في العمق: بيــــوت من ورق

    • خبر
    • في العمق: بيــــوت من ورق

      Alwatan كتب:

      د. رجب بن علي العويسي :
      يعيش واقعنا الأسري حالة من الرجعية والسطحية والشكليات، في غياب سافر للمفاهيم الإيمانية التي أسست لبناء الأسرة، وانتزاع مريب لكل المعايير القويمة في الحفاظ على كيانها ونسيجها الاجتماعي، ونفوق للكثير من المبادئ والمرتكزات والقناعات والاعتقادات التي كانت تضيف للحياة الأسرية نكهات الجمال والذوق والرقي، كما تضيف لها مساحات القوة والتكافل والتعاون والتضامن وصحوة الضمير وإخلاص الواجب، في ظل أحداث كبيرة ومواقف معقدة، وسلوكيات متناقضة، فما بين خصام ونزاع، وقذف وسب وشتم، وعقوق والدين وقطيعة رحم، وصراع على الميراث واقتتال داخلي على التركات، نزاع بين زوجات الأخوة لا يهدأ، وتحريض بين أبناء الأعمام والعمات والأخوال والخالات لا ينتهي، وانتشار واسع للطلاق، والخلع، واتجاه الكثير من النساء إلى المحاكم لطلب النفقة، أو الشكاوى المتكررة الحاصلة بين أبناء البيت الواحد من وقوع ضرر أو تهديد أو إيذاء واستفزاز وتحريض وإساءة معاملة، أو خدش حياة، أو اعتداء، لتنعدم روح المودة، وتضيع مساحات الانتظار، ويعيش كل فرد رأيه وقراره وحريته التي يريد، اختلافات أسرية بين الزوجين لأبسط الأسباب وأتفه المواقف، وظواهر طلاق تضع عليها علامات استفهام كبرى، فبعد أكثر من ربع قرن في حياة آمنة مطمئنة يقرر الزوجان الانفصال، لتبدأ سيناريوهات مرحلة جديدة مليئة بالعقبات والمطبات، ضحيتها أبناء وأحفاد يعيشون بين المطرقة والسندان، في الوقت الذي يبحثون فيه عن مأوى آمن، وسكن أمين، ورحمة تظلهم، وحب يحتويهم، وانتماء يضمهم، وقد يبقى الزوجان على رباط زواجهما اسمًا لا معنى، يفتقر لكل جمالياته السابقة واحتوائه، وروحه المتجددة الذي نسج من حبهما الآمال العريضة وحقق الأمنيات الكبيرة في أولاد وأحفاد، ليصبح الحال في أصعبه والوضع في أشده، بما يفتحه للشيطان من فرجة في الوسوسة لها بالإبقاء كل على رأيه وعدم التنازل من أجل عودة الحياة الأسرية إلى طبيعتها. أحداث أسرية باتت تشعل شرارا مستطيرا لا نهاية له، ليجد الأبناء أنفسهم أنهم غارقون في بحر من المشكلات، وقائمة طويلة من المطالبات التي باتت تقف عائقا أمام أي سلام أسري قادم أو صلح يعيد الأمر إلى نصابه ويضع كل واحد منهم أمام مسؤوليته.
      لم يعد هناك من رباط حقيقي يجمع الأسرة كما بدأ، وكل ما في الأمر أن الحياة الأسرية قد دخلتها تشوهات فكرية ونفسية وقناعات متغايرة أثرت على نسيجها الداخلي وبنائها الأصيل، فلم تعد تقوى على الوقوف، ولم يعد حضورها بذات القوة، لتظل ما فيها من أحداث ونزاعات قائمة على الأنانية والذاتية والفردانية والسلطوية التي أذهبت فيض الحياة ونبلها وجمالياتها وعنوانها وشموخها، وتجددها في ظلال الحب والرحمة والمودة والشراكة والسكن وتقاسم المسؤوليات، ولم يعد لهذه الممكنات حضورها في حياة كثير من الأسر التي تعاني اليوم نتائج شططها، وتسرع قرارها، فلم يعد يربط بينهم رباط الإنسانية الراقية عدا أنهم ينتسبون لهذا الرجل، أو أنهم أبناء تلك الأم، بما تفصح عنه الوثائق المكتوبة، من شهادة ميلاد، أو عقد زواج شرعي، أو جواز سفر، أو هُوية مدنية، أوراق ستظل أدراج الخزانات المنزلية أو المحافظ الشخصية لا تضيف للحياة قيمتها الحقيقية، عندما تفتقر لحس الشعور ونبض الأمل وصدق الاعتراف، وفضيلة الحب والرحمة والحنان والوئام.
