كيف تعمل السياسة الأمريكية: آلية صياغة القرار الأمريكي

    • كيف تعمل السياسة الأمريكية: آلية صياغة القرار الأمريكي

      كيف تعمل السياسة الأمريكية: آلية صياغة
      القرار الأمريكي
      بُنى رسمية وغير رسمية في السياسة الخارجية الأميركية
      د.جون ألترمان(*)
      (*) مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والعضو السابق في شعبة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأميركية، في مصر وسوريا.
      عن نشرة واشنطن التي تصدرها وزارة الخارجية الأميركية.
      ألقى جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والعضو السابق في شعبة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأميركية،كلمة تحدث فيها عن السياسة الخارجية الأميركية في مصر وسوريا.




      حيث قال: "ليس هدفي اليوم إقناعكم بصواب تلك السياسة. وإنما أريد أن أبحث معكم الكيفية التي يتم التوصل بها إليها. ذلك أنه يبدو لي أن كل طرف منا ينظر أحياناً إلى سياسة الطرف الآخر على أنها تتحلى بالوضوح وبمسار معروف تتجه فيه، في حين أنها تفتقر في الواقع إليهما. وآمل أن أتمكن اليوم من إعطائكم فكرة عن الفوارق الدقيقة التي تكاد لا تلاحظ في السياسة الخارجية الأميركية، وفهم الطريقة التي يمكن بها للخلق والإبداع أن يؤثرا على النتائج.
      سأتحدث بداية عن البنى الرسمية في السياسة الخارجية الأميركية، وتقسيم السلطة بين فروع حكومتنا المختلفة. وسأتناول بعد ذلك بعض أنواع المنظمات غير الرسمية المختلفة التي تؤثر في السياسة الأميركية، من منظمات الأحزاب إلى جماعات الضغط (اللوبيات) ومؤسسات الفكرة والرأي، مروراً بمنظمات أخرى. وسأتطرق أخيراً إلى قرار شن حرب على العراق، وكيف ساعد تحالف بين قوى من داخل وخارج الحكومة الأميركية، مع بيئة خارجية شهدت تغيراً، في التوصل إلى ذلك القرار.
      ولاشك لدي في أن معظمكم على علم بالعناصر الرسمية التي تشكل السياسة الخارجية الأميركية. يشرف الرئيس على السلطة التنفيذية. ويليه مباشرة في التسلسل الوزراء المختلفون مثل وزير الخارجية، ووزير الدفاع، وغيرهما. والرئيس هو الذي يعين ويقيل الوزراء، وتمنح وظائف في كل وزارة لحلفائه السياسيين. وتقتصر الوظائف فيها على المحترفين. ولكن معظم أرفع المناصب تمنح للمعينين لأسباب سياسية، وإن كان هناك في الكثير من الأحيان محترفون في مناصب رفيعة جداً، وفي الكثير من الأحيان أيضاً تعيينات سياسية في المناصب الأقل مستوى.
      ولكل وزارة مجموعة من المصالح التي تسعى إلى حمايتها، كما أن لكل منها في أكثر الأحيان ثقافتها الخاصة. ومن المحتم أن تختلف رؤية الوزارات التي تخدم نفس الرئيس للطريقة التي يتم بها تحقيق مصالح الرئيس. ولهذا السبب بالذات، أصبح لدى الولايات المتحدة منذ أكثر من نصف قرن مجلس للأمن القومي، مسؤول أمام الرئيس مباشرة ويعمل لتحقيق مصالحه. وقد استخدم كل رئيس مجلس الأمن القومي بطريقة تختلف عن تلك التي استخدمه بها الرؤساء الآخرون. فكان المجلس في عهد بعض الرؤساء وكأنه محكمة، يعد الحجج المختلفة للرئيس ويطلب منه الاختيار من بينها. وكان في عهد رؤساء آخرين سلطة بيروقراطية قوية بحد ذاتها، تقدم سياساتها الخاصة وتجادل ضد وزارة أخرى.
