قراءة في فكر الحب والكراهية ..!
«الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب» و الكراهيــــــــــــــــة
وهذه وتلك راحت تستنفر استدعاء لعاطفة باتت غائبة عن الحديث العام. وكما هى العادة فإن الاستنفار يخلق حالة من التساؤل حول أسباب الغياب، وعما إذا كان ممكنا استعادة أمر كان يغني البشر ويجعلهم أكثر إنسانية، ومقدرة على الفهم واستيعاب حركة الحياة، وربما أيضا فإنها تعطي الحكمة عندما يصير الشأن سياسيا.
وعلى سبيل المقدمة فإن «الحب» ليس وحده الغائب عن حياتنا، فلو تأملنا قليلا فإن «الجمال» ذهب هو الآخر ولم يعد منذ وقت طويل، وكلاهما ينتميان إلى طائفة متنوعة من الحميمية والاقتراب والوصال والتواصل وباختصار العبور إلى آخر روحيا أو ماديا أو فقط عبر شعاع نظر. وباختصار فإن كليهما يفصحان عن حالة من الالتقاء بواقع يجسده أطفال وأوطان وبحار وسماوات، ووجدان مشبع بالطبيعة ينتصر للروح في سجن الجسد ويطلق عنانها إلى ما وراء القيد والتكبيل.
وبالفعل فإن المحلل لحديثنا العام في الصحافة والإذاعة والتلفزيون وحتى على شبكات الإنترنت الحديثة سوف يجد ليس فقط اختفاء الحديث عن «الحب» و«الجمال» وإنما انتشار القول حول «لكراهية» لأمر ما، وتمجيد أنواع مختلفة من «القبح» المعنوي والمادي. وببساطة فإن «الحياة» بكل ما تعج به من إنسانية الوجود ذهبت إلى غير رجعة، وبقي منها نقيضها «الموت» حاصلا على درجات عالية من التمجيد والفخر. وحدث ذلك في اللحظة التي توقف فيها الإنسان عن كونه إنسانا وإنما جزءا من كيانات جمعية تكون هي الوطن والأمة، وفي وقت من الأوقات كانت الطبقة الاجتماعية التي يعبر عنها جمعيا باسم الجماهير. ومن المدهش أن ذلك حدث مرة باسم جماعات ثورية مختلفة أخذت شكل انقلابات عسكرية أو ثورات شعبية أو فورات حضرية وتمردات ريفية كانت ضد الاستعمار، وضد الطغيان، وضد الظلم، ولكنها لم تقرر قط مع ماذا تكون؟ وحدث ذلك مرة أخرى باسم جماعات محافظة على الدين، والملة، والأخلاق، والخصوصية، ولكنها لم تحدد ماذا سيكون عليه الحال بعد كل هذه المحافظة؟
وببساطة فإنه مع زوال الإنسان في هذه المرة أو تلك، وخضوعه لنظرة قبلية للحياة من قبل جماعة توفرت لها حكمة نبيلة من نوع ما، أو هكذا تعتقد بحماس كبير، فإن الحب والجمال والحياة تراجعت لصالح «الدفاع» عن أمور كثيرة ليس من بينها «حقوق الإنسان» التي من بينها خفقان القلوب. ومع الدفاع يأتي الأمن، ومع الأمن تأتي الوصاية، ومع الوصاية يأتي الحديث عن ضرورة «إعادة بناء الإنسان»، ومع إعادة بناء الإنسان يتم السعي لتعقيمه ليس فقط فكريا من الأفكار الخبيثة عن الحرية والعدل، وإنما أيضا معنويا ووجدانيا وعاطفيا من نوازع بدت معصية. فالثورة والفورة والمحافظة كلها لا تعرف مجالا لأصحاب العواطف الرقيقة أو المرهفة أو القلوب الخافقة، وإنما تعرف فقط أصحاب القلوب الغليظة، والجلود السميكة، التي لا تجد غضاضة في القتل والتدمير، والقسوة في التعذيب. وعندما تفتح كتاب «التعذيب في العالم» سوف تجد فيه فصلا عربيا كبيرا جعل بلاد العرب من أشهر المناطق التي يذهب إليها الباحثون عن الحصول على الاعترافات والبوح بالأسرار التي بعدها لا يبقى قلب ولا عقل ولا وجدان.
هذه الفكرة «الدفاعية» عن الحياة لا يتم اشتقاقها من النزعة الطبيعية للدفاع عن النفس إزاء أعداء حقيقيين أو محتملين، وإنما يتم تركيبها وتجويدها من خلال خلق حالة مستمرة من الفزع الدائم إزاء عالم لا يوجد فيه إلا الأعداء. ولم يكن العرب ولا المسلمون وحدهم هم الذين عانوا من الاستعمار والاستغلال والتجزئة من قبل الغرب، ومع ذلك فإن حديثهم الممتلئ بالكراهية والرغبة في الانتقام لا تجده في أي من بلاد العالم الأخرى. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين فإنه لا توجد منطقة في العالم تتحدث عن الاستعمار والاستغلال والفقر قدر ما يتحدث العرب، أما بقية العالم فيتحدث عن التواصل والاتصال، والاعتماد المتبادل والاستثمار، والأهم من ذلك خلق الثروة والغنى. ولو أنك بحثت عن تعليق عربي على تقرير التنمية البشرية في العالم لوجدته فورا يشير إلى حقيقة أن هناك مليارا ومائتي مليون من البشر يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، ثم يفصل في حالة الأمراض والمآسي التي يعيشونها. أما إذا ذهبت إلى بلدان أخرى كثيرة فسوف تجد التعليق يدور حول كيف نجح خمسة مليارات من البشر في الحصول على أكثر من دولارين في اليوم؟!
القضية هنا ليست من ينظر إلى نصف الكوب الفارغ، أو من ينظر إلى نصف الكوب الممتلئ، كما أنها ليست قضية التفاؤل أو التشاؤم، وإنما القضية هي الآلية التي تكون شخصية سوداوية ظلامية. وهنا لا تجد الحكومات غضاضة في أن تكون قضيتها هي محاربة الفقر وليس تحقيق الغنى، وحماية الكادحين وليس العمل على خروجهم من هذه الحالة التعيسة، ومن ثم فإن برامج الدعم الحكومي، والتأمين الاجتماعي، نادرا ما أخرجت إنسانا من فقره لأنها عملت في كل الأحوال على تكريس هذا الفقر وجعله حالة دائمة تبحث عن الدعم والتأمين، وتعطي الدولة العتية سببا دائما للدفاع عن الفقراء الممتلئين دائما بأسباب الحقد والكراهية.
لا أظن أننا خرجنا كثيرا عن موضوع «الحب» و«الجمال» و«الحياة» و«الغنى»، فاختفاء هذه المشاعر الإيجابية لم يحدث صدفة، أو بسبب اختلاف العصور والأزمان، أو حتى بسبب الأجيال الجديدة الشقية، وإنما حدث عندما بتنا نكره أنفسنا لأننا عاجزون أمام التغيير والتعامل مع من هم أكثر معرفة وعلما وقدرة. وتكون النتيجة هي حالة من المغامرة التي كثيرا ما