      كما لم تعد الأوضاع الأسرية الداخلية اليوم من القوة والقيادة والريادة والألفة والمحبة والتعاون والتكافل ما كانت تعيشه في فترات سابقة، فهي تعيش أوضاعا صعبة، وظروفا قاسية، وصراعات لا تهدأ، ونزاعات لا تقف عند حد معيَّن، بسبب غربة التواصل بين مكوناتها، وضعف ثقافة الحوار بين عناصرها، وهشاشة رابط المودة والرحمة الفطري الذي ينسج خيوط الأمان بين أبنائها، ودون الدخول في تفاصيل الواقع الأسري المريبة، وأحداثه المفجعة، وممارساته المشوهة لكل الأعراف والمبادئ. ولسنا هنا في حصرها أو في تفصيلات أكثر عنها، فهي أكثر من سردها في مقال، أو الإفصاح عنها في بيان، والحديث عن الواقع الأسري اليوم ليس ضربا من الخيال، أو سردا من الذاكرة، بل واقع تعيشه الكثير من الأسر في مجتمعنا، في اختلالات فكرية، وقناعات متصلبة، وسلوكيات مزدوجة، وحالات بدأت تظهر مزيجا من الغرابة والشعور بأنها خارج مألوف الطباع، وتجاوزت حدود الاحترام والسنع الاجتماعي، فإن البحث في عمق الواقع الأسري يفصح عن انتهاكات داخلية في حق الأسرة، وصدمات تواجه بقاءها، وتعثرات تعيش مخاضها، وانزلاقات تهوي بها في قعر سحيق، وعبر تصرفات عناصرها المبتذلة وسلوكياتهم المستهجنة التي تفتقر في أكثر أحوالها للاحترام والذوق والتقدير والاعتراف، وتنسلخ في ظل تسرعها، وضيق الصدر بشأنها، وكثرة الشكوى والإحباط والسلبية من حس المسؤولية والواجب، لتقرأ الحياة في وضعا آخر أكثر انتهازية وسلبية، وممارسات كارثية بحجة القوامة والرجولة التي بات يمارسها بعض الأزواج على زوجاتهم، أو الأبناء على أمهاتهم، أو الإخوة على أخواتهم وغيرها كثير، قضت على كل مساحات التفاؤل في الحياة، وأضاعت أمام مستقبل الأجيال كل فرص الإنجاز والرغبة في بناء حياة زوجية مستقرة آمنة بلا منغصات، وفي الحقيقة لم تعد الحياة في واقعها إلا تراكمات سلبية وأفكارا أحادية، ونظرات مصلحية ضيقة، باتت في مجملها تراكمات تدق ناقوس الخطر، تنذر بضياع كيان الأسرة، وتفتيت قواعد الترابط والتكامل في المجتمع، وتختزل روح القِيَم والمبادئ والأخلاقيات والعهود والمواثيق التي تأسس عليها رباط الأسرة واكتمل بها مشروع الزواج كأهم مشروع حضاري للإنسان، في واقع تساقطت فيه كل معايير الشرف والنخوة، والصدق والأمانة، والمودة والرحمة، والإنسانية في سلامها الداخلي وبنائها الإيماني المتين، ولم تعد تلك العلاقات الحاصلة سوى مجاملات تخفي الكثير من الحقائق التي تظهر في وقت الظروف، وتبرز أنيابها عند الأزمات الأسرية، وتعكس هشاشتها وخيبتها في وقت الاختبار، وحرص الأهل والأقرباء وأهل الحكمة والرأي والمشورة في تقريب وجهات النظر، أو أتيحت لأحدهم فرص الحديث عن الموقف أمام القضاء، أو أمام محامٍ، أو أمام عدالة المحكمة، أو في أي موقع آخر لسرد القضية والتعريف بها، ليصب أحدهم جام غضبه، وليخرج عن طوره، ويتحدث بما تعافه الألسن، وتقشعر منه الأبدان، ويضيع فيه ماء الوجه، ويموت فيه الحياء، ليأتي الرد حاملا معه كل وسائل التشفي والانتقام، متعاليًا على فضيلة الستر والعفاف، والمحافظة على ماء الوجه ومراعاة المشاعر، وصون الحياة الأسرية من أن تدنسها ألسنة البعض، أو تتناقل أخبارها حكايات المجتمع.