      ولا يبدو أن أياً من هذين التصنيفين ينطلق على مجلس الأمن القومي في عهد هذه الحكومة. ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى قوة شخصية وزيري الدفاع والخارجية. ولكنه يعود أيضاً إلى كون هذا الرئيس يعطي أهمية للسرية بين مستشاريه، وفي هذه الحالة، لدى نائبه ومستشارته للأمن القومي. ويتذمر المنتقدون من ذلك قائلين إن العاقبة الناجمة عن هذا الوضع هي أن هناك عدداً هائلاً من الخلافات التي تبقى معلقة بدون حل، لعدم قيام الرئيس أو مستشاريه بفرض اتفاق، ولكون الجهات المختلفة في الحكومة تختلف في ما بينها إن هي تركت وشأنها.
      والفرع أو السلطة الثانية في الحكومة هي الكونغرس. وسلطة الكونغرس الرئيسية هي تحديد مبلغ المال الذي سيتم إنفاقه وعلى أي نشاطات، وتحديد المبالغ التي لا يسمح بإنفاقها. ويبدو نظرياً وكأن الفرع التنفيذي يتخذ جميع القرارات المهمة وأن الكونغرس لا يعدو كونه مجموعة من المحاسبين. ولكن الواقع هو أنه لا يمكن لأي حكومة القيام بأي شيء مالم يوفر الكونغرس لها المال، ولا يمكنها القيام بأي شيء يمنعها الكونغرس من القيام به. وحين تفعل ذلك، كما حدث في قضية إيران-كونترا، حين قام موظفو مجلس الأمن القومي بجمع مال خاص بهم لمساعدة الكونترا (الثوار ضد حكم الساندانيستا) في نيكاراغوا، يسفر الأمر عن عواقب وخيمة للجميع.
      أما الفرع الثالث في الحكومة الأميركية، وهو فرع لا يهمنا أمره كثيراً بالنسبة لموضوع اليوم، فهو السلطة القضائية. وهو الفرع الذي يفصل في أمور الصلاحيات بين الفرع التنفيذي في الحكومة والكونغرس، كما أنه يضع الحدود حول ما يسمح الدستور لكل فرع في الحكومة القيام به. ولكن السلطة القضائية تكاد لا تلعب، في معظم الأحيان، أي دور في السياسة الخارجية.
      والحقيقة الطاغية التي ينبغي على المرء أن يبقيها في ذهنه عن الحكومة الأميركية هي وجودكم هائل من المعلومات المتناقلة. فالوزارات والدوائر الحكومية المختلفة تنتج جميعها كمية هائلة من المعلومات، كما تنتج جماعات المصالح المختلفة كمية مماثلة هي أيضاً. وقد ازدادت كمية المعلومات المتوفرة بمرور الوقت، وازدادت صعوبة تدبر أمرها والتعامل معها. وقد ذكر البحاثة في الشؤون الرئاسية، رتشارد نويستات، أن الرئيس كارتر كان يقرأ 350 صفحة من المذكرات يومياًن وأن ذلك كان أقل من عدد صفحات المذكرات التي كان يقرأها في السنة الأولى من توليه الرئاسة والذي بلغ 450 صفحة.
      ويقودنا هذا إلى الحقيقة الأولى التي أود بحثها وهي أن الأشخاص الذين يملكون أعظم السلطات في واشنطن يميلون إلى معالجة المشاكل في فترات زمنية متقطعة تتراوح ما بين دقيقتين وثلاث دقائق. وعلى سبيل المثال، يطلب من الكثير من المسؤولين في السياسة الخارجية أن يكونوا خبراء في قضايا متباينة كتباين النزاع العربي –الإسرائيلي وانتشار الأسلحة النووية في كوريا الشمالية والنقاشات الروسية- الأميركية المتعلقة بتصدير الدجاج والطيور الداجنة واستئصال المخدرات في كولومبيا، وهم يعالجون جميع هذه القضايا أحياناً قبل الساعة التاسعة صباحاً. ولا يتوفر لديهم وقت للتريث، كما يكاد لا يتوفر الوقت للتمعن في الاختلافات الدقيقة التي تكاد لا تلاحظ.
      ويتعين على الكثير من الأشخاص، بالطبع، لا معالجة السياسة الخارجية فقط، وإنما معالجة مجموعة واسعة من القضايا الداخلية والسياسية أيضاً. ويصعب الاستحواذ على انتباههم أو المحافظة عليه لفترة، بسبب المتطلبات الكثيرة التي تتنازعهم.
