د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتربوية في مجلس الدولة
مع تعرض السلطنة للحالة الاستثنائية المدارية ” شاهين” والتي تم تصنيفها كإعصار من الدرجة الأولى، والجهود الوطنية في التعاطي مع معطيات هذه الحالة، والجهود النوعية المقدمة من اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة والأجهزة العاملة ضمنها، واللجان الفرعية لإدارة الحالات الطارئة بالمحافظات، والمركز الوطني لإدارة الحالات الطارئة، ودور المركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة في تتبع الحالة المدارية والتنبهات والتحذيرات التي أصدرها في مختلف مراحل الحالة، وعززت من اليات عمل الجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة في تبني الخطط والاستراتيجيات والسيناريوهات الكفيلة بإدارة هذه الحالة والتعامل مع متطلباتها، ورغم ما حمله إعصار شاهين من فرص سقيا الخير، ونزول الأمطار وامتلاء السدود وكمية الامطار التاريخية والفيضانات غير المتوقعة التي رصدتها أجهزة الرصد الوطنية، إلا أنها كعادتها الأعاصير تحمل جوانب مظلمة وأحداث مرهقه، بما لا يخفى على أحد في حجم الأضرار المادية الكبيرة التي تنتج عنها، وما تلحقه بالبني الأساسية وشبكات الطرق والكهرباء والمياه والاتصالات ، وحياة المواطنين والمقيمين وممتلكاتهم ومساكنهم من اضرار ونكبات ومآس وتحديات وكوارث ومنغصات .
على أن الخبرة التي امتلكها العمانيون في إدارة الحالات الطارئة ، وما أكسبته إياهم الحالات المدارية المتعاقبة من روح التغيير وحس المسؤولية، واللحمة المجتمعية والترابط والتكامل، ومزيد من التفاعل مع الجهود الوطنية ، جعل من هذه الحالات محطة تأمل في قراءة الوطن في ثوب جديد ، وروح متجددة، في الولاء والانتماء والتضحية والفداء، وأثبتت هذه الحالات المدارية التي تعرضت لها السلطانة في فترات متعاقبة قوة هذا الوطن، وتماسك أبنائه، ولحمتهم الوطنية، ووحدتهم المجتمعية، وترابطهم الاجتماعي، وتكاملهم في مواجهة هذه الحالات، والتعاطي مع تأثيراتها، وقد ظهر ذلك جليا في تلك الصور المشرقة للهوية العمانية واخلاقيات الانسان العماني، المجسدة للروح الاجتماعية النبيلة التي يؤمن بها أبناء هذا الوطن، وتعكس دينه وقيمه وأخلاقياته، وروح الاخوة، ووحدة الصف، والأمانة التأريخية والمسؤولية الأخلاقية التي تحتم على الجميع أن يكون النموذج والقدوة في العمل الجاد في مواجهة الحالات الطارئة والتعامل مع معطياتها، مستشعرين عظمة الموقف، وأهمية الاحتكام إلى منطق العقل والتفكير، واستقراء الاحداث والظروف والمتغيرات التي تعمل فيها هذه الحالات، وتستدعي حضورها في فقه الإنسان وسلوكه العام، ليشارك مؤسسات الدولة وقطاعاها المختلفة فقه التعامل مع الحالات المدارية، وفهم نتائج الالتزام والتقيد بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية المقرة من اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة، والمتابعة بالتنفيذ من المركز الوطني لإدارة الحالات الطارئة، مما أتاح ذلك للمجتمع تلقي هذه الحالة المدارية الطارئة بمزيد من الوعي والبصيرة، والهدوء والانتظار، والتريث واتباع التعليمات الصادرة من الجهات الرسمية ، لضمان الحد من المخاطر الناتج عنها سواء في الممتلكات أو الأفراد ، وبالتالي صور التلاحم والتعاون والتكامل والتآزر التي برزت بين أبناء هذا الوطن في تقديم يد العون والمساعدة للمتضررين من هذه الانواء، أو عبر تقديم المؤن والمساعدات والمستلزمات الغذائية والطبية لأماكن الايواء بالتنسيق مع اللجان الفرعية لإدارة الحالات الطارئة بالمحافظات.
وأفصحت هذه الجهود عن موقع الإنسان في فلسفة البناء الوطني، وحضوره المستمر في أولويات جلالة السلطان المعظم ، وأبجديات العمل الحكومي، وحصوله على الاستحقاقات الوطنية التي أكدها النظام الأساسي للدولة والتشريعات والقوانين الأخرى ذات العلاقة ، وهو الأمر الذي جسدته الجهود الوطنية في إدارة الحالات الطارئة في العمليات اللوجستية وعمليات الإسعاف والإنقاذ والإغاثة والايواء، والعمليات الاستباقية التي تقوم بها في سبيل إجلاء المواطنين والمقيمين وإخلائهم من المواقع المنخفضة والمتوقع تضررها بالحالة المدارية إلى أماكن الايواء الامنة، والرعاية والحماية المقدمة لهم، لتعطي مؤشرات لهذه الروح الإيجابية التي تحملها هذه المواقف في سبيل أمن هذا الانسان وأمانه، باعتباره خطا لا يجوز المساس به، لذلك جندت كل الخطوط الوطنية من أجل حمايته وخدمته، لتقترب من المواطن وتلامس حس الشعور لديه، وتؤصل معالم الإرادة والمهنية، والحس القانوني والحقوقي والتشريعي لديه، وتعلي من شأن المبادئ والقيم الدينية والوطنية والانسانية التي تدعو إلى المحافظة على النفس وتمنع القاءها في التهلكة ، لتصنع من هذه الموجهات خيوط ممتدة تربط المواطن والمقيم بالقرار الوطني وتؤسس فيه روح الطاعة والانقياد واتباع التعليمات والتقيد بالإجراءات والالتزام بما تنصح به الجهات المختصة في التعامل مع مختلف الظروف والمواقف المتوقعة، بما يحفظ مساحات الود والأمان باقية مع مؤسسات الدولة، ولتضع المواطن والمقيم أمام مشهد واقعي، جدير باهتمامه ومتابعته ووضعه في أولوية أولوياته، بما ينعكس إيجابا على كل خطوات العمل القادمة والسيناريوهات المتخذة والخطط البديلة والتعليمات الصادرة من جهات الاختصاص، الأمر الذي سينعكس إيجابا على الجاهزية الوطنية وكفاءة الاستعدادات التي تقدمها شرطة عمان السلطانية وقوات السلطان المسلحة والأجهزة الأمنية والعسكرية والمدنية الأخرى لتعمل جنبا إلى جنب في سبيل بناء جدار القوة، وسياج الامل في مواجهة هذه الحالات والخروج بأقل الأضرار والخسائر منها.
أخيرا لن يكسر إعصار شاهين سواعد البناء الوطنية، ولن يؤثر على اللحمة الاجتماعية ووحدة المصير المشترك لأبناء عمان المخلصين، بل ستقوى فيهم فرص العمل والإنجاز – بعد أن هدأت العاصفة- وتنشط فيهم جهود الإغاثة بعد أن سكنت الريح، وارتفعت الأمطار، لتبدأ مرحلة جديدة من العمل الوطني لم تكن أقل من سابقتها، أو أسهل منها، بل أشدها قوة، وأكثرها جهدا وصعوبة، مرحلة تستدعي المزيد من التكاتف والتعاون وانصهار كل الاختلافات والاهتمامات والمفارقات والأنانيات لتصب جميعها في سلة الوطن، لتتجه بوصلة العمل إلى التفكير في كيفية العمل معا نحو إعادة الاشراقة والبهاء لكل المدن والولايات التي تعرضت لإعصار شاهين أو لامسها جداره، ووصلت إليها تأثيراته ، لتعود مسقط والمصنعة والسويق والخابورة وصحم وصحار وغيرها من المدن والولايات المتضررة من الاعصار إلى سابق جمالها وبهائها وشموخها، لنمحي عنها ظلام الليل الذي أسدل ستاره على نورها ، والتشويهات والاحزان التي حاولت أن تمحي بعض مآثر العطاء المتجددة من أرضها، ومع أنها الاقدار التي علينا الايمان بها والتسليم فيها بخالق الكون ومدبر الحياة، واستشعار حكمة الله فيها، فهي اليوم أمام أعيننا، لتبقى مسؤولياتنا جميعا في أن نشمر عن ساعد الجد ، ونعمل بدون كلل أو ملل، ونسرع من خطى الإنجاز، والعمل بشكل اكبر وأفضل واسرع في عودة الأمور إلى نصابها، وعودة الخدمات ألأساسية، الكهرباء والمياه والطرق والاتصالات وغيرها في اسرع وقت ممكن ، إنها محطات لاختبار الحس الوطني والروح الإيجابية والهوية العمانية التي ظلت دوما رابطة الوطن الكبير، وخيوط اتصال ممدودة لأبناء عمان جميعهم ومؤسسات الدولة بدون استثناء ، استمرارا لعزيمة الإرادة، ونهضة المبادئ، وتجريب الأخلاق في مواقع العمل وميدان الممارسة، وإنسانية البناء في عمان، مآثر تاريخية خالدة، عنوانها الإنسان، ونتاجها الوطن، وأمانة أخلاقية يحملها أبناء وطني لتصنع للعالم أجمع نموذجا عمليا في التعايش والوئام ، والتسامح والانسجام، والتلاحم والتآزر، والتعاون والتكافل، والتعاطف والتراحم، والتحدي والإصرار في مواجهة مشوهات الحياة ومعكرات السلام.