Source: alwatan.com/details/436554Alwatan كتب:
د. رجب بن علي العويسي:
تعيش الوظيفة العامة اليوم تغييرات كبيرة وتحوُّلات متسارعة في فلسفة عملها ومتطلبات أدائها نتيجة تعدد النظريات التطويرية والتحسينية في المجال من جهة، والتحوُّلات الحاصلة في سلوك الموظفين وطموحاتهم وتوقعاتهم من جهة أخرى، ومشهد إعادة الهيكلة الوطنية للجهاز الإداري للدولة لتحقيق الكفاءة في الأداء الحكومي وبما يتناغم مع أولويات رؤية “عُمان 2040” من جهة ثالثة، ولكونها مجموعة الواجبات والمسؤوليات التي تحددها السلطة المختصة وتتطلب فيمن يقوم بها مؤهلات واشتراطات معيَّنة، فإن تحقّق نواتجها على الأرض ونقل هذه الاشتراطات إلى مرحلة التأثير الفعلي لها في الواقع المهني الذي يمارسه الموظف، يستدعي بناء مسار واضح في الوظيفة العامة بحيث يتجه نحو تحقيق تحوُّل في الممارسة الناتجة عنها، وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها في خدمة المواطنين، ورضا المستفيدين وتنفيذ المهام بدقة وأمانة، وهو ما لا يتأتَّى إلا عبر تعزيز مفاهيم الابتكارية والإجادة والإخلاص والمحاسبة والمساءلة والنزاهة، لغة الوظيفة القادمة، ومسار نجاحها وخطواتها نحو بلوغ غاياتها، والطريق لنقل الهاجس الوظيفي لدى الموظف باعتباره محطة تغيير تصبغ على حياته مزيدا من التميز، ليس في الظروف المعيشية والحياتية للموظف فقط، بل في القِيَم والأخلاقيات والجماليات والروح العالية التي يتصف بها الموظف أكثر من غيره؛ لأنه يعيش المسؤولية، ويتحمل نتائج التزامه وأمانته وصدقه، والثقة التي يمنحه لها المجتمع في إخلاصه.
وبالتالي أن تسهم التحوُّلات نحو تعزيز كفاءة الأداء الحكومي، وإعادة هيكلة الوظيفة العامة في بناء أطر وطنية تعمل على تجسيد روح الابتكار والإنتاجية والنزاهة في السلوك الوظيفي، وتعزيز حضوره في معايير وشروط الاختيار للوظيفة العامة، وآليات عملها وفق برامج إدارية وتنظيمية، واستراتيجيات تدريبية، ومواقف تنفيذ، ونماذج محاكاة عملية حية، وشواهد معززة لنمو الممارسة الابتكارية الخلاقة في السلوك المهني للموظف، فيؤسس لديه توجُّهات ابتكارية واختراعات قادمة تنعكس على جودة أدائه الوظيفي، إذ يتيح هذا التوجُّه للموظف فرص تقديم ابتكاره في مجال وظيفته، ليس كمشروع يتقدم به للمشاركة في جائزة مالية، بقدر ما هو هُوية وظيفية، وسلوك يظهر في تفاصيل العمل، وآليات التعامل، وحس الالتزام، وصدق المسؤولية، واحترام قواعد المهنة، وتبسيط الإجراءات، والمحافظة على السلوك الوظيفي العامة، والقدوة المهنية التي تصنع منه عنصرا مهما يجد التقدير والاحترام بالمؤسسة ليس في المنصب الوظيفي الذي يشغله، بل بما يحمله من إيجاد الوظيفة وقِيَمها ومبادئها، وأخلاق الموظف النموذج والقدوة المؤثر في محيطه الوظيفي والاجتماعي، فيبعث فيها الحياة، ويجسّد فيها مساحات التأثير والاحتواء، في محاولة تقريب الصورة العامة للمواطن أو المستفيد من الخدمة الحكومية، في القيمة المضافة التي يحققها وجود هذه المهام الوظيفية، ليضيف إليها نكهتها الجمالية، وذوقها المتفرد بما تمنحه للموظف من مساحات التجديد الفكري والشعور الإيجابي، بأنه يقوم بخدمة وطنه ومجتمعه بصدر رحب وحس مسؤول، فهو بحسن إدارته لمعطيات المهام الوظيفية التي يقوم بها، يوجه بوصلة اهتمامه نحوها، ويحسن تصرفاته بشأنها، ويحافظ على حسن أدائه، فيكون عونا لبلوغ أهدافها، ومساحة أمان تفتح له آفاقا رحبة في تقديم منجز ابتكاري نوعي، وفكرة واقعية رصينة، وتنمو لديه صورة جميلة حول الوظيفة في كونها المساحة التي يخدم فيها وطنه، والمحطة التي يجسد فيها حب عُمان، لا في كونها طريقه للكسب السريع، أو فرصته لاستغلال ظروف الواقع الوظيفي، أو أن تمنحه السلطة الوظيفية فرصة أكبر للتعدي على حقوق الناس أو الاختلاس والرشوة، والحصول على المكانة الاجتماعية، بحيث تجدد فيها روح التواضع، وتؤسس فيه قيمة الفضيلة، وزينة الأخلاق، وتبرز فيه شخصية الإنسان الخدوم لأبناء مجتمعه، وتقدير احتياجاتهم، والوقوف عند حقوقهم، في إطار من الحق والعدل والمساواة، محافظا على الوظيفة من أي انحراف، وموجِّها لها في صورتها الناصعة وفطرتها السليمة التي جاءت من أجل المجتمع.