      وللتعويض عن اتساع نطاق مسؤولياتهم، يعمد ذوو المناصب الرفيعة في واشنطن إلى الاعتماد على آخرين لتشكيل وجهات نظرهم. ويقودنا هذا إلى الحقيقية الثانية التي أود تناولها: لقد ازداد عدد الأشخاص الذين يخلقون ويستهلكون المعلومات في واشنطن زيادة ضخمة في النصف الثاني من القرن العشرين. ويقدر نويستات أن عدد المحترفين المرتبطين بمجموعات المصالح الخاصة في واشنطن ازداد، في الفترة الممتدة ما بين عامي 1950 و1980، عشرة أضعاف بحيث وصل إلى خمسة عشر ألف شخص؛ وازداد عدد الموظفين في لجان الكونغرس ثمانية أضعاف في نفس الفترة حتى وصل إلى ثلاثة آلاف شخص؛ في حين ازداد عدد الموظفين الخاصين بكل عضو في الكونغرس خمسة أضعاف فارتفع إلى عشرة آلاف شخص. وفي حين أنني لا أملك أي أرقام أكثر حداثة، إلا أنني أستطيع أن أؤكد لكم أن هذا الاتجاه استمر، لأن جميع المحترفين يخلقون جواً يزخر بمزيد ومزيد من المعلومات التي تحتاج إلى مزيد ومزيد من الأشخاص لمعالجة أمرها.
      وما تعنيه هذه الكتلة المتشابكة من المعلومات التي يخلقها هذا الحشد من الخبراء هو أن كبار المسؤولين بحاجة إلى إيجاد سبل لهضمها والخروج بمحصلة مفهومة منها. وهم يتوجهون، لتحقيق ذلك، إلى هيكليات غير رسمية. وأود هنا أن أصف لكم عدداً قليلاً من هذه الكيانات.
      إن أحد هذه البنى هو الأحزاب السياسية والمنظمات المرتبطة بها أو المنظمات التي يعرف بأنها مؤازرة لها. وإذا كان هناك شخص لا يأبه كثيراً بقضية ما على الصعيد الشخصي، فإن النظر إلى تلك القضية من خلال مؤشر سياسي ليس أمراً مأموناً وحسب، وإنما أمر يساعد أيضاً في حماية مصالح ذلك الشخص السياسية. وقد تم في السنوات الثلاثين الأخيرة إنشاء عدد من مؤسسات الفكرة والرأي ذات الطبيعة الحزبية على حد كبير في واشنطن، وهي بشكل عام محافظة.
      ومن أكبرها مؤسسة هيريتايج (التي تؤكد على القضايا الداخلية) ومؤسسة أميركان إنتربرايز (التي أصبحت أكثر بروزاً في قضايا السياسة الخارجية). كما تقوم هذه المنظمات بلعب دور متزايد الاهتمام في صياغة الأفكار والمناهج، وهو ما سأتطرق إليه في وقت لاحق.
      ويمكن العثور على هيكلية غير رسمية أخرى بين منظمات الضغط (اللوبي السياسي) في واشنطن، وهي التي تتراوح ما بين أفراد مهمتهم المحددة بوضوح هي التأثير على تشريعات الكونغرس، إلى "لجان مهنية" أقل وضوحاً في تحديد هدفها تنشد تثقيف المسؤولين الحكوميين حول وجهات نظر الصناعات أو المجموعات التي تمثلها. وبين منظمات الضغط هذه، كما تعرفون، منظمات عرقية تسعى إلى التأثير على السياسة الخارجية الأميركية. وجماعة الضغط المعروفة أكثر من غيرها لديكم، والتي يطلق عليها باللغة العربية ببساطة اسم "اللوبي"، هي جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل، إلا أن هناك الكثير من جماعات الضغط أو اللوبيات السياسية القوية الأخرى. ومن أقواها اللوبي اليوناني، ولكن هناك أيضاً لوبيات مهمة وقوية تمثل المصالح الإيرلندية والكوبية والأرمنية وغيرها من المصالح. ومازال اللوبي العربي-الأمريكي ضعيفاً إلى حد ما، لأسباب يمكننا التحدث عنها، كما أن اللوبي المسلم-الأميركي وجد نفسه محاصراً إلى حد ما في السنوات الأخيرة لأسباب واضحة.
