Source: alwatan.com/details/439231Alwatan كتب:
د. رجب بن علي العويسي:
فرضت الحالة الاقتصادية اليوم الكثير من التحديات على حياة المواطن وظروفه المعيشية، وأسهمت تداعيات الإجراءات الاقتصادية المرتبطة برفع الدعم عن الوقود والماء والكهرباء، وضريبة القيمة المضافة، وزيادة رسوم الخدمات البلدية والإسكانية والشرطية والأنشطة التجارية والصناعية والخدمية، ورسوم استقدم الأيدي العاملة الوافدة في الأنشطة الزراعية والمنزلية وغيرها، في إضافة عبء أكبر على حياة المواطن المعيشية، وقدرته على التعاطي مع هذه الظروف والتكيف مع هذه الأوضاع، خصوصا في ظل ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين من القطاع الخاص، لتضيف حالة غلاء الأسعار التي بدأ تأثيرها الواسع بعد تراجع جائحة كورونا (كوفيد19)، خصوصا ما يتعلق منها بالسلع التموينية، والمواد الغذائية والخدمات الاستهلاكية وأسعار مواد البناء وغيرها، إلى الأزمة الاقتصادية أوجاعا أخرى، وظروفا أشد تأثيرا، وأعمق أثرا، لتضع المواطن أمام واقع في غاية التعقيد، وموقف لا يحسد عليه، بما يترتب عليها من تراكمات فكرية ونفسية، وما يسببه من إرهاق للأسرة، واضطراب في التفكير الجمعي، واختلالات في الميزان النفسي للفرد، وارتفاع درجة القلق والخوف من المستقبل، والشعور بحالة من الضيق والتفكير السلبي وشرود الذهن، وحالة من الحيرة والمزاجية التي باتت تسيطر على حياة الناس، وانتشار بعض الظواهر السلبية بين أبناء المجتمع كحالة التسوُّل أمام المساجد والمراكز التجارية، أو رصد بعض هذه الحالات عبر المقاطع المؤثرة التي يتم ترويجها في الواتس أب والمنصات الاجتماعية، والتي تعكس صورة أخرى للمجتمع العماني غير المتعارف عليها، وترصد الظروف والمعاناة التي بات يعيشها في واقعه، والتي أصبحت تعطي مؤشرات سلبية على مسار السلام الداخلي للفرد وجودة الحياة.
وعلى الرغم من أن مسألة غلاء الأسعار وارتفاعها لم تعد اليوم مرتبطة بمجتمع دون آخر، كما أنها لم تكن حالة وقتية مرتبطة بالسلعة الاستهلاكية أو المنتجات فحسب، بل تجاوزه لكل الأنشطة والخدمات الأخرى التي تأثرت بهذا الارتفاع في الأسعار، ومع ذلك فإن وجودها اليوم في واقعنا الاجتماعي الوطني يشكل تحديا كبيرا، في ظل ما ارتبط بمسألة غلاء الأسعار من ظروف اقتصادية أخرى أشرنا إلى بعضها، في مجتمع غير صناعي، واقتصاد ريعي يعتمد فيه القطاع الخاص على دعم الحكومة وانتظار المشاريع والخدمات التي تسندها إليه الحكومة، واتساع تأثير غلاء الأسعار قد يؤسس لفجوة مجتمعية كبيرة في ظل محدودية الملاءة المالية لدى أكثر فئات المجتمع، ومستوى دخل المواطن العماني، ومن جهة فإن زيادة مستوى التضخم في المجتمع له تبعاته الأخرى من حيث استدامة القوة الشرائية والتي تحددها السيولة المالية لديهم، ومستوى المرونة الاقتصادية التي يعيشها المجتمع، والتكاليف الاجتماعية المرتبطة بالسكن، في مجتمع ما زال يعتمد على المقارنات طريقه للإنفاق وتحديد حجم الاستهلاك اليومي للأسرة العمانية، لذلك كانت الحاجة إلى مراجعات تقرأ هذا الموضوع من زوايا مختلفة، وبرامج متعددة، ومبادرات متنوعة، في تشخيص دقيق للحالة المعيشية للمواطن، وقراءة معمقة لتداعيات مسار التضخم وتأثيره وكيفية الاستفادة منه، وكيف يتعاطى المواطن معه، وما الفرص التي يقدمها للمواطن في سبيل إعادة تقييم الثقافة الشرائية لديه، والمسار الاستهلاكي الذي يلتزمه في ظل ارتباطه بالأولويات والضرورات المعيشية، وعبر مسارات تقنين واضحة يستشعر فيها المواطن مسؤولياته في تحقيق معادلة التوازن، فيحافظ على استمرارية موارده، وحضور السيولة المالية لديه، وتغيير قناعاته حول المسار الضبطي للعادات الاستهلاكية التي يمارسها بما لا يفقد المجتمع خصوصيته، أو موقعه كفرد وأسره في السلم الاجتماعي، في إطار تبني منطلقات أوسع للتكافل الاجتماعي والترابط العائلي وتوزيع المهام الأسرية.