      ولعل الوقوف على واقع القضايا المدنية والأسرية والشخصية المرفوعة أمام المحاكم بشتى أنواعها ومستوياتها، والقضايا التي باتت تتعامل معها شرطة عمان السلطانية، والادعاء العام، ودوائر الكاتب بالعدل ولجان التوفيق والمصالحة، لنعرف إلى أي مدى تحولت العلاقات الأسرية إلى كومة من المواد المتفجرة، وكيف أسهمت حالة الضيق وسرعة والكدر وسرعة إصدار الأحكام وعدم تقبل النقد والرأي الآخر أو الانتظار لسماعه في اتساع هذه التراكمات الأسرية التي بات يعيش خلالها الفرد عالمه الخاص، ليضيق صدره ولا يتحمل أي سقطة أو زلة، ليعيث فسادا وإفسادا، ولعنا وسخطا، وسبا وشتما، وقطعا للرحم، وإنكارا وجحودا وتنازلا عن كل المشتركات والفرص التي جمعته مع أقرب الناس إليه أمه وأبيه أو زوجه أو إخوته وأخواته، انتصارا للذات الدنيئة، وحمقا وسفها في التصرف، وسوء ظن وعدم ثقة فيمن تشارك معه العيش والملح، والسكن والأنس، والمأكل والمشرب، ولم تعد هذه البيوت قادرة على الصمود والمواجهة والوقوف في وجه كل المنغصات التي سلبت الحياة الأسرية مكانتها وموقعها، حتى أصبحت في ضعفها أوهن من بيت العنكبوت ـ والعياذ بالله ـ لسهولة تعرضها للتمزق والعبث وتطايرها مع الرياح العاتية، لتذبل أمام أبسط سطوع للحقيقة، وتحترق من أول شراره، لتسهم هذه الأحداث في سقوط كل المعايير والأخلاقيات والقِيَم والمبادئ الحاكمة، وتبرز في سطح العلاقات الأسرية حالة مزاجية أخرى، يقوم التواصل فيها على المصلحة، أو استذكارها عند وقوع مصيبة أو حدوث حالة حزن وفقد أحد أركان الأسرة، لتؤصل في النفس سلوك الأنا والذاتية، وتنمو أمراض الكراهية والحقد والحسد والعداوات والبغضاء وتقطيع أواصر العلاقة بين الإخوة والأخوات، والأبناء والأزواج، وتفقد العلاقات الأسرية مسار الثقة والاحترام والتقدير والبر والإحسان في استخفاف بكل المبادئ الأصيلة، وانكفاء على النفس وسلطتها الدنيئة.
      أحداث أسرية تخبرنا بأن المساكن الضخمة، والعمارات الشاهقة، والسيارات الفارهة، والقصور والشاليهات، ورحلات السفر والسياحة وما يحصل فيها من أشكال الحميمية وصور الحب بين الزوجين في المنصات التواصلية، ما هو سوى مسرحيات شكلية، ومجاملات على حساب الجوهر، وفرجة للتصوير فقط، وإلا فإن البيوت من ورق، تتهاوى من أول وهلة، وتسقط من أول انكسار، وترسب في أول اختبار، وتضيع الأبهة المحاطة بها من أول تقييم، إذ واقعنا الأسري أصعب وأعقد بكثير من الحالة الاقتصادية في دفع فواتير الماء والكهرباء والوقود، إنها فاتورة الأسرة وما يعيشه النسيج الأسري من اختلالات في موازين الأداء، وضعف في قوة الاحتواء، وتهالك في بنيان الانتماء، واختلاسات مستمرة للحقوق النفسية، وحق الحياة، وحق الاحتواء، وحق الاستماع، وحق القرار، وحق التعبير عن الذات، وحق الشعور بالأمان النفسي، وحق الشعور بجماليات الحياة.
      وخلاصة القول إلى متى سنُخفي حقيقة ما يجري في واقعنا الأسري من مظالم وانتهاكات، لتخرج عن السيطرة وتنذر بعواقب وخيمة واتجاهات سلبية، وممارسات قد تتجه إلى الانتحار أو القتل أو الثأر إلى غير ذلك مما يحصل بين فترة وأخرى، ويغض المجتمع عن معرفة أسبابه أو الوقوف على منابته؟ وهل من توجُّهات ليعيد قانون الأسرة والأحوال الشخصية قراءة ما بداخل البيوت من جديد ليبني عليها رؤية عمله وتشريعاته القادمة وتعامل المحاكم والقضاء مع تفاصيلها الدقيقة، حفاظا على النسيج الأسري والاجتماعي، وصونا له من العبث وعوامل التعرية؟

      Source: alwatan.com/details/437383