      ويختلف ما تقدمه جماعات الضغط، فهي تقدم في بعض الحالات تبرعات للحملات الانتخابية، وتقدم في حالات أخرى أشخاصاً يساعدون في الحملات الانتخابية. كما أنها تقدم في أحيان أخرى دعماً انتخابياً (أو تتعهد بعدم العمل ضد مرشح يسعى إلى إعادة انتخابه). ويحاول كل لوبي التوفيق بين الوسائل المتوفرة لديه واحتياجات السياسيين الذين يسعى إلى الفوز بتأييدهم. وتقدم جماعات الضغط الناجحة للسياسيين ما يحتاجونه، فيتجاوب السياسيون معهم مقدمين ما تحتاجه.
      ومن الأدوار التي تلعبها جماعات الضغط (اللوبي) والتي لا تقدر حق قدرها إعداد المعلومات كي تستعملها الشخصيات السياسية. وتقدم المنظمات الناجحة حججاً جاهزة تؤيد وجهات نظرها، بينما تظهر للسياسيين الفوائد المتأتية عن تبني وجهات النظر تلك. ومن أهم المقومات لأن يكون اللوبي جماعة ضغط مؤثرة، التحلي بإدراك ما ينبغي أن يطلبه وبمعرفة تامة لما يتطلبه الأمر للحصول عليه. فطلب أكثر مما ينبغي يخلق انطباعاً بالعجز يتساوى تماماً مع ذاك الذين يخلقه طلب أقل مما ينبغي، كما أن عدم التمكن مت تحقيق الوعود والتعهدات يضعف المرء هو أيضاً.
      وهناك أسلوب آخر يمكن للمرء اللجوء إليه هو الاعتماد على من هم خارج واشنطن للتأثير على كيفية تفكير من هم داخل واشنطن. وقد تستهدف مثل هذه المنظمات "الشعبية" الصحافة، أو نجوم السينما في هوليوود، أو مجموعة أو مجموعات أخرى نافذة للمساعدة في صياغة سياسة واشنطن. وقد شاهدنا الكثير من ذلك في معارضة حرب فيتنام في حرم الجامعات. وقد سعت مجموعات محافظة مثل "الأغلبية الأخلاقية" ثم "الائتلاف ا لمسيحي" في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، إلى التأثير على السياسة القومية من خلال العمل عن طريق السياسات المحلية في أمور كالانتخابات الخاصة بمجالس المدارس وغيرها من المناصب المحلية. وتسعى مثل هذه المنظمات دائماً تقريباً إلى التعريف بنفسها على أن مقرها يقع خارج واشنطن، حتى عندما يكون هدفها هو ما يحدث في واشنطن نفسها. بل إن البعض منها منظم في واشنطن نفسها في حين يبدو وكأنه منظمات محلية ذات تنظيم شعبي محلي.
      أما النوع الأخير من المنظمات فهو نوع مؤسسة الفكر والرأي التي أعمل فيها، إنه النوع غير المتحزب وغير ا لمرتبط بقضية أو مجموعة مصالح. ويتم تمويل بعض هذه المنظمات إلى حد كبير من أموال موقوفة لصالحها، في حين يجمع البعض الآخر التبرعات لتغطية ميزانيته سنوياً. وتتم تغطية ميزانية مؤسستي السنوية البالغة عشرين مليون دولار من تبرعات تجمع من عدة مصادر: حوالي 45 بالمئة من مؤسسات، وحوالي 35 بالمئة من شركات كبيرة، وحوالي 10 بالمئة من الحكومة الأميركية، في حين تتم تغطية ما تبقى من أفراد ووقف صغير. والهدف من وجودنا هو المساعدة في تقديم الحقائق لتبني علها القرارات المتخذة، وتتألف هيئة موظفينا المحترفين عادة من أشخاص لديهم خبرة في الحقلين الحكومي والأكاديمي. فمع ابتعاد العاملين في الحقل الأكاديمي عن الاهتمام بقضايا الحكم، وهو اتجاه بدأ بعد حرب فيتنام، تسلمت مؤسسات الفكر والرأي مقاليد الكثير من عملية القيام بالتحليل الأكاديمي المتعلق بالسياسة. ويعني تنوع مصادر تمويلنا أننا غير مدينين لأي كان، ولكن افتقارنا على وقف قوي يعني أننا نبحث دوماً عن التمويل اللازم لدعم نشاطاتنا. ولكوننا غير متحزبين، تسعى جهات مختلفة في الكثير من الأحيان للتأثير على رأينا، كما تحاول التأثير على رأي المسؤولين الحكوميين. كما أن وسائل الإعلام، التي تحاول في الكثير من الأحيان تقديم عدة زوايا للنظر إلى قضية تهم الحكومة، تسعى في طلبنا.