وعليه، فإن تأثير غلاء الأسعار على حياة المواطن النفسية والفكرية ينعكس على المكون الشخصي ذاته وتوجهاته وأفكاره وقناعاته واستشرافه للمستقبل، والنسق الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد بكل تفاصيله، وتصبح العلاقة القائمة بين ارتفاع الأسعار والأبعاد الفكرية والنفسية الناتجة عنها، جسرا ممتدا يعمل على إرباك المواطن، وتغيير أولوياته، وخلق الفجوة في أدائه، وتشتيت أفكاره، وتذبذب معلوماته، وبالتالي قناعاته حول ما تتخذه الحكومة من إجراءات، أو تقره من توجُّهات، لتضع المواطن أمام حالة من الشرود الذهني، والتفكير السلبي الذي يتجه به إلى المنصَّات التواصلية ليعبِّر فيها عن كل ما يجول بخاطره، ويجيش في ذاته، عن همومه وأحزانه، ويصف ما يحصل له من مواقف وأحداث حتى مع أخص خصوصيتها، فهو يجد في هذه المنصَّات صوت الكلمة المؤثر في الآخرين، واستثارة دوافهم، وحصوله على التأييد منهم، وتفاعلهم مع ما يطرحه من حالة إنسانية تستحق الرعاية والمتابعة، فإن ما يمكن أن تسهم به الحالة الاقتصادية للمواطن من التزامات وديون، ومسؤوليات مالية والتزامات أسرية وغيرها من تعكر في المزاج، وارتفاع هاجس الهمِّ والحزن والكدر وضيق الحال، والنزوع إلى الأفكار السلبية التي يقرأ فيها الإنجاز في صورة مشوّهة وقناعات ذاتية، وأن ما يصدر من تشريعات وقوانين وغيرها تضع في أولوياتها فرض رسوم مالية بمسميات مختلفة، الأمر الذي يعبِّر عن حالة من الاستياء وعدم الرغبة، والشعور بالتهميش وعدم الإنصاف، أو عدم الاستماع إليه في مطالباته بخفض الأسعار، ومراجعة سياسات البنوك الاستفزازية، وإرجاع الدعم للماء والكهرباء والوقود، أو تحديد سقف واضح لسعر الوقود، على أن ما يحدث اليوم من الشباب الباحث عن عمل والمسرحين من أعمالهم أو غيرهم عبر المنصَّات الاجتماعية، واتجاه البعض نحو الشهرة، يعبِّر عن حالة الإخفاق التي يعيشها المواطن في احتواء المؤسسات الفكري والنفسي له، والمحافظة على توجيه هذا المسار نحو صناعة جديدة للواقع، كما أن حالة التنمر الفكري، والتأزم المعرفي ومصادرة الفكر، وضيق الصدر عند الاختلاف في الرأي والنقد وتعددية الآراء، وكثرة إصدار الأحكام الأحادية المتسرعة، والتراشق الكلامي، كل ذلك وغيره بات نتاجا للحالة الاقتصادية بكل تفاصيلها، والتي أسست لحالة من انعدام الاستقرار الفكري، والحيرة التي باتت تقضي على كل الآمال والأفكار الإيجابية للمجتمع، ومحاولة توظيف طاقات الشباب في بناء مشروعه الحضاري لمواجهة غلاء الأسعار وتعقد ظروف المعيشة.