وما يعنيه ذلك من مسؤولية قانون العمل المرتقب وغيره من القوانين والتشريعات واللوائح في استدراك هذه التحوُّلات وإعادة هندستها، وتأصيلها في القوانين واللوائح، بالشكل الذي ينعكس إيجابا على طريقة أدائها، وقناعة الموظف حولها، وطبيعة ممارستها، ونواتجها على الأداء، والفارق الذي تؤديه في الجهد المؤسسي، بحيث يستشعر المجتمع الوظيفي القيمة المترتبة على وجود هذه الوظائف والمسميات الوظيفية في المؤسسة، وأن تضمن التوجُّهات المرتبطة بإعادة هيكلة الوظائف، وإعادة إنتاج قانون العمل الجديد في إطاره الشامل المتوازن المتكامل، امتلاك منظومة الجهاز الإداري للدولة، قاعدة بيانات وطنية متكاملة تضمن قراءة فاحصة لمستقبل الوظيفة العامة، وضبط عمليات التشغيل والتوظيف بما يتناسب مع الأولويات المؤسسية، مع المحافظة على سقف التوقعات عالية في تكييفها مع طبيعة التجديد الحاصلة في مهام الإدارات والدوائر والتقسيمات الجديدة في المجالس والوزارات والهيئات الحكومية، لضمان تحقيق عوائد نوعية على مستوى الأداء، وبناء أدوات واضحة في التعامل مع الوصف الوظيفي الجديد للوظائف، وربط مسارات البرامج المهنية والتخصصية للدوائر والأقسام، بطبيعة عملها والمهام التي تعمل على تحقيقها، وتعزيز الدوافع وتقوية فرص حضور الأساليب الحوارية والتواصلية والتفاعلية المتجددة المساهمة في تحقيق فرص أكبر للاندماج والتكامل الوظيفي؛ فإن نقل التوجُّهات الوطنية الناتجة من إعادة الهيكلة العامة لمنظومة الجهاز الإداري للدولة، وهيكلة الأداء الوظيفي للموظف الحكومي التي يؤسس عليها قانون العمل مسار الوظيفة العامة، يستدعي تبني حزمة من الإجراءات التطويرية المعززة لمسار الحوكمة والابتكارية والإنتاجية وصناعة الفرص، سواء من حيث إعادة النظر في التشريعات المنظمة للوظيفة العامة وعمل الموظف الحكومي، وتدعيمها بمساحات أكبر لحضور مفاهيم الابتكار والإنتاجية والتجديد في موادها وفصولها، فيضاف إلى واجبات ومسؤوليات الموظف مواد تتعلق بالمنافسة والابتكار والكفاءة، وتعزيز وجود بيئة عمل داعمة للإنتاجية وصانعة للفرص، بحيث تؤسس في الموظف روح التغيير، وحافز العطاء، وحس الإلهام، وحدس التوقعات، وتبرز في الوظيفة مساحات التحوُّل والتجدد والمرونة في الاختصاصات، وطريقة إنجاز المهام، وتوظيف التقنية في الخدمة المؤسسية، وتوفر نظم المحاسبية والمساءلة وفق معايير واضحة، وتوفير أدوات قياس للتعرف على مستوى التقدم الحاصل في الأداء الحكومي، بالإضافة إلى حجم الصلاحيات ومنظومة الحوافز الداعمة، وقدرتها على تحريك دافع الشغف لدى الموظف في البحث والتطوير والتجديد وفق أنظمة قياس واضحة، ووصف وظيفي مقنن، ومؤشرات أداء دقيقة، ومعايير تتفاعل مع أنظمة تقييم الأداء الوظيفي للموظف، وقياس فارق التوقعات الناتجة عن الممارسة المهنية وتأثيرها على إنتاجيته.