      وتنشد جميع المنظمات غير الحكومية التي وصفتها تحسين الإجراءات التي تتخذها الحكومة، من وجهة نظرها على الأقل. ولكن ما أريد أن أصفه لكم هو نشاط حتى أكثر تعقيداً يسعى فيه مسؤولون حكوميون إلى عقد شراكات مع أولئك الذين هم خارج الحكومة كي يدفعوا الحكومة إلى القيام بما يريدونه.
      ودعوني أبدأ ببعض الافتراضات المنطقية. وأولها أن هناك خلافات داخلية في الفرع التنفيذي في الحكومة الأميركية حول الكثير من المسائل. فبعض أجزاء الحكومة تميل لأن تكون أكثر محافظة في حين يميل البعض الآخر لأن يكون أكثر ليبرالية، ويميل كل قسم في الحكومة إلى الاعتقاد بأن الأمور كانت ستكون أفضل لو كان يتمتع بسلطات أكبر. كما أن هناك في كثير من الأحيان اختلافات داخل كل وزارة من الوزارات نفسها، إذ أنه قد تتباين آراء الخبراء الإقليميين والوظيفيين، كما أن المعينين لأسباب سياسية قد يختلفون في الرأي مع موظفي الخدمة المدنية المحترفين.
      والافتراض الثاني هو أن الناس يتصرفون في كثير من الأحيان وكأن الافتراضية الأولى غير صحيحة. وفي حين أن الموظفين الحكوميين قد يهاجمون بعضهم بعضاً بشراسة في السر، أو يقومون بتصرفات تضعف أعداءهم، إلا أنه يتم إعطاء أهمية هائلة للظهور على الملأ بمظهر الاتحاد والتفاني في خدمة الرئيس.
      والافتراض الثالث هو أن السعي إلى الحصول على موافقة الرئيس مغامرة تنطوي على مخاطرة كبيرة. ويعود السبب في هذا، جزئياً، إلى أنه في حال عدم موافقة الرئيس على رأيك، تكون قد خسرت تماماً. ولكن الأهم من هذا، هو أنه أثناء تقدم الأمور مرتفعة في مستويات النظام فإنها تميل لأن تتشابك مع أفكار أخرى، وعندما يوافق الرئيس على الأمر، قد لا تبدو فكرتك مشابهة كثيراً فلكرتك الأصلية إطلاقاً. ويشعر الكثيرون بالسرور إن هم أبقوا آراءهم بعيدة عن أنظار الرئيس، مستشهدين بأقوال الرئيس ليوعزوا بأنه يؤيد أفكارهم دون أن يكونوا قد أحرزوا تأييد الرئيس الواضح لها. أما عندما يتم السعي للحصول على ذلك التأييد، فإن السعي يتم في كثير من الأحيان بحذر وبشكل نظامي.
      واسمحوا لي أن آخذ هذه الافتراضات الثلاثة وأنظر إلى الطريقة التي توصلت فيها الحكومة الأميركية إلى قرار مهاجمة العراق في شهر آذار من العام الماضي. كان هناك في الولايات المتحدة أشخاص ظلوا يعتقدون على امتداد أكثر من عقد أنه كان من الخطأ عدم قيام الولايات المتحدة بالإطاحة بصدام حسين من السلطة في العام 1991. وقد رأوا أن العقوبات تنهار، وأن تعاون صدام حسين مع المجتمع الدولي يتضاءل. وكان رأيهم أن منطقة الخليج لن تكون آمنة طالما ظل صدام حسين في السلطة في بغداد.