من هنا، نعتقد بأنه حان الوقت لتقييم تداعيات هذ الواقع والاعتراف بحالة القصور الحاصلة في قدرة القطاعات على بلوغ هدف المحافظة على الاستقرار المعيشي للمواطن العماني، ووضعه أولوية في أجندة عملها، وتقييم حجم التأثير النفسي والفكري والأدائي للممارسات الاقتصادية غير المتكافئة، والقرارات الأحادية التي باتت تتجه إلى وضع المواطن أمام سياسات لم يألفها، وتوجُّهات لم يهيأ لها، في ظل ضعف البدائل المتاحة، والفرص المتنوعة التي تتيح للمواطن مساحة أكبر للتفكير في الخروج من أزماته، وتبني مبادرات ومشروعات اقتصادية قادرة على تحقيق أحلامه، بدلا من أن يصب جام غضبه على سياسات الحكومة، وانتقاده لحالة الهروب من المسؤوليات التي تمارسها بعض مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وبالتالي أن تستوعب منظومة القوانين والتشريعات كل الظروف والمتغيرات التي تحيط بالمواطن، وتأثيرها على جودة الحياة، وعبر عمليات تشخيص واضحة، تضع اليد على الجرح، وتحدد مفاصل المشكلة وآليات التعامل الجاد معها، وتفعيل لكل الممكنات والأطر الوطنية وخطوط التأثير، لبناء مسار الثقة، وحس الشعور الإيجابي الذي يضمن باكتماله حالة استقرار نفسي وارتياح فكري تنعكس على قدرة المواطن على أداء مهامه الوظيفية، وقيامه بواجباته الأسرية والاجتماعية، وتعاطيه مع أولويات العمل الوطني، واستجابته لنداء الحكومة في مواجهة كورونا (كوفيد19) والإجراءات الاقتصادية المتخذة، بروح ملؤها التفاؤل والثقة.
أخيرا، فمع دوام طلبة المدارس والجامعات، وما يتطلبه من شراء الأسر للمستلزمات المدرسية والتعليمية، وارتفاع أسعارها مقارنة بالسنوات الماضية، وحالة الجشع التي تمارسها بعض المراكز التسوق والمكتبات، في هذا الشأن مبررة ذلك بجائحة كورونا (كوفيد19) وتطبيق القيمة المضافة، وارتفاع أسعار خدمات النقل، وزيادة أسعار بعض السلع في بلدها الأم، والضرائب والرسوم المفروضة في هذا الجانب، وغيرها من المبررات، يضاف إليها التشوهات الحاصلة في السوق الناتجة عن مزاجية الاحتكار، وضعف سلطة القرار المؤسسي الرسمي في التعامل مع مسألة تحديد أسعار هذه السلع، وازدياد حالة التضخم، وفي ظل الإجراءات الاقتصادية التي اتجهت إليها الحكومة في سد نوافذ الأمل برفع مستوى الأجور المقدمة للعاملين في القطاع الخاص أو زيادة الرواتب والترقيات وعودة المكافآت والعلاوات، يبقى الاتجاه نحو تبنِّي سياسات وطنية تعمل على مراقبة الأسعار ومزيد من الضبطية والجزاءات الفعلية والعقوبات في التعاطي مع التجاوزات الحاصلة في هذا الشأن، وتفعيل التشريعات الوطنية المتجهة نحو منع الاحتكار، ومع ذلك تظل هذه الموجِّهات وقتية التأثير وبحاجة إلى ممكنات أكثر استدامة وقوة في تبنِّي سياسات اقتصادية أكثر توازنا، وعبر تعزيز دور أكبر للجمعيات التعاونية المتكاملة التي أشرنا إليها في مقال سابق، بهدف مساعدة المواطنين من أسر الضمان الاجتماعي والدخل المحدود وغيرهم، والسماح لمراكز التسوق العامة بالاستيراد المباشر مع تعزيز أطر المراقبة عليها، لضمان كسر الاحتكار والتغلب عليه، وتعزيز دور هيئة حماية المستهلك الرقابي والضبطي في تبنِّي سياسات رقابية كفؤة للحدِّ من تأثير العوامل الداخلية المتسببة في ارتفاع الأسعار، هذا الأمر يؤكد أيضا الحاجة إلى مراجعة لتأثير رفع الدعم على السلع الأساسية والاستهلاكية كالمواد الغذائية والمستلزمات الطبية وغيرها، وتبنِّي سياسات مشتركة مع دول المنطقة في الاستيراد المشترك لبعض السلع الاستهلاكية، وفق القوانين والأنظمة المقررة بين دول مجلس التعاون؛ لما لهذه الإجراءات من أهمية في التحكم في ارتفاع الأسعار والتخفيف من أثره على حياة المواطنين، بالشكل الذي يضمن حالة من الاستقرار في الأسعار الذي ينعكس إيجابا على الاستقرار الاجتماعي والنفسي والفكري للمواطن.
في العمق: غلاء الأسعار وتراكماتها في سلة المواطن الفارغة
- خبر
-
مشاركة