وعليه، فإن قدرة منظومة الجهاز الإداري للدولة في ظل فلسفة إعادة الهيكلة، وقانون العمل الجديد، وإعادة هيكلة منظومة التقاعد الوطنية في قطاعاتها الثلاثة (القطاع المدني، والقطاع العسكري، والقطاع الخاص)، على توجيه هذه المعطيات لصناعة التنافسية والكفاءة والإنتاجية في الوظيفة العامة، يستدعي التعامل الواعي مع المستجدات القادمة في بناء الموارد البشرية الوطنية، والاستباقية في بناء استراتيجيات عمل تستوعب احتياجات المجتمع الوظيفي وطموحاته وأولوياته، الأمر الذي يمنع كل مسببات الهدر الوظيفي، وتنازع الاختصاصات، والترهل أو التكدس غير المبرر في بعض الوظائف، مما يعني أن على منظومة الجهاز الإداري للدولة أن تمتلك الأدوات والآليات والنماذج التطبيقية في التعامل في استراتيجيات الاستيعاب القادمة، والإعلان عن معايير المنافسة على وظائف الوحدات الحكومية كشرط أساسي لاختيار الكفاءات والاحتفاظ بها، وعبر قراءة دقيقة لحالة الوحدات الحكومية واستقراء منظومة العمليات الداخلية فيها، وتقييم مهامها، وتشخيص آليات عملها، والوقوف على محطات القوة والضعف في أدائها، وعلاقة ذلك بمنظومة المتابعة والرقابة على تفاصيل الأداء الحكومي، بما يضع منظومة الجهاز الإداري للدولة أمام مرحلة جديدة من العمل المتقن، والأداء المنظم، والاختصاص المبتكر، واعتماد منظومة مراقبة فعالة قادرة على تشخيص الواقع، واحتواء معطياته، والرصد الفوري لأي تجاوزات قد تضر بالأداء أو تعطل مساره، في إطار تطبيق معايير الحوكمة والعدالة والمنافسة والنزاهة وتكافؤ الفرص.
أخيرا، تبقى عملية الإسراع في تنفيذ التوجيهات السامية التي أشار إليها الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في خطاب عُمان المستقبل، بشأن إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة والخطوات الإجرائية الأخرى التي تضمن لعملية الهيكلة الكفاءة والإنتاجية، مرهونة بما تحظى به الوظيفة العامة في شكلها الحالي من فرص المراجعة والتوصيف، والوصف والتأطير المنهجي لها، وقابلية الممارسة الوظيفية اليومية للموظف للقياس والرصد والتحليل وإعطاء قيمة واضحة لها تحدد الإجادة في أداء الموظف الحكومي، ووضعها موضع المتابعة والتشخيص والتحليل والرصد، وإعادة هيكلتها بما يتناسب وأولويات رؤية “عُمان 2040″، ويتجاوب مع توجُّهات الحكومة لتعزيز دور الوظيفة العامة في تعزيز كفاءة الأداء الحكومي، وتحقيق التنويع الاقتصادي وصناعة الفرص في المجتمع الوظيفي القادم الذي يتجه إلى تبنِّي وزارة العمل لسياسات أكثر إجرائية تقوم على تبنِّي نظام جديد لقياس الأداء الفردي في وحدات الجهاز الإداري للدولة من خلال ربط إنتاجية الموظف الحكومي بالحوافز والترقيات، هذا الأمر يأخذ في الاعتبار حجم التغيير الذي يطول طبيعة المهام والاختصاصات، والتعامل مع التجاوزات الحاصلة في آلية تطبيق القوانين والقرارات الإدارية الداخلية، وصلاحية رؤساء الوحدات الحكومية، وحدود الصلاحيات للمستويات الإدارية الأخرى بالمؤسسات، بحيث تستدرك عملية التطوير لقانون العمل هذه الإشكاليات وتعالجها في إطار واضح يقوم على الدقة والمصداقية ووضوح الأوامر القانونية بها.
في العمق: الوظيفة العامة في مشهد إعادة الهيكلة الوطنية
- خبر
-
مشاركة