزم من الشعر، ففتل فتلا منمَّقًا تحت الذوائب بأمشطة وُضِعت خصيصًا لذلك عند محلات تجهيز العرائس، وهي أمشاط معروفة، وعندهم منها أنواع منوعة، ملتوية مرة، ومستوية أخرى يداخلون فيها بين الشعور، ليخرج الرأس مزيَّنا أجملَ ما تكون الزينة، بهيًا بهيجًا أجملُ ما تكون البهجة، وأرقُّ ما يكون البهاءُ، لأن العروس محل نظر أقرانها، ولابد أن تكون أجملهن، وأحسنهن، وأحلاهن في ذاك اليوم العجيب من أيام حياتها، فهم يرسلون في رأسها بعضَ الشعر هنا، ويثنون بعضه هناك، فالذي فُتِلَ بعضه على بعض هوالمثنى، والمرسل المسرح غير المفتول، فذلك قوله:” في مثنى ومرسل”، فهذا متداخل في ذلك، وهذا يلف على هذا؛ ليسلم إلى ذاك الثالث، وهكذا، والمنظر جذاب للعين، بهيٌّ في منظره؛ لاختلاف تثنياته، وتعرجاته، تمامًا كاختلاف الحروف في (مستشزرات) التي رسمت بتشكيلتها الصوتية (رغم مخالفتها الفصاحة كما ذهب بعض البلاغيين والنقاد) أجملَ صورةٍ للشعر، وأبدع منظر للرأس، فكان هذا هو هدف، وغاية، ومرمى امرئ القيس، حيث رسم لوحة فنية لشعر ورأس محبوبته جعل منها الحوريةَ التي لا مثيل لها، الحسناء التي لا تُدانَى، فضلا عن أن تُسامَى، وهذا التحليل الذي أقدمه لتلك الشواهد القرآنية والحديثية والشعرية والنثرية هو ما تنادي به الدراسات اللغوية، واللسانية الحديثة، والدراسات النصية التي تأخذ في حسبانها كلَّ ما يمكن أخذه لتفسير ما ورد على أفضلِ تفسير، وأدقِّ تعبير، وأرقِّ مفهوم، ونواصل الحديث حول العدول النحوي، والصرفي في لقاء آخر، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
DRGAMAL2020@HOTMAIL.COM
العدول النحوي والصرفي ودورهما في بلاغة النص القرآني(2)
- خبر
-
مشاركة