      واعتبرت مجموعة أكبر من الناس الحرب ضد صدام إجراء غير حكيم، وكان لديها عدد من الأسباب. فقد رأى البعض أنه من الممكن تصحيح سياسة العقوبات، وظهر تحرك، كما تذكرون، باتجاه فرض "عقوبات ذكية" من شأنها أن تستهدف النظام العراقي بشكل أفضل بدون إيذاء الشعب بنفس القدر. بينما اعتقد آخرون أن مشكلة أميركا الحقيقية تكمن في الداخل، وأنه ينبغي على الرئيس أن يحصر اهتمامه بالشؤون الداخلية. ورأى بعض هؤلاء، كما رأى غيرهم، أن العراق، ببساطة، لا يشكل أزمة بالنسبة للولايات المتحدة، وأن هناك المزيد الذي يحتاج دون ريب إلى القيام به على الساحة الدولية.
      وكما نعرف، غير 11 أيلول/سبتمبر الطريقة التي ينظر بها الأميركيون إلى العالم. وقد أخذ رئيساً كان جل اهتمامه منصباً على الشؤون الداخلية وكانت خبرته في الأمور الداخلية، وأقنعه بأن عليه الاتجاه نحو الخارج. كما خفض من مستوى الأسباب المطلوبة لتبرير القيام بعلمية عسكرية أميركية في الخارج، وأدى إلى ظهور سياسة جديدة هي "الضربة الوقائية" أو الاستباقية. والأهم من أي أمر آخر لغرضنا هو أنه ساعد أولئك الذين كانوا يريدون شن حرب على العراق في الحصول على التأييد، لأنهم ربطوا بشكل فعال بين صدام حسين وأسامة بن لادن. ونجح مؤيدو مهاجمة العراق، من خلال قيامهم بذلك، بالربط بين الحرب على الإرهاب التي يدعمها الأميركيون بشكل ساحق، وجوم على العراق، وهو أمر كانوا على درجة أقل من التيقن بشأنه.
      فكيف لعلوا ذلك؟ قاموا بذلك، جزئياً، بتشكيل ما يبدو لي أنه ائتلاف لا سابق له بين حلفاء من داخل وخارج الحكومة. وكان هذا الائتلاف يعتمد جزئياً على بحاثة ومحللون للسياسات ذوي رأي مماثل لتقديم الحجج المقنعة في قضية شن حرب ضد العراق. وتم تجنيد المجموعات التي وصفتها سابقاً –المنظمات المتحزبة ومجموعات الضغط (اللوبي السياسي) والمجموعات الشعبية وحتى بعض المنظمات غير المتحزبة –للمساعدة في هذا الجهد. وحصل الذين دعموا الفكرة على ما يحصل عليه من يدعمون الحكومة على أية حال: الوصول إلى أرفع الشخصيات في الحكم، وتعليقات محبذة من قبل كبار المسؤولين. ولكونه كان قد تم ربط كل الجهد بالحرب على الإرهاب، لم يكن هناك الكثيرون ممن كان لديهم الاستعداد لطرح تساؤلات حوله بشكل مباشر.
      وكان هناك عنصر ثان هو الاتفاق التام بين صفوف الحكومة على أن ترسانة صدام حسين تشكل تهديداً خطيراً للدول المجاورة له. وفي حين أن الكثيرين من المسؤولين الحكوميين اختلفوا حول ما ينبغي أن يكون عليه الرد الأميركي على مجموعة أسلحة الدمار الشامل العراقية المثيرة للخشية، لم يشك الكثيرون بحقيقة وجود مثل هذه الترسانة بكل تأكيد.
      و كان هناك عنصر ثالث أساسي في هذه الأحجية: وجود مسؤولين غير حكوميين افترض أنهم يعربون عن آراء الرئيس، حتى عندما التزم الرئيس الصمت بشأن ماهية تلك الآراء. وكانوا يستطيعون الوصول إلى كبار المسؤولين الحكوميين، إلا أنه لم تكن قد أنيطت بهم مسؤولية واضحة. وقد بدوا وكأنهم يتحدثون بلسانهم، في حين بدوا في نفس الوقت وكأنهم متفقون إلى حد كبير مع آراء الحكومة.
      وقد بذلت محاولة بارعة من قبل أولئك الذين في داخل الحكومة للتأثير على القرارات الحكومية وجعلها محبذة لأفكارهم عن طريق الاتجاه إلى من هم خارج الحكومة فقعدت مؤسسات الفكر والرأي المؤتمرات والمنتديات وأصدرت الدراسات، واستشهد الحفيون بأقوال خبراء يؤيدون الحرب. وبدأ الرأي العام في جميع أنحاء البلد يتحول ببطء في أواخر صيف وأوائل خريف عام 2002 إلى تأييد قرار خوض الحرب. وكان ما لفت انتباهي أكثر من أي شيء آخر اتساع نطاق بحث مسألة ما إذا كانت القوات المسلحة الأميركية تستطيع إلحاق الهزيمة بالجيش العراقي، بدل بحث ما إذا كان العراق والشرق الأوسط سيكونان في حال أفضل إن قامت الولايات المتحدة بالغزو، وإن كان الأمر كذلك، ففي ظل أي ظروف. وكان الجواب عن السؤال الأول بالطبع هو، نعم، حتى ولو تطلب الأمر شهوراً قبل أن يتوصل الخبراء إلى قرارهم. أما السؤال الثاني فلم يطرح كثيراً قبل الحرب، رغم أنه يبدو الآن السؤال الواضح (الذي كان ينبغي طرحه).
      وقد قررت الحكومة، بالطبع، خوض الحرب. إلا أنه يبدو من غير المؤكد إطلاقاً بالنسبة لي أن الحكومة كانت ستتخذ مثل هذا القرار بدون ما وصل إلى حد حملة ضغط (لوبي) سياسي موجهة للتأثير على الحكومة، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقوى داخل الحكومة نفسها. والأمر الذي يبدو لي الأكثر استثنائية في هذه القضية هو ما يبدو أنه عمق التنسيق بين مجموعة من الأشخاص داخل الفرع (السلطة) التنفيذي ومجموعة تحمل آراء مماثلة من خارج الحكومة، خلال فترة طويلة ولهدف متميز.
      هل اتخذ الرئيس قرار شن الحرب؟ نعم لقد فعل، وسوف يحكم على رئاسته جزئياً على أساس حكمة ذلك القرار. ولكنني أعتقد أن فهم العملية التي أدت إلى هذه النتيجة، هو بنفس أهمية فهم النتيجة نفسها.
      أما الفكرة الأخيرة التي أود طرحها عليكم فهي مدى مشابهة كل هذه العملية لنشاطات رجال الأعمال في السوق الحرة. ويمكن للمرء أن يقرأ الكتب عن الطريقة التي تعمل بها الحكومة الأميركية، إلا أنه لا يوجد بديل لشخص خلاق لديه فكرة ومجموعة من الحلفاء الذين يستطيعون تحويلها إلى حقيقة واقعة. إلا أنه ينبغي، إن كان لفكرة ما أن تكون مؤثرة، أن تتمكن (تلك الفكرة) من إقناع الرأي العام الأميركي. ونستطيع التحدث عن بعض الأفكار التي ماتت بمجرد تعرضها للتدقيق العلني بها.
      إن لنظامنا حسنات وسيئات، ولا ريب في أنه لا يستطيع الحيلولة دون ارتكاب الحكومة الأميركية للأخطاء. ولكنني أعتقد أنه يحقق أمرين بشكل جيد مثير للإعجاب. الأول هو أنه يشجع المسؤولين على تجربة سياسات خلاقة مبدعة ويحارب الركود في الحكومة. كما أنه يساعد الحكومة على تصحيح الأخطاء التي ترتكبها حتماً . وكل هذا عملية ديناميكية، منفتحة على تلقي أكبر قدر ممكن تخيله من المعلومات. ولا يحد عدد الأصوات التي يمكنها المساهمة في السياسة سوى مخيلة وإبداعية أولئك الذين يحاولون التأثير عليها.