بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة والسلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين :
أيها الأخوة الأكارم :
نحيكم جميعا بتحية الإسلام الطيبة فالسلام عليكم و رحمة الله و بركاته و أهنئ نفسي و أهنأكم بالوصول إلى هذه العراص الطاهرة فقد منّ الله سبحانه و تعالى علينا جميعا بأن جمعنا في هذا المكان أول بقعة صدع فيها الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ بالقرآن و بقول الحق و فيه أول بيت وضع للناس .
المواضيع التي تشغل بال المسلم في هذه الأيام ـ في الحقيقة ـ لا حدّ لها و لا حصر ، و أحسب أن كل واحد منا و هو يرى هذه الأحداث التي يموج بها العالم ، و الاضطرابات التي لا أول لها و لا آخر .
يتسائل المسلم ما هو المخلص ؟ و كيف المخرج ؟ فإذا جاء ليسأل أهل العلم أو ليرجع إلى الكتب أو يستمع إلى الأشرطة أو ليجلس مع أخوانه ، قيل له ( إن المخرج هو القرآن الكريم ) ، و هذه العبارة دائما ما تردد بأن رجوع الأمة إلى القرآن هو سبيل الخلا ص ، و هذا كلام طيب و كلام صحيح لا غبار عليه .
لكن السؤال الذي يلـَّحُ على الفرد المسلم باستمرار كيف أرجع إلى القرآن ؟ و كيف أعود إلى القرآن ؟
هل العودة إلى القرآن بأن أنكب على قراءته ليل نهار ؟!
هل العودة إلى القرآن بأن كل فرد من أفراد الأمة المسلمة ينبغي أن يكون مفسرا كابن جرير الطبري أو هود بن محكم الهواري أو الشيخ محمد بن يوسف أطفيش أو غيرهم من العلماء ؟!
هل العودة إلى القرآن تعني بأن لا أدع كتابا في التفسير إلا و قرأته ؟ و ما هي طبيعة هذه العودة إلى القرآن ؟؟
و كيف تعاملت الأمة مع القرآن في الوقت الذي كان فيه المسلم عزيزا محترما له وزنه و الآخرون يحسبون له كل حساب و لم يكن وضعه كما هو اليوم أرخص دماء المسلمين في الأرض على الإطلاق .
فكيف تكون إذا هذه العودة إلى القرآن ؟؟
استقبال العرب للقرآن الكريم :
حقيقة قبل الجواب على هذه الأسئلة لا بد من تصحيح طبيعة علاقة المسلمين مع القرآن عبر التأريخ كيف كانت . فأول ما نزل القرآن الكريم على الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ كان الناس لهم مذاهب متعددة و مناهج مختلفة في استقبالهم للقرآن الكريم ، فمن الناس من علم بأن هذا الكتاب إنما هو وحي من عند الله تعالى ، و لا يمكن أن يكون من وضع بشر فآمنوا به و اتبعوه من أمثال أبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب الفاروق و غيرهم من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ .
و كانت هناك فئة أخرى تعلم يقينا بأن هذا القرآن ليس من وضع محمد و لكن بسبب أمراض نفسية امتنعوا عن التصديق به من ذلك القصة المشهورة التي أوردها ابن هشام و غيره أن أبا جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق اجتمعوا في يوم من الأيام في الليل يستمعون من الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ و هو يقرأ القرآن لماذا ؟
لأنهم أناس فصحاء يعرفون اللغة العربية فجلس كل منهم في مكان ، و قد حس كل واحد منهم بعذوبة هذا الكلام الذي لم يسمعوا به من قبل و عندما التقوا في الطريق تسائلوا فيما بينهم من أي أتيت ؟
فاعترف كل واحد منهم للآخر بأنني جئت لأستمع لمحمد فتلاوموا فيما بينهم و قالوا : إذا سمعت عنكم سفهاء قرش لاتبعوا محمدا فلا يعودن منكم أحد إلى هذا بعد اليوم ، و في اليوم الثاني لم يطق كل واحد منهم أن يلتزم بما وعد مع أن العربي من عادته في جاهليته إذا وعد لا يخلف لكنهم كانوا مسحورين فعلا فالإنسان إذا اعتاد على شئ أو يحس بلذة شئ من الصعوبة بمكان أن يتخلى عنه ، فرجعوا مرة ثانية و التقوا من جديد و قالوا الآن لا بد كل واحد أن يعاهد الآخر ألا يرجع مرة أخرى و ليس مجرد كلام و إنما وعد و عهد فتعاهدوا على ذلك ، فلما أصبح الصباح ذهب الأخنس بن شريق إلى أبي جهل فقال له : أريد أن أسألك هل تعتقد أن ما جاء به محمد من عنده ؟ فقال : لا فهذا لا يكون من عند محمد أبدا . قال الأخنس : فعلام لا تؤمن به ؟ قال : كنا و بني عبد مناف كفرسي رهان أطعموا فأطعمنا ، و سقوا فأسقينا ، حتى تجاثينا على الركب . قالوا منا نبي ، فمن أين لنا بنبي مثلهم ؟
والله لا أومن به ابدا .
فإذا أبو سفيان كان يوقن في قرارة نفسه بأن هذا الكلام ليس من عند محمد .
أما المثال الثاني الذي تحفظونه جميعا ::ـ
عندما جاء عتبة بن ربيعة إلى قريش و هم جلوس في الكعبة قال لهم : ما تقولون لو قمت إلى محمد ؟ قالوا له : قم فأقنعه بأي وسيلة فكل يوم و المؤمنون في ازدياد ، قال : يا ابن أخي أقول لك فتسمع ؟ قال له قل : فقال عتبة :إن كان إنما جئت به لسحر أتينا لك بالأطباء ، و إن كنت إنما قلت ما قلت تريد المال جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا ، و إن كنت تريد الملك ملكناك علينا فقط اختار ما تريد و سننفذه لك و لكن توقف عن دعوة الناس إلى هذا الكلام العجيب ، و النبي يستمع حتى فرغ فقال له النبي ـ صلى الله عليه و على آله وسلم ـ : أو قد فرغت ؟ قال : نعم . قال أو تسمع مني كما سمعت منك ؟ قال : نعم .فقرأ عليه الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ صدرا من سورة الدخان فما كان من عتبة وهوالفصيح الذي يعرف شعر العرب و نثرهم و سجعهم و غير ذلك فما كان منه إلا أن تغير لون وجهه حتى أنه من شدة التأثر وضع يديه وراء ظهره كالشخص الذي يسقط من شدة الإعجاب بالكلام الغريب الذي سمعه ، و كانت قريش تنتظر هناك النتيجة فلما رأوه من بعيد . قال بعضهم : لقد عاد إليكم عتبة بوجه غير الذي ذهب به ، كيف ذلك و نحن أرسلناه لإقناعه فرجع إلينا و كأنه متأثر به . فهذا هو الصنف الثاني .
و لكن هل تعرفون كيف تعامل الصنف الأول ( الصحابة ) مع القرآن الكريم ؟؟؟
منهج الصحابة في التعامل مع القرآن :
مع الأيام الصنف الأول (الصحابة) عرفوا كيف يتعاملون مع القرآن الكريم فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: كنا نأتي إلى عشر آيات نتدارسها فنعرف ما فيها من أحكام و من عظات و عبر ، و لا نتجاوزها حتى نقيم ما فيها ، و لكن هل وجدت بعد عصر الصحابة مدارس أو حلقات علم أو جلسات للناس جميعا أو لفئة من الناس تطبق منهج ابن مسعود ؟؟
هل توجد فئة بالفعل تطبق هذا المنهج ؟ فيأتي الواحد إلى عشر آيات فيبدأ من سورة الفاتحة يعرف ما فيها من أحكام و غيره حتى يقيم ما فيها ثم ينتقل إلى الآيات الأخرى .
فهل هذا المنهج موجود ؟؟
سؤال طويل عريض ينبغي أن تطرحه الأمة المسلمة اليوم . ما هو دور العلماء في إقامة مثل هذا المنهج ؟ ما هو دور الدعاة و دور المسلم بنفسه ؟ هل يبحث بالفعل فيأتي إلى الكتاب العزيز لكي يقرأ العشر الآيات ثم التي تليها و هكذا لا ينتقل إلى غيرها حتى يقيم ما فيها هنا السؤال .
بعد ذلك انتهت حقبة الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ و كلما جاء جيل من المسلمين اختلفت طريقته و تعامله مع القرآن الكريم .
منهج التابعين في التعامل مع القرآن الكريم:
جيل التابعين و الذين يلونهم بعد أن اتسعت رقعة العالم الإسلامي و لا نقول الدولة الإسلامية لأنا لا نعلم في الحقيقة ماذا نطلق على الدولة الأموية و العباسية و العثمانية ؟هل نطلق عليها دولة عربية أو دولة إسلامية أم ماذا ؟!
لكن لنقل اتسعت رقعة العالم الإسلامي فزاد عدد المسلمين فكان من منهجهم في ذلك الوقت أن أخذوا يبحثون حول بلاغة القرآن و إعجازه أين يكمن في بحوث قيمة و مثيرة ، و من أجل ذلك نشأ جيل من الناس عرَّبهم القرآن و لم يكونوا عربا ، تعال و ابحث عن علماء التفسير تجد من أشهرهم الزمخشري و هو أصلا ليس بعربي و لكن أصبح لسانا عربيا ناطقا ، تعال أيضا و ابحث عن علماء النحو حتى من أسمائهم سيبويه و نفطويه و ابن خالويه و أبو السعادات ابن الشجري و غيرهم من العلماء الذين كانوا في الأصل لا يعرفون من العربية كلمة واحدة و لكن حتى يفهموا القرآن اضطروا أن يهاجروا من مسافات بعيدة ، ويلزم الواحد منهم الدرس فيدرس اللغة العربية نحوا و بلاغة و صرفا و غير ذلك من أجل ماذا ؟
من أجل أن يتلذذ بالقرآن و يدرك معانيه ، فمثلا لو جئت إلى كتب التفسير اليوم و سألت من تشاء من العلماء ما هو الكتاب الذي يمكنني أن أعرف شيئا من بلاغة القرآن و أسراره اللغوية يقال لك : الكشاف للزمخشري و هو ليس بعربي ، فالحاصل في عصر التابعين كان هناك اهتمام في جانب من الجوانب مع ما اعترى من كتب التفسيرفي تلك الحقب من دخيل كالقصص الإسرائيلية و نحو ذلك .
ثم لما قدَّر للعالم الإسلامي أن يرقد رقدته الطويلة اختلف منهج التعامل مع القرآن 180 درجة .
مراكزنا الصيفية و القرآن الكريم :
لقد أصبحت كثير من بقاع العالم الإسلامي لا يهتم حكامها و لا علمائها بالقرآ ن قدر اهتمامهم بجوانب أخرى ، هل أضرب أمثلة ؟؟
تقام مراكز صيفية في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كم من هذه المراكز يكون القرآن المنهج الأول فيها ؟ في المقابل كم من هذه المراكز تهتم بالنحو و بدراسة المتون متون العقيدة و متون الفقه ومتون اللغة و متون كذا ومتون كذا .، و كأننا تعبدنا بألفية ابن مالك و ملحة الإعراب و بغير ذلك من المتون ، و للأسف لو قام العالم الإسلامي بعمل إحصائية كم من حفظة هذه المتون يعرفون كيف ينطقون القرآن الكريم فضلا عن فهمه لوجد السواد الأعظم منهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع القرآن .
و لكن قد يحتج أحد الناس أن القرآن حتى يفهمه الناس لا بد له من أدوات فلا يمكن لأحد فهم القرآن الكريم دون فهم للغة العربية و هذا الكلام منطقي و صحيح 100% . ، و لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يتحول الاهتمام 180 درجة إلى النحو فيظل الإنسان يدرس اللغة العربية عشر سنوات و عشرين سنة إلى أن يصل إلى القبر و هو لم يصل بعد إلى مرحلة تدبر القرآن الكريم و فهمه .، فهذا ليس من العقلانية في شئ ، و لو سلمنا بهذا الكلام فيما يتصل بعلوم اللغة فماذا يقال عن العلوم الأخرى ؟؟
هل من الأولى أن ينصب اهتمامنا على تكوين إنسان يتعامل مع سورة البقرة و سورة آل عمران و سورة الناس و غير ها من سور القرآن ؟أم الأولى أن ينصب اهتمامنا على تكوين أماس يحفظون المتون الفقهية و متون المنطق و متون الأصول و نحو ذلك ، و هم لا يقرؤون القرآن الكريم تمر عليهم الأشهر تلو الأشهر ،فهذه فئة في العالم الإسلامي موجودة .
و هناك فئة ثانية قلبوا الآية......
الخلل في فهم العلاقة بين القرآن و السنة:
هل تعرفون كيف قلبت الفئة الثانية الآية ؟
الفئة الثانية قلبوا الآية فبدل أن تكون السنة خادمة للقرآن ، أصبح كل ما ما في الوجود يطوع لخدمة السنة ، و أنتم الآن في هذه البلاد الطاهرة ادخلوا كثيرا من المكتبات الكبرى و انظروا ما المساحة التي تحتلها الدراسات القرآنية المعاصرة ؟ و ما المساحة التي تحتلها دراسات السنة المعاصرة ؟ لو وصلت دراسات القرآن بنسبة 10% إلى دراسات السنة فقد نكون بخير ، و لكن للأسف لا تصل .
يعوَّد الإنسان على حفظ البخاري و على حفظ مسلم و النسائي و علم الجرح و التعديل و نحو ذلك ثم ماذا بعد ذلك ؟؟ ينشئ لنا إنسان يتقن الجرح و التعديل لكنه لا يتقن كيف يتعامل مع القرآن الكريم ؟!، فالاهتمام حتى في دور العلم غير موجود إلا من رحم ربي و قليل ما هم . طبعا نحن لانزعم بأنه لا يوجد اهتمام مطلقا بالقرآن الكريم ، هناك اهتمام لكن ما نوعية هذا الاهتمام ؟؟
الأزمة أزمة حفظ أم أزمة فهم ؟
أصبح الاهتمام في عالمنا الإسلامي في هذه الأيام ينصب على إيجاد نسخ جديدة من القرآن الكريم لكنها نسخ بشرية يحفظ الطفل القرآن الكريم منذ نعومة أظافره ، و في الحقيقة هذا في حد ذاته مغنم ، و كلنا ندعو إلى حفظ القرآن ، و نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا ممن يحاولون ان يحفظوا القرآن و يحفظوا أبنائهم القرآن ، فحفظ القرآن الكريم كرامة من الله تعالى و غنيمة ما بعدها من غنيمة ، و حفظه عن ظهر قلب هو الذي جعل المسلمين في الاتحاد السوفيتي قبل أن ينهار و في غيرها من الدول التي دمرت فيها المساجد و قـتِّل فيها المسلمون هو الذي حفظ لهم دينهم لأنهم إذا أرادوا من يحفظهم سورة الفاتحة أو بعض السور التي يصلون بها يجدون على الأقل .
و لكن يطرح السؤال نفسه ؟ فالله سبحانه و تعالى دلنا فقال : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) و قال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، هذه الآيات و غيرها تطالبنا بالحفظ أم تطالبنا بالفهم ؟!، لو رجعنا إلى منهج ابن مسعود و منهج غيره من الصحابة لوجدنا بأن قلة من الصحابة كانوا يحفظون القرآن الكريم كاملا لكن الكثرة كانت تسأل عن أحكامه ، وتحاول أن تتعامل معه ، و أن تفهم ما فيه من آيات و أحكام و من اسرار ، فالحل إذا ليس في أن يتجه العالم الإسلامي غلى الحفظ فقط دون تأمل .
فتجد كثيرا من حفظة القرآن الكريم لكن اسال واحدا منهم : هل تستطيع أن تستخرج الدروس و العظات أو العبر من قصص القرآن الكريم ؟! ، تجده لا يعرف ، لأن التنافس أصبح في الحفظ و ليس في الفهم ، فمنذ صغر سنه تأتي أمه تسأله و أبوه يسأله و إمام المسجد يسأله و الناس كلها تسأله :: كم تحفظ من القرآن الكريم ؟ لكن هل سأله أحد منهم ::
هل تفهم القرآن الكريم ؟ بل هل حاولت أصلا أن تفهم ما في القرآن الكريم ؟؟
دعوني أقولها بصراحة:
دعونا نكون أكثر واقعية لو أراد أحد أن يفهم القرآن هل يجد السبل ميسرة ؟
مجرد محاولة الفهم في بعض الأحيان تعتبر جريمة عند البعض لا تغتفر ،يقول لك من أنا ؟! حتى أقول في القرآن الكريم ؟ ، فإذا كان طالب علم شرعي درس اللغة و درس البلاغة و غيرها من المواد ، و لكن تراه ُيعفي نفسه من مسؤولية تأمل القرآن الكريم و يقول لك من أنا ؟! و دائما ما نردد العبارة المأثورة عن ابي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : "أي أرض تقلني و أي سماء تظلني و أين أذهب و لمن ألتجئ إن تكلمت في كتاب الله بما لا أعلم" .
أنا لا أزعم و لا أقول و لا أطالب بأن كل أي واحد تعلم له كلمتين يأتي و يصبح ابن جرير الطبري زمانه ، و لكن كذلك المسلم مطالب على الأقل أنه إذا قرأ القرآن و فتح المصحف يحاول أن يفهم على قدر استطاعته ، وإذا استعصى عليه شئ فالحمد لله الآن السبل ميسرة و أهل العلم موجودون يسأل لماذا هذه الآية جائت كذا ؟ و يحاول أن يرجع إلى ما لديه من كتب التفسيرالموثوقة مثل تيسير التفسير و هيميان الزاد و تفسير هود بن محكم الهواري و جواهر التفسير لسماحة الشيخ الخليلي ـ يحفظه الله نعالى ـ ، و يحاول أن يتزود بشئ من الزاد اللغوي حتى يستطع أن يفهم القرآن الكريم .
و لكن لم لا ننتقل إلى الشق التطبيقي من هذه الأمور حتى ما يكون الكلام مجرد شكوى و هموم و مآسي ، لأنه كل واحد سيقول المشكلة و عرفناها ، فما هي خطوات الحل ؟؟
نماذج من قصص المتأملين في القرآن:
النموذج الأول: الأدميرال البحري و تأمله في القرآن الكريم
قبل أن نحكي خطوات الحل نرطب هذه الجلسة ببعض القصص عن أناس تأملوا في القرآن الكريم ، و إلى أين أوصلتهم تأملاتهم ؟.، مثلا كان أحد من المسلمين لعله يعمل في البحرية فعندهم أدميرال (رتبة من رتب العسكرية البحرية ) فهذا الأدميرال يسمع عن القرآن الكريم لكنه لا يعرف عنه شيئا و لا يعرف العربية ، وطلب من هذا المسلم أن يعطيه نسخة من القرآن فأعطاه النسخة ، و ظلت عنده أيام يقرأها ثم رجع إلى صاحبه المسلم فقال له : أريد أن أسألك : محمد في أي منطقة ساحلية من العالم يسكن ؟ فأجابه : بأنه لم يسكن في مناطق ساحلية ،فقد سكن بين جبال مكة ، ثم انتقل إلى المدينة و كلاهما ليست بمنطقة بحرية ، فقال الأدميرال : إذن هو كان يتعامل كان يتعامل كثيرا مع البحر و مع البحارة. قال له : لا .في حياته لم يركب البحر و لا مرة واحدة . قال الأدميرال : هذا الكلام لا يعقل فالكلام الذي وجدته في هذا القرآن لا يمكن أن يقول به إلا إنسان متخصص في علوم البحار ليس مجرد معلومات تكون لديه فحسب: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) حتى أنه بعد ذلك جاء يصف الحالة النفسية للإنسان لما يركب البحر (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) و مثل قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ..) و إلى غير ذلك من الآيات ، حتى لما وصل الآية التي تصف العواصف و الأعاصير و نحو ذلك يقول الأدميرال : بعض هذه الأمور إلى وقت قريب لم تكن معلومة عند الناس فلأنه مهتم بشؤون البحار فقرآننا فيه الكثير من الآيات و الإشارات في مختلف المواضيع لكن أين وضع نقطة تأمله ؟ وضعها فيما هو معني به .
النموذج الثاني: العالم المعماري و تأمله في القرآن الكريم :
الدكتور محمد مكية و هو أحد مشاهير المعمارين في العالم الإسلامي جمعتني به جلسة في إحدى المرات فكان ينعى على المعمارين الإسلميين أنهم لا يقرؤون القرآن بفكر المعماري يقول : نحن ـ المعمارين ـ لورجعنا إلى القرآن لوجدنا فيه الكثير من الدلالات و الإشارات التي ينبغي أن نقرأها بطريقة تختلف عما يقرأها الإنسان العادي فمثلا قوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) لماذا و السقف المرفوع ؟ هل هناك إشارة معينة إلى أن متانة البنيان وأو نحو ذلك تكون إذا كان السقف مرفوعا ، و أيضا قوله تعالى : (عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ).
النموذج الثالث :ـ
أقول(العيسري) في نفسي : هناك إشارات أخرى تتصل بهذا فأن الآن مشتغل ببناء بيت و أتعبتني مسئلة كثيرا ما أتعبت الناس المشتغلين ببناء البيوت و هي الشقوق التي تحصل بعد ستة أشهر أو بعد ثمانية أشهر , و تجد أيضا البناء لا يأتي مستقيما فمع التأمل في الكتاب العزيز تجد أنه لا يمكن لبناء مهما طال به العمر أن يبقى مستقيما و أنه لا تكون فيه شقوق لماذا ؟ لأن الله سبحانه و تعالى أورد ذلك في الكتاب فقا ل : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ) يعني يا بشر مهما فعلتم خلقكم أو صناعتكم لا بد أن يكون فيها تفاوت إذا لم يكن اليوم فغدا (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) هل توجد شقوق في السماء أو في خلق الله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) حتى تتأكد (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) لما وجدت هذه الآيات و كأنني أقرأها لأول مرة قلت للعمال : اكملوا البناء ، لأن هذه الشقوق إذا لم تظهر اليوم ستظهر غدا و يدلك على ذلك القصور التي يشتغل أصحابها بتشييدها يوجد فيها قسم للصيانة ، وما وجد هذا القسم إلا لأن هنال شقوقا أو خللا سيظهر في ذلك البناء يحتاج إلى أن يصان مرة أخرى .
و قد ظهر الآن علم من علوم اللغة يسمى " علم الصوتيات"
فهل لهذا العلم دور في تأمل القرآن ؟؟
علم الصوتيات و أثره في تأمل القرآن:
الآن ظهر علم من علوم اللغة يسمى " علم الصوتيات " و فحواه أن الكلام إذا كان بليغا تجد بأن إيقاع الكلمة و جرسها الموسيقي ، و الحروف التي تتركب منها الكلمة لها علاقة بالمعنى الكلي بذلك الكلام الذي يقال ، لو جاء الإنسان ليجمع ما في القرآن من هذا القبيل لوجد شيئا عجبا يحتاج إلى مؤلفات ، على سبيل المثال في سورة يوسف لما يعقوب عليه السلام كان دائما يذكر ابنه يوسف ف أبنائه غضبوا من هذا الموقف و انزعجوا يقول الله سبحانه و تعالى
تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ (، حرف التاء في اللغة العربية من حروف الشدة فلما يأتي حرف التاء في بداية الكلمة و ينطقه الإنسان ( تاء) فكأنه يدل على أنه إنسان غاضب لاسيما إذا جاء مشددا انظروا إلى الآية
تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ( تجد حرف التاء تكرر ثلاث مرات متتالية حتى ترسم صورة ذهنية للقارئ و كانه يرى المشهد ماثلا أمامه و إخوة يوسف قد غضبوا عليه ، و في نفس السورة لما اجتمعت امرأة العزيز مع علية القوم (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) و لكن ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ دعاها سخرية النساء منها عندما قالن : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) ، حرف الهاء في اللغة العربية فذا جاء في آخر الكلمة يدل على التهكم و يدل على السخرية فترى الهاء قد توالت ثلاث مرات (تُرَاوِدُ فَتَاهَا ) حتى يمكن للواحد أي يقول ( ها ها ها " متهكما ") فيتخيل هذه الهاء و هي تخرج . و الأمثلة على ذلك كثيرة إذا أخذا الإنسان يتأمل في القرآن الكريم .
و حتى لا أطيل عليكم فهذه بعض الخطوات أحسب ـ و العلم عتد الله تعالى ـ أن المسلمين
إذا أخذوا بها فإن تعاملنا مع القرآن الكريم سيتغير .
الخطوات العملية لعودة المسلمين إلى قرآنهم:
الخطوة الأولى :
إن كل مسجد من المساجد ينبغي أن تعاد إليه حلقات الفجر ، وهذه العادة كانت موجودة في عمان لا تكاد تدخل مسجدا أو تمر على مسجد بعد صلاة الفجر إلا و تجد كل المساجد فيها حلقات للقرآن الكريم ، هذا الوضع بدأ يتغير خاصة بعد وجود مدارس القرآن و المدارس النظامية فيقول الأب : الولد سيتعلم في المدرسة النظامية و في مدارس القرآن لكن هذا لا ينبغي ، فينبغي أن تقام الحلقات و الحلقات ليست للأطفال فقط و إنما للبلغ قبل الأطفال ، فالقرآن لم ينزل لكي يقرأه الصغار ، و هذه واحدة من مآسينا فعندما يقال فلان يتعلم القرآن ، فما الذي يرسخ في ذهن السامع في البداية إنه طفل أو بالغ ؟ إنه طفل . لأن تعلم القرآن أصبح حكرا على الأطفال و كأنه عار على الكبير أن يتعلم القرآن الكريم فهذا لاوضع لا بد أن يصحح ، فالآن لو قمت بعدِّ الحاضرين سنتوزع على كم مسجد؟ ، فلو كل واحد قرر أن يقيم حلقة للقرآن الكريم بعد صلاة الفجر لمدة عشر دقائق ، فمع الأيام ستجد أن أولئك الناس بدأت ألسنتهم تتحول تدريجيا و تصبح قادرة على نطق القرآن الكريم و نطق الحروف من مخارجها الصحيحة صغارا و كبارا على السواء ، و هذه طريقة مجربة و قد زرت أكثر من ولاية من ولايات عمان ، فوجدت بأن المساجد التي تقام فيها هذه الحلقات يختلف أطفالها و شيبها و شبابها عن المساجد التي لا تقام فيه أمثال هذه الحلقات ، فإقامة هذه الحلقات أمر لا غنى عنه ، و الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ حضنا عليها بل القرآن الكريم قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) و إن كان بعض العلماء قال : إن قرآن الفجر هو صلاة الفجر و لكن مع ذلك فالقرآن الذي يتلى بعد صلاة الفجر فلا يبعد أن يكون مندرجا في عموم هذه الآية ، و إذا كان الناس مدبرين فيمكن أن يجذبوا في البداية فأحد المساجد قام أصحابه بعمل مسابقة أسموها مسابقة" فرسان الفجر" ، و كانت للأطفال و الذي يحضرصلاة الفجر و يجلس لمدة عشر دقائق بعد صلاة الفجر تفي نهاية الشهر تجرى بينهما مسابقة و الفائز له عشرة ريالات أو عشرون ريالا ، فما الذي يضيرإذا دفع أصحاب المسجد كاملا عشرة ريالات أو عشرين ريالا ؟ ؟
الخطوة الثانية :
و الأمر الثاني أن تلك الحلقة بعد مرور أيام أو أشهر و أصبح بعدها الناس يتقنون التلاوة يضاف يوم من الأسبوع لا يكون للتلاوة و إنما للتأمل و التدبر و لنبدأ مثلا بسورة الكهف فهذه السورة ففيها الكثير من القصص بل كلها قصص و بينها فواصل ، فكل واحد يقال له :أنت اقرأ و تأمل لا نقول لك أن تفـتي و لكن على قدر استطاعتك فإذا قرأت شيئا من التيسير أو في الهيميان و الكشاف للزمخشري ، و يوم الجمعة ستناقش في هذه القصة ، و إذا كان أحد عنده كتاب قرأ فيه قصة من القصص من سورة الكهف ، يفيدنا ببعض الدروس المستفادة و نحو ذلك ، فمع الأيام ستجد أن أصحاب ذلك المسجد بدأوا يدركون كيف يتدبرون القرآن الكريم و يتأملونه
الخطوة الثالثة :
أن اللغة العربية لا بد أن تعاد إلى المساجد ، والاهتمام باللغة العربية يتطلب وجود شخص في المسجد يعرف مبادئ النحو ، فيدرس الناس و لكن بشرط أن يكون تدريس النحو مربوطا مع القرآن الكريم من أول لحظة ، لما نأتي إلى التمثيل مثلا لعلامات الفعل من ضمنها السين ، لا نقول : سيضرب زيد عمرا ،و إنما قل : (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ) ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) ، فتكون الأمثلة كلها من القرآن الكريم ، فهذه الطريقة تعين الناس على تعلم النحو و تعينهم على فهم القرآن الكريم ، أذكر في يوم من الأيام كانت هناك حلقة للنساء فأول درس كان عن الفرق بين الاسم و الفعل و الحرف ، فجاء المرس و قال : إن من علامات الفعل دخول السين عليه ، ودخول سوف ، ثم طلب من الحاضرات بأمثلة تطبيقية ، فقالت امرأة : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ، و قالت أخرى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، فطرأت هنا مسألة لماذا جاءت في الآية الأولى بحرف السين في سورة التكاثر ، و جاءت بسوف في الآية الثانية من سورة النبأ، ما الفرق بين السين و سوف ؟ ، فمن خلال درس واحد بدأت اللغة تستيقظ في ذهن النسوة ، فمع الأيام ستجد أن الناس إذا أدركوا أسرار اللغة العربية ومبادئها و معانيها يتذوقون حلاوة القرآن ، قد يقول شخص : إن النحو صعب ، لا النحو ليس بصعب و لو كان النحو العربي صعبا لأنزل القرآن الكريم بلغة أخرى ، الله تعالى يقول ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، وإذا كان القرآن ببلاغته و قراءته ميسرا ، فالنحو أيضا ميسر و لكن يحتاج إلى طريقة معينة لتدريسه ، فبعض العلماء من أمثال الشيخ سعيد بن عبدالله بن غابش ـ رحمه الله ـ كان يدرس النحو في شهر واحد ، ولكن نحتاج للأخوة الذين أكرمهم الله تعالى بالمعرفة في اللغة العربية إلى اهتمام بإيجاد حلقة للنحو في المساجد مع حلقة القرآن ، و بذلك سترى أن الناس قد بدأوا يفهمون القرآن الكريم .
الخطوة الرابعة:
إن المساجد ينبغي أن تزود بكل ما له علاقة بالقرآن الكريم ، ليس المصحف فقط فهو مهم بل هو الأصل ، لكن هناك كتب و أدوات تعين حتى إذا طرأت مسألة و أخذ الناس يتناقشون حولها ، فكل واحد يستطيع أن يرجع إلى تلك المراجع ، و أخص بالذكر في ظلال القرآن لسيد قطب و الكشاف للزمخشري و جواهر التفسير لسماحة الشيخ الخليلي ـ حفظه الله تعالى ـ بالإضافة إلى معجم من معاجم اللغة كمختار الصحاح .فتكون هذه الكتب بمثابة المرجع الموجود في المسجد .
الخطوة الخامسة :
إن كل إنسان و هو يقرأ إذا كان يحس بأن التأمل مع الصمت سيجديه أكثر من التأمل مع القراءة الجهرية ، فليخصص أوقاتا للتلاوة السرية يتأمل و يتملى في الحقيقة لما يأتي الإنسان ليقرأ فالقرآن لا تنقضي عجائبه ، سيجد في كل يوم تساؤلات تدور في ذهنه يناقش الناس الذي يجدهم حواليه ، ثم بعد ذلك ما لم يستطع أن يجده في كتب أهل العلم ، فيمكن أن يسأل عنه العلماء الموجودين ، مرة كنت أقرأ سورة القصص فوجدت أن الله سبحانه و تعالى يقول عن موسى عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، فلما جئت لأقرأ سورة يوسف وجدت عن يوسف عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بدون: (وَاسْتَوَى) فلماذا موسى و استوى ، و يوسف بدون ذكرها ، و ما زلت أبحث عن السر في هذا قد أجده و قد لا أجده و لكنني إن وجدته فتلك نعمة منَّ الله تعالى بها علىَّ ، و إن لم أجده فيكفي أن الإنسان حاول أن يجد ، كذلك اليوم في الحرم الطاهر كنت أقرأ في سورة هود فالله سبحانه و تعالى يقول في قصة نوح (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) فلماذا الله سبحانه و تعالى بدأ بذكر الحيوانات ، و لم يقل احمل فيها أهلك و من آمن و من ثم ذكر من كل زوجين اثنين مع أن الآيات الأخرى تشير إلى أن الإنسان مكرم ، و أن هذا الكون خلق لإنسان كي يستغله و يستثمره ،فلا بد من علة هناك في التقديم ، ثم لماذا خصص أهل نوح عليه السلام و لم يدرجهم مع من آمن ؟ فهذه أمور تحتاج أن يتأمل فيها الإنسان ، و مرة أخرى كنت أقرأ في سورة يونس فوجدت أن الله سبحانه و تعالى حكى في قصة موسى عليه السلام عنما اشتد الأمر و أخذ فرعون يقتِّـل و ما حكاه الله تعالى عن الابتلاءات التي ابتلي بها بنو اسرائيل قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فـ (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) مفهومة ، و لكن واحد يعاني من تلك الفتن فيقول الله تعالى له الحل : اجعلوا سكنى قومكم بمصر و اجعلوا بيوتكم متقابلة ، لماذا الحل يكون هكذا ؟ كيف فلما الشخص يعاني من جبار و طاغية يقال له الحل اسكنوا في هذه البلاد ، اجعلوا بيوتكم متقابلة ، مع البحث و التأمل وجدت أن علماء الاجتماع قالوا بأنه لا يمكن أن ينشأ عمران حضري إلا بشرطين الأول : تأسيس المواطنة
تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ) اجعلوهم موطنيين لمصر ، و الثاني : أن يكون النسيج الاجتماعي موحدا ، فلا يكون رجل جاء من هذه البلاد و آخر من تلك البلاد ، و إنما يكون نسيج اجتماعي موحدا ، و هذا ما فعله الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ لما خطا المدينة خططا فقال : هذه لبني سالم و هذه لبني عوف و هذهلبني النجار ، و هذه لبني فلان ، ( و اجعلوا بيوتكم قبلة ) أي كلها في منطقة واحدة ، بعد أن يتكون هذا تأتي الخطوة الثالثة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ).
الخاتمة:
فإذن الذي يريد البحث في علم الاجتماع أو في علم النفس ، سيجد بغيته في القرآن الكريم ، فلا بد من هذه الأمور بالإضافة إلى التأمل و التملي الذاتي ثم بعد ذلك سنجد أن القرآن يسري في نفوسنا و يحكم حياتنا سواء في البنيان أو الاجتماع أو في الدعوة و في غيرها من الأمور أما لو ظلت الأمور تتلوالقرآن آناء الليل و أطراف النهار و لكن دون تأمل أو تدبر فذلك لن يقدم أو يأخر و أختم هذه الجلسة بأمر يضحك منه الإنسان و يبكي ، و بحق قيل : شر البلية ما يضحك ، لما أتى نابليون بونابرت ليغزو مصر التي كانت حاضرة العالم الإسلامي ، و العالم الإسلامي ينظر إليها على أنها المكان الطيب ، قال المصريون : لا بد أن نواجههم ، فما هو سبيل المواجهة ؟ فاقترح العلماء و المفكرون و في ذلك الوقت أن تقوم بعض المساجد بتلاوة صحيح البخاري ، و تقوم مساجد أخرى بتلاوة أجزاء من القرآن الكريم ، و اشترطوا أن يعطوا أجرا على تلك التلاوة ، وهذا الحاكم الذكي ـ الذي عقمت أرحام النساء أن ينجبن مثله ـ أنفق الأموال الطائلة على تلاوة صحيح البخاري في باب الحيض و النفاس و باب إيش و نابليون بونابرتقد وجّه فوهات مدافعه إليهم و الناس يستمعون و يهزون رؤوسهم لا يفهمون مما قيل كلمة واحدة ، و لا يريدون أن يفهموا ولا يراد منهم أن يفهموا ، فكيف يمكن للعالم بعد ذلك أن يستيقظ و الله سبحانه و تعالى يقول: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، و يقول : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
هذا و نسأل الله سبحانه و تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم .
تم بحمد الله تعالى
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة والسلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين :
أيها الأخوة الأكارم :
نحيكم جميعا بتحية الإسلام الطيبة فالسلام عليكم و رحمة الله و بركاته و أهنئ نفسي و أهنأكم بالوصول إلى هذه العراص الطاهرة فقد منّ الله سبحانه و تعالى علينا جميعا بأن جمعنا في هذا المكان أول بقعة صدع فيها الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ بالقرآن و بقول الحق و فيه أول بيت وضع للناس .
المواضيع التي تشغل بال المسلم في هذه الأيام ـ في الحقيقة ـ لا حدّ لها و لا حصر ، و أحسب أن كل واحد منا و هو يرى هذه الأحداث التي يموج بها العالم ، و الاضطرابات التي لا أول لها و لا آخر .
يتسائل المسلم ما هو المخلص ؟ و كيف المخرج ؟ فإذا جاء ليسأل أهل العلم أو ليرجع إلى الكتب أو يستمع إلى الأشرطة أو ليجلس مع أخوانه ، قيل له ( إن المخرج هو القرآن الكريم ) ، و هذه العبارة دائما ما تردد بأن رجوع الأمة إلى القرآن هو سبيل الخلا ص ، و هذا كلام طيب و كلام صحيح لا غبار عليه .
لكن السؤال الذي يلـَّحُ على الفرد المسلم باستمرار كيف أرجع إلى القرآن ؟ و كيف أعود إلى القرآن ؟
هل العودة إلى القرآن بأن أنكب على قراءته ليل نهار ؟!
هل العودة إلى القرآن بأن كل فرد من أفراد الأمة المسلمة ينبغي أن يكون مفسرا كابن جرير الطبري أو هود بن محكم الهواري أو الشيخ محمد بن يوسف أطفيش أو غيرهم من العلماء ؟!
هل العودة إلى القرآن تعني بأن لا أدع كتابا في التفسير إلا و قرأته ؟ و ما هي طبيعة هذه العودة إلى القرآن ؟؟
و كيف تعاملت الأمة مع القرآن في الوقت الذي كان فيه المسلم عزيزا محترما له وزنه و الآخرون يحسبون له كل حساب و لم يكن وضعه كما هو اليوم أرخص دماء المسلمين في الأرض على الإطلاق .
فكيف تكون إذا هذه العودة إلى القرآن ؟؟
استقبال العرب للقرآن الكريم :
حقيقة قبل الجواب على هذه الأسئلة لا بد من تصحيح طبيعة علاقة المسلمين مع القرآن عبر التأريخ كيف كانت . فأول ما نزل القرآن الكريم على الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ كان الناس لهم مذاهب متعددة و مناهج مختلفة في استقبالهم للقرآن الكريم ، فمن الناس من علم بأن هذا الكتاب إنما هو وحي من عند الله تعالى ، و لا يمكن أن يكون من وضع بشر فآمنوا به و اتبعوه من أمثال أبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب الفاروق و غيرهم من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ .
و كانت هناك فئة أخرى تعلم يقينا بأن هذا القرآن ليس من وضع محمد و لكن بسبب أمراض نفسية امتنعوا عن التصديق به من ذلك القصة المشهورة التي أوردها ابن هشام و غيره أن أبا جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق اجتمعوا في يوم من الأيام في الليل يستمعون من الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ و هو يقرأ القرآن لماذا ؟
لأنهم أناس فصحاء يعرفون اللغة العربية فجلس كل منهم في مكان ، و قد حس كل واحد منهم بعذوبة هذا الكلام الذي لم يسمعوا به من قبل و عندما التقوا في الطريق تسائلوا فيما بينهم من أي أتيت ؟
فاعترف كل واحد منهم للآخر بأنني جئت لأستمع لمحمد فتلاوموا فيما بينهم و قالوا : إذا سمعت عنكم سفهاء قرش لاتبعوا محمدا فلا يعودن منكم أحد إلى هذا بعد اليوم ، و في اليوم الثاني لم يطق كل واحد منهم أن يلتزم بما وعد مع أن العربي من عادته في جاهليته إذا وعد لا يخلف لكنهم كانوا مسحورين فعلا فالإنسان إذا اعتاد على شئ أو يحس بلذة شئ من الصعوبة بمكان أن يتخلى عنه ، فرجعوا مرة ثانية و التقوا من جديد و قالوا الآن لا بد كل واحد أن يعاهد الآخر ألا يرجع مرة أخرى و ليس مجرد كلام و إنما وعد و عهد فتعاهدوا على ذلك ، فلما أصبح الصباح ذهب الأخنس بن شريق إلى أبي جهل فقال له : أريد أن أسألك هل تعتقد أن ما جاء به محمد من عنده ؟ فقال : لا فهذا لا يكون من عند محمد أبدا . قال الأخنس : فعلام لا تؤمن به ؟ قال : كنا و بني عبد مناف كفرسي رهان أطعموا فأطعمنا ، و سقوا فأسقينا ، حتى تجاثينا على الركب . قالوا منا نبي ، فمن أين لنا بنبي مثلهم ؟
والله لا أومن به ابدا .
فإذا أبو سفيان كان يوقن في قرارة نفسه بأن هذا الكلام ليس من عند محمد .
أما المثال الثاني الذي تحفظونه جميعا ::ـ
عندما جاء عتبة بن ربيعة إلى قريش و هم جلوس في الكعبة قال لهم : ما تقولون لو قمت إلى محمد ؟ قالوا له : قم فأقنعه بأي وسيلة فكل يوم و المؤمنون في ازدياد ، قال : يا ابن أخي أقول لك فتسمع ؟ قال له قل : فقال عتبة :إن كان إنما جئت به لسحر أتينا لك بالأطباء ، و إن كنت إنما قلت ما قلت تريد المال جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا ، و إن كنت تريد الملك ملكناك علينا فقط اختار ما تريد و سننفذه لك و لكن توقف عن دعوة الناس إلى هذا الكلام العجيب ، و النبي يستمع حتى فرغ فقال له النبي ـ صلى الله عليه و على آله وسلم ـ : أو قد فرغت ؟ قال : نعم . قال أو تسمع مني كما سمعت منك ؟ قال : نعم .فقرأ عليه الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ صدرا من سورة الدخان فما كان من عتبة وهوالفصيح الذي يعرف شعر العرب و نثرهم و سجعهم و غير ذلك فما كان منه إلا أن تغير لون وجهه حتى أنه من شدة التأثر وضع يديه وراء ظهره كالشخص الذي يسقط من شدة الإعجاب بالكلام الغريب الذي سمعه ، و كانت قريش تنتظر هناك النتيجة فلما رأوه من بعيد . قال بعضهم : لقد عاد إليكم عتبة بوجه غير الذي ذهب به ، كيف ذلك و نحن أرسلناه لإقناعه فرجع إلينا و كأنه متأثر به . فهذا هو الصنف الثاني .
و لكن هل تعرفون كيف تعامل الصنف الأول ( الصحابة ) مع القرآن الكريم ؟؟؟
منهج الصحابة في التعامل مع القرآن :
مع الأيام الصنف الأول (الصحابة) عرفوا كيف يتعاملون مع القرآن الكريم فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: كنا نأتي إلى عشر آيات نتدارسها فنعرف ما فيها من أحكام و من عظات و عبر ، و لا نتجاوزها حتى نقيم ما فيها ، و لكن هل وجدت بعد عصر الصحابة مدارس أو حلقات علم أو جلسات للناس جميعا أو لفئة من الناس تطبق منهج ابن مسعود ؟؟
هل توجد فئة بالفعل تطبق هذا المنهج ؟ فيأتي الواحد إلى عشر آيات فيبدأ من سورة الفاتحة يعرف ما فيها من أحكام و غيره حتى يقيم ما فيها ثم ينتقل إلى الآيات الأخرى .
فهل هذا المنهج موجود ؟؟
سؤال طويل عريض ينبغي أن تطرحه الأمة المسلمة اليوم . ما هو دور العلماء في إقامة مثل هذا المنهج ؟ ما هو دور الدعاة و دور المسلم بنفسه ؟ هل يبحث بالفعل فيأتي إلى الكتاب العزيز لكي يقرأ العشر الآيات ثم التي تليها و هكذا لا ينتقل إلى غيرها حتى يقيم ما فيها هنا السؤال .
بعد ذلك انتهت حقبة الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ و كلما جاء جيل من المسلمين اختلفت طريقته و تعامله مع القرآن الكريم .
منهج التابعين في التعامل مع القرآن الكريم:
جيل التابعين و الذين يلونهم بعد أن اتسعت رقعة العالم الإسلامي و لا نقول الدولة الإسلامية لأنا لا نعلم في الحقيقة ماذا نطلق على الدولة الأموية و العباسية و العثمانية ؟هل نطلق عليها دولة عربية أو دولة إسلامية أم ماذا ؟!
لكن لنقل اتسعت رقعة العالم الإسلامي فزاد عدد المسلمين فكان من منهجهم في ذلك الوقت أن أخذوا يبحثون حول بلاغة القرآن و إعجازه أين يكمن في بحوث قيمة و مثيرة ، و من أجل ذلك نشأ جيل من الناس عرَّبهم القرآن و لم يكونوا عربا ، تعال و ابحث عن علماء التفسير تجد من أشهرهم الزمخشري و هو أصلا ليس بعربي و لكن أصبح لسانا عربيا ناطقا ، تعال أيضا و ابحث عن علماء النحو حتى من أسمائهم سيبويه و نفطويه و ابن خالويه و أبو السعادات ابن الشجري و غيرهم من العلماء الذين كانوا في الأصل لا يعرفون من العربية كلمة واحدة و لكن حتى يفهموا القرآن اضطروا أن يهاجروا من مسافات بعيدة ، ويلزم الواحد منهم الدرس فيدرس اللغة العربية نحوا و بلاغة و صرفا و غير ذلك من أجل ماذا ؟
من أجل أن يتلذذ بالقرآن و يدرك معانيه ، فمثلا لو جئت إلى كتب التفسير اليوم و سألت من تشاء من العلماء ما هو الكتاب الذي يمكنني أن أعرف شيئا من بلاغة القرآن و أسراره اللغوية يقال لك : الكشاف للزمخشري و هو ليس بعربي ، فالحاصل في عصر التابعين كان هناك اهتمام في جانب من الجوانب مع ما اعترى من كتب التفسيرفي تلك الحقب من دخيل كالقصص الإسرائيلية و نحو ذلك .
ثم لما قدَّر للعالم الإسلامي أن يرقد رقدته الطويلة اختلف منهج التعامل مع القرآن 180 درجة .
مراكزنا الصيفية و القرآن الكريم :
لقد أصبحت كثير من بقاع العالم الإسلامي لا يهتم حكامها و لا علمائها بالقرآ ن قدر اهتمامهم بجوانب أخرى ، هل أضرب أمثلة ؟؟
تقام مراكز صيفية في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كم من هذه المراكز يكون القرآن المنهج الأول فيها ؟ في المقابل كم من هذه المراكز تهتم بالنحو و بدراسة المتون متون العقيدة و متون الفقه ومتون اللغة و متون كذا ومتون كذا .، و كأننا تعبدنا بألفية ابن مالك و ملحة الإعراب و بغير ذلك من المتون ، و للأسف لو قام العالم الإسلامي بعمل إحصائية كم من حفظة هذه المتون يعرفون كيف ينطقون القرآن الكريم فضلا عن فهمه لوجد السواد الأعظم منهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع القرآن .
و لكن قد يحتج أحد الناس أن القرآن حتى يفهمه الناس لا بد له من أدوات فلا يمكن لأحد فهم القرآن الكريم دون فهم للغة العربية و هذا الكلام منطقي و صحيح 100% . ، و لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يتحول الاهتمام 180 درجة إلى النحو فيظل الإنسان يدرس اللغة العربية عشر سنوات و عشرين سنة إلى أن يصل إلى القبر و هو لم يصل بعد إلى مرحلة تدبر القرآن الكريم و فهمه .، فهذا ليس من العقلانية في شئ ، و لو سلمنا بهذا الكلام فيما يتصل بعلوم اللغة فماذا يقال عن العلوم الأخرى ؟؟
هل من الأولى أن ينصب اهتمامنا على تكوين إنسان يتعامل مع سورة البقرة و سورة آل عمران و سورة الناس و غير ها من سور القرآن ؟أم الأولى أن ينصب اهتمامنا على تكوين أماس يحفظون المتون الفقهية و متون المنطق و متون الأصول و نحو ذلك ، و هم لا يقرؤون القرآن الكريم تمر عليهم الأشهر تلو الأشهر ،فهذه فئة في العالم الإسلامي موجودة .
و هناك فئة ثانية قلبوا الآية......
الخلل في فهم العلاقة بين القرآن و السنة:
هل تعرفون كيف قلبت الفئة الثانية الآية ؟
الفئة الثانية قلبوا الآية فبدل أن تكون السنة خادمة للقرآن ، أصبح كل ما ما في الوجود يطوع لخدمة السنة ، و أنتم الآن في هذه البلاد الطاهرة ادخلوا كثيرا من المكتبات الكبرى و انظروا ما المساحة التي تحتلها الدراسات القرآنية المعاصرة ؟ و ما المساحة التي تحتلها دراسات السنة المعاصرة ؟ لو وصلت دراسات القرآن بنسبة 10% إلى دراسات السنة فقد نكون بخير ، و لكن للأسف لا تصل .
يعوَّد الإنسان على حفظ البخاري و على حفظ مسلم و النسائي و علم الجرح و التعديل و نحو ذلك ثم ماذا بعد ذلك ؟؟ ينشئ لنا إنسان يتقن الجرح و التعديل لكنه لا يتقن كيف يتعامل مع القرآن الكريم ؟!، فالاهتمام حتى في دور العلم غير موجود إلا من رحم ربي و قليل ما هم . طبعا نحن لانزعم بأنه لا يوجد اهتمام مطلقا بالقرآن الكريم ، هناك اهتمام لكن ما نوعية هذا الاهتمام ؟؟
الأزمة أزمة حفظ أم أزمة فهم ؟
أصبح الاهتمام في عالمنا الإسلامي في هذه الأيام ينصب على إيجاد نسخ جديدة من القرآن الكريم لكنها نسخ بشرية يحفظ الطفل القرآن الكريم منذ نعومة أظافره ، و في الحقيقة هذا في حد ذاته مغنم ، و كلنا ندعو إلى حفظ القرآن ، و نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا ممن يحاولون ان يحفظوا القرآن و يحفظوا أبنائهم القرآن ، فحفظ القرآن الكريم كرامة من الله تعالى و غنيمة ما بعدها من غنيمة ، و حفظه عن ظهر قلب هو الذي جعل المسلمين في الاتحاد السوفيتي قبل أن ينهار و في غيرها من الدول التي دمرت فيها المساجد و قـتِّل فيها المسلمون هو الذي حفظ لهم دينهم لأنهم إذا أرادوا من يحفظهم سورة الفاتحة أو بعض السور التي يصلون بها يجدون على الأقل .
و لكن يطرح السؤال نفسه ؟ فالله سبحانه و تعالى دلنا فقال : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) و قال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، هذه الآيات و غيرها تطالبنا بالحفظ أم تطالبنا بالفهم ؟!، لو رجعنا إلى منهج ابن مسعود و منهج غيره من الصحابة لوجدنا بأن قلة من الصحابة كانوا يحفظون القرآن الكريم كاملا لكن الكثرة كانت تسأل عن أحكامه ، وتحاول أن تتعامل معه ، و أن تفهم ما فيه من آيات و أحكام و من اسرار ، فالحل إذا ليس في أن يتجه العالم الإسلامي غلى الحفظ فقط دون تأمل .
فتجد كثيرا من حفظة القرآن الكريم لكن اسال واحدا منهم : هل تستطيع أن تستخرج الدروس و العظات أو العبر من قصص القرآن الكريم ؟! ، تجده لا يعرف ، لأن التنافس أصبح في الحفظ و ليس في الفهم ، فمنذ صغر سنه تأتي أمه تسأله و أبوه يسأله و إمام المسجد يسأله و الناس كلها تسأله :: كم تحفظ من القرآن الكريم ؟ لكن هل سأله أحد منهم ::
هل تفهم القرآن الكريم ؟ بل هل حاولت أصلا أن تفهم ما في القرآن الكريم ؟؟
دعوني أقولها بصراحة:
دعونا نكون أكثر واقعية لو أراد أحد أن يفهم القرآن هل يجد السبل ميسرة ؟
مجرد محاولة الفهم في بعض الأحيان تعتبر جريمة عند البعض لا تغتفر ،يقول لك من أنا ؟! حتى أقول في القرآن الكريم ؟ ، فإذا كان طالب علم شرعي درس اللغة و درس البلاغة و غيرها من المواد ، و لكن تراه ُيعفي نفسه من مسؤولية تأمل القرآن الكريم و يقول لك من أنا ؟! و دائما ما نردد العبارة المأثورة عن ابي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : "أي أرض تقلني و أي سماء تظلني و أين أذهب و لمن ألتجئ إن تكلمت في كتاب الله بما لا أعلم" .
أنا لا أزعم و لا أقول و لا أطالب بأن كل أي واحد تعلم له كلمتين يأتي و يصبح ابن جرير الطبري زمانه ، و لكن كذلك المسلم مطالب على الأقل أنه إذا قرأ القرآن و فتح المصحف يحاول أن يفهم على قدر استطاعته ، وإذا استعصى عليه شئ فالحمد لله الآن السبل ميسرة و أهل العلم موجودون يسأل لماذا هذه الآية جائت كذا ؟ و يحاول أن يرجع إلى ما لديه من كتب التفسيرالموثوقة مثل تيسير التفسير و هيميان الزاد و تفسير هود بن محكم الهواري و جواهر التفسير لسماحة الشيخ الخليلي ـ يحفظه الله نعالى ـ ، و يحاول أن يتزود بشئ من الزاد اللغوي حتى يستطع أن يفهم القرآن الكريم .
و لكن لم لا ننتقل إلى الشق التطبيقي من هذه الأمور حتى ما يكون الكلام مجرد شكوى و هموم و مآسي ، لأنه كل واحد سيقول المشكلة و عرفناها ، فما هي خطوات الحل ؟؟
نماذج من قصص المتأملين في القرآن:
النموذج الأول: الأدميرال البحري و تأمله في القرآن الكريم
قبل أن نحكي خطوات الحل نرطب هذه الجلسة ببعض القصص عن أناس تأملوا في القرآن الكريم ، و إلى أين أوصلتهم تأملاتهم ؟.، مثلا كان أحد من المسلمين لعله يعمل في البحرية فعندهم أدميرال (رتبة من رتب العسكرية البحرية ) فهذا الأدميرال يسمع عن القرآن الكريم لكنه لا يعرف عنه شيئا و لا يعرف العربية ، وطلب من هذا المسلم أن يعطيه نسخة من القرآن فأعطاه النسخة ، و ظلت عنده أيام يقرأها ثم رجع إلى صاحبه المسلم فقال له : أريد أن أسألك : محمد في أي منطقة ساحلية من العالم يسكن ؟ فأجابه : بأنه لم يسكن في مناطق ساحلية ،فقد سكن بين جبال مكة ، ثم انتقل إلى المدينة و كلاهما ليست بمنطقة بحرية ، فقال الأدميرال : إذن هو كان يتعامل كان يتعامل كثيرا مع البحر و مع البحارة. قال له : لا .في حياته لم يركب البحر و لا مرة واحدة . قال الأدميرال : هذا الكلام لا يعقل فالكلام الذي وجدته في هذا القرآن لا يمكن أن يقول به إلا إنسان متخصص في علوم البحار ليس مجرد معلومات تكون لديه فحسب: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) حتى أنه بعد ذلك جاء يصف الحالة النفسية للإنسان لما يركب البحر (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) و مثل قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ..) و إلى غير ذلك من الآيات ، حتى لما وصل الآية التي تصف العواصف و الأعاصير و نحو ذلك يقول الأدميرال : بعض هذه الأمور إلى وقت قريب لم تكن معلومة عند الناس فلأنه مهتم بشؤون البحار فقرآننا فيه الكثير من الآيات و الإشارات في مختلف المواضيع لكن أين وضع نقطة تأمله ؟ وضعها فيما هو معني به .
النموذج الثاني: العالم المعماري و تأمله في القرآن الكريم :
الدكتور محمد مكية و هو أحد مشاهير المعمارين في العالم الإسلامي جمعتني به جلسة في إحدى المرات فكان ينعى على المعمارين الإسلميين أنهم لا يقرؤون القرآن بفكر المعماري يقول : نحن ـ المعمارين ـ لورجعنا إلى القرآن لوجدنا فيه الكثير من الدلالات و الإشارات التي ينبغي أن نقرأها بطريقة تختلف عما يقرأها الإنسان العادي فمثلا قوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) لماذا و السقف المرفوع ؟ هل هناك إشارة معينة إلى أن متانة البنيان وأو نحو ذلك تكون إذا كان السقف مرفوعا ، و أيضا قوله تعالى : (عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ).
النموذج الثالث :ـ
أقول(العيسري) في نفسي : هناك إشارات أخرى تتصل بهذا فأن الآن مشتغل ببناء بيت و أتعبتني مسئلة كثيرا ما أتعبت الناس المشتغلين ببناء البيوت و هي الشقوق التي تحصل بعد ستة أشهر أو بعد ثمانية أشهر , و تجد أيضا البناء لا يأتي مستقيما فمع التأمل في الكتاب العزيز تجد أنه لا يمكن لبناء مهما طال به العمر أن يبقى مستقيما و أنه لا تكون فيه شقوق لماذا ؟ لأن الله سبحانه و تعالى أورد ذلك في الكتاب فقا ل : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ) يعني يا بشر مهما فعلتم خلقكم أو صناعتكم لا بد أن يكون فيها تفاوت إذا لم يكن اليوم فغدا (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) هل توجد شقوق في السماء أو في خلق الله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) حتى تتأكد (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) لما وجدت هذه الآيات و كأنني أقرأها لأول مرة قلت للعمال : اكملوا البناء ، لأن هذه الشقوق إذا لم تظهر اليوم ستظهر غدا و يدلك على ذلك القصور التي يشتغل أصحابها بتشييدها يوجد فيها قسم للصيانة ، وما وجد هذا القسم إلا لأن هنال شقوقا أو خللا سيظهر في ذلك البناء يحتاج إلى أن يصان مرة أخرى .
و قد ظهر الآن علم من علوم اللغة يسمى " علم الصوتيات"
فهل لهذا العلم دور في تأمل القرآن ؟؟
علم الصوتيات و أثره في تأمل القرآن:
الآن ظهر علم من علوم اللغة يسمى " علم الصوتيات " و فحواه أن الكلام إذا كان بليغا تجد بأن إيقاع الكلمة و جرسها الموسيقي ، و الحروف التي تتركب منها الكلمة لها علاقة بالمعنى الكلي بذلك الكلام الذي يقال ، لو جاء الإنسان ليجمع ما في القرآن من هذا القبيل لوجد شيئا عجبا يحتاج إلى مؤلفات ، على سبيل المثال في سورة يوسف لما يعقوب عليه السلام كان دائما يذكر ابنه يوسف ف أبنائه غضبوا من هذا الموقف و انزعجوا يقول الله سبحانه و تعالى
تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ (، حرف التاء في اللغة العربية من حروف الشدة فلما يأتي حرف التاء في بداية الكلمة و ينطقه الإنسان ( تاء) فكأنه يدل على أنه إنسان غاضب لاسيما إذا جاء مشددا انظروا إلى الآية
تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ( تجد حرف التاء تكرر ثلاث مرات متتالية حتى ترسم صورة ذهنية للقارئ و كانه يرى المشهد ماثلا أمامه و إخوة يوسف قد غضبوا عليه ، و في نفس السورة لما اجتمعت امرأة العزيز مع علية القوم (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) و لكن ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ دعاها سخرية النساء منها عندما قالن : (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) ، حرف الهاء في اللغة العربية فذا جاء في آخر الكلمة يدل على التهكم و يدل على السخرية فترى الهاء قد توالت ثلاث مرات (تُرَاوِدُ فَتَاهَا ) حتى يمكن للواحد أي يقول ( ها ها ها " متهكما ") فيتخيل هذه الهاء و هي تخرج . و الأمثلة على ذلك كثيرة إذا أخذا الإنسان يتأمل في القرآن الكريم . و حتى لا أطيل عليكم فهذه بعض الخطوات أحسب ـ و العلم عتد الله تعالى ـ أن المسلمين
إذا أخذوا بها فإن تعاملنا مع القرآن الكريم سيتغير .
الخطوات العملية لعودة المسلمين إلى قرآنهم:
الخطوة الأولى :
إن كل مسجد من المساجد ينبغي أن تعاد إليه حلقات الفجر ، وهذه العادة كانت موجودة في عمان لا تكاد تدخل مسجدا أو تمر على مسجد بعد صلاة الفجر إلا و تجد كل المساجد فيها حلقات للقرآن الكريم ، هذا الوضع بدأ يتغير خاصة بعد وجود مدارس القرآن و المدارس النظامية فيقول الأب : الولد سيتعلم في المدرسة النظامية و في مدارس القرآن لكن هذا لا ينبغي ، فينبغي أن تقام الحلقات و الحلقات ليست للأطفال فقط و إنما للبلغ قبل الأطفال ، فالقرآن لم ينزل لكي يقرأه الصغار ، و هذه واحدة من مآسينا فعندما يقال فلان يتعلم القرآن ، فما الذي يرسخ في ذهن السامع في البداية إنه طفل أو بالغ ؟ إنه طفل . لأن تعلم القرآن أصبح حكرا على الأطفال و كأنه عار على الكبير أن يتعلم القرآن الكريم فهذا لاوضع لا بد أن يصحح ، فالآن لو قمت بعدِّ الحاضرين سنتوزع على كم مسجد؟ ، فلو كل واحد قرر أن يقيم حلقة للقرآن الكريم بعد صلاة الفجر لمدة عشر دقائق ، فمع الأيام ستجد أن أولئك الناس بدأت ألسنتهم تتحول تدريجيا و تصبح قادرة على نطق القرآن الكريم و نطق الحروف من مخارجها الصحيحة صغارا و كبارا على السواء ، و هذه طريقة مجربة و قد زرت أكثر من ولاية من ولايات عمان ، فوجدت بأن المساجد التي تقام فيها هذه الحلقات يختلف أطفالها و شيبها و شبابها عن المساجد التي لا تقام فيه أمثال هذه الحلقات ، فإقامة هذه الحلقات أمر لا غنى عنه ، و الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ حضنا عليها بل القرآن الكريم قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) و إن كان بعض العلماء قال : إن قرآن الفجر هو صلاة الفجر و لكن مع ذلك فالقرآن الذي يتلى بعد صلاة الفجر فلا يبعد أن يكون مندرجا في عموم هذه الآية ، و إذا كان الناس مدبرين فيمكن أن يجذبوا في البداية فأحد المساجد قام أصحابه بعمل مسابقة أسموها مسابقة" فرسان الفجر" ، و كانت للأطفال و الذي يحضرصلاة الفجر و يجلس لمدة عشر دقائق بعد صلاة الفجر تفي نهاية الشهر تجرى بينهما مسابقة و الفائز له عشرة ريالات أو عشرون ريالا ، فما الذي يضيرإذا دفع أصحاب المسجد كاملا عشرة ريالات أو عشرين ريالا ؟ ؟
الخطوة الثانية :
و الأمر الثاني أن تلك الحلقة بعد مرور أيام أو أشهر و أصبح بعدها الناس يتقنون التلاوة يضاف يوم من الأسبوع لا يكون للتلاوة و إنما للتأمل و التدبر و لنبدأ مثلا بسورة الكهف فهذه السورة ففيها الكثير من القصص بل كلها قصص و بينها فواصل ، فكل واحد يقال له :أنت اقرأ و تأمل لا نقول لك أن تفـتي و لكن على قدر استطاعتك فإذا قرأت شيئا من التيسير أو في الهيميان و الكشاف للزمخشري ، و يوم الجمعة ستناقش في هذه القصة ، و إذا كان أحد عنده كتاب قرأ فيه قصة من القصص من سورة الكهف ، يفيدنا ببعض الدروس المستفادة و نحو ذلك ، فمع الأيام ستجد أن أصحاب ذلك المسجد بدأوا يدركون كيف يتدبرون القرآن الكريم و يتأملونه
الخطوة الثالثة :
أن اللغة العربية لا بد أن تعاد إلى المساجد ، والاهتمام باللغة العربية يتطلب وجود شخص في المسجد يعرف مبادئ النحو ، فيدرس الناس و لكن بشرط أن يكون تدريس النحو مربوطا مع القرآن الكريم من أول لحظة ، لما نأتي إلى التمثيل مثلا لعلامات الفعل من ضمنها السين ، لا نقول : سيضرب زيد عمرا ،و إنما قل : (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ) ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) ، فتكون الأمثلة كلها من القرآن الكريم ، فهذه الطريقة تعين الناس على تعلم النحو و تعينهم على فهم القرآن الكريم ، أذكر في يوم من الأيام كانت هناك حلقة للنساء فأول درس كان عن الفرق بين الاسم و الفعل و الحرف ، فجاء المرس و قال : إن من علامات الفعل دخول السين عليه ، ودخول سوف ، ثم طلب من الحاضرات بأمثلة تطبيقية ، فقالت امرأة : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) ، و قالت أخرى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، فطرأت هنا مسألة لماذا جاءت في الآية الأولى بحرف السين في سورة التكاثر ، و جاءت بسوف في الآية الثانية من سورة النبأ، ما الفرق بين السين و سوف ؟ ، فمن خلال درس واحد بدأت اللغة تستيقظ في ذهن النسوة ، فمع الأيام ستجد أن الناس إذا أدركوا أسرار اللغة العربية ومبادئها و معانيها يتذوقون حلاوة القرآن ، قد يقول شخص : إن النحو صعب ، لا النحو ليس بصعب و لو كان النحو العربي صعبا لأنزل القرآن الكريم بلغة أخرى ، الله تعالى يقول ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، وإذا كان القرآن ببلاغته و قراءته ميسرا ، فالنحو أيضا ميسر و لكن يحتاج إلى طريقة معينة لتدريسه ، فبعض العلماء من أمثال الشيخ سعيد بن عبدالله بن غابش ـ رحمه الله ـ كان يدرس النحو في شهر واحد ، ولكن نحتاج للأخوة الذين أكرمهم الله تعالى بالمعرفة في اللغة العربية إلى اهتمام بإيجاد حلقة للنحو في المساجد مع حلقة القرآن ، و بذلك سترى أن الناس قد بدأوا يفهمون القرآن الكريم .
الخطوة الرابعة:
إن المساجد ينبغي أن تزود بكل ما له علاقة بالقرآن الكريم ، ليس المصحف فقط فهو مهم بل هو الأصل ، لكن هناك كتب و أدوات تعين حتى إذا طرأت مسألة و أخذ الناس يتناقشون حولها ، فكل واحد يستطيع أن يرجع إلى تلك المراجع ، و أخص بالذكر في ظلال القرآن لسيد قطب و الكشاف للزمخشري و جواهر التفسير لسماحة الشيخ الخليلي ـ حفظه الله تعالى ـ بالإضافة إلى معجم من معاجم اللغة كمختار الصحاح .فتكون هذه الكتب بمثابة المرجع الموجود في المسجد .
الخطوة الخامسة :
إن كل إنسان و هو يقرأ إذا كان يحس بأن التأمل مع الصمت سيجديه أكثر من التأمل مع القراءة الجهرية ، فليخصص أوقاتا للتلاوة السرية يتأمل و يتملى في الحقيقة لما يأتي الإنسان ليقرأ فالقرآن لا تنقضي عجائبه ، سيجد في كل يوم تساؤلات تدور في ذهنه يناقش الناس الذي يجدهم حواليه ، ثم بعد ذلك ما لم يستطع أن يجده في كتب أهل العلم ، فيمكن أن يسأل عنه العلماء الموجودين ، مرة كنت أقرأ سورة القصص فوجدت أن الله سبحانه و تعالى يقول عن موسى عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، فلما جئت لأقرأ سورة يوسف وجدت عن يوسف عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بدون: (وَاسْتَوَى) فلماذا موسى و استوى ، و يوسف بدون ذكرها ، و ما زلت أبحث عن السر في هذا قد أجده و قد لا أجده و لكنني إن وجدته فتلك نعمة منَّ الله تعالى بها علىَّ ، و إن لم أجده فيكفي أن الإنسان حاول أن يجد ، كذلك اليوم في الحرم الطاهر كنت أقرأ في سورة هود فالله سبحانه و تعالى يقول في قصة نوح (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) فلماذا الله سبحانه و تعالى بدأ بذكر الحيوانات ، و لم يقل احمل فيها أهلك و من آمن و من ثم ذكر من كل زوجين اثنين مع أن الآيات الأخرى تشير إلى أن الإنسان مكرم ، و أن هذا الكون خلق لإنسان كي يستغله و يستثمره ،فلا بد من علة هناك في التقديم ، ثم لماذا خصص أهل نوح عليه السلام و لم يدرجهم مع من آمن ؟ فهذه أمور تحتاج أن يتأمل فيها الإنسان ، و مرة أخرى كنت أقرأ في سورة يونس فوجدت أن الله سبحانه و تعالى حكى في قصة موسى عليه السلام عنما اشتد الأمر و أخذ فرعون يقتِّـل و ما حكاه الله تعالى عن الابتلاءات التي ابتلي بها بنو اسرائيل قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فـ (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) مفهومة ، و لكن واحد يعاني من تلك الفتن فيقول الله تعالى له الحل : اجعلوا سكنى قومكم بمصر و اجعلوا بيوتكم متقابلة ، لماذا الحل يكون هكذا ؟ كيف فلما الشخص يعاني من جبار و طاغية يقال له الحل اسكنوا في هذه البلاد ، اجعلوا بيوتكم متقابلة ، مع البحث و التأمل وجدت أن علماء الاجتماع قالوا بأنه لا يمكن أن ينشأ عمران حضري إلا بشرطين الأول : تأسيس المواطنة
تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ) اجعلوهم موطنيين لمصر ، و الثاني : أن يكون النسيج الاجتماعي موحدا ، فلا يكون رجل جاء من هذه البلاد و آخر من تلك البلاد ، و إنما يكون نسيج اجتماعي موحدا ، و هذا ما فعله الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ لما خطا المدينة خططا فقال : هذه لبني سالم و هذه لبني عوف و هذهلبني النجار ، و هذه لبني فلان ، ( و اجعلوا بيوتكم قبلة ) أي كلها في منطقة واحدة ، بعد أن يتكون هذا تأتي الخطوة الثالثة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ). الخاتمة:
فإذن الذي يريد البحث في علم الاجتماع أو في علم النفس ، سيجد بغيته في القرآن الكريم ، فلا بد من هذه الأمور بالإضافة إلى التأمل و التملي الذاتي ثم بعد ذلك سنجد أن القرآن يسري في نفوسنا و يحكم حياتنا سواء في البنيان أو الاجتماع أو في الدعوة و في غيرها من الأمور أما لو ظلت الأمور تتلوالقرآن آناء الليل و أطراف النهار و لكن دون تأمل أو تدبر فذلك لن يقدم أو يأخر و أختم هذه الجلسة بأمر يضحك منه الإنسان و يبكي ، و بحق قيل : شر البلية ما يضحك ، لما أتى نابليون بونابرت ليغزو مصر التي كانت حاضرة العالم الإسلامي ، و العالم الإسلامي ينظر إليها على أنها المكان الطيب ، قال المصريون : لا بد أن نواجههم ، فما هو سبيل المواجهة ؟ فاقترح العلماء و المفكرون و في ذلك الوقت أن تقوم بعض المساجد بتلاوة صحيح البخاري ، و تقوم مساجد أخرى بتلاوة أجزاء من القرآن الكريم ، و اشترطوا أن يعطوا أجرا على تلك التلاوة ، وهذا الحاكم الذكي ـ الذي عقمت أرحام النساء أن ينجبن مثله ـ أنفق الأموال الطائلة على تلاوة صحيح البخاري في باب الحيض و النفاس و باب إيش و نابليون بونابرتقد وجّه فوهات مدافعه إليهم و الناس يستمعون و يهزون رؤوسهم لا يفهمون مما قيل كلمة واحدة ، و لا يريدون أن يفهموا ولا يراد منهم أن يفهموا ، فكيف يمكن للعالم بعد ذلك أن يستيقظ و الله سبحانه و تعالى يقول: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، و يقول : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
هذا و نسأل الله سبحانه و تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم .
تم بحمد الله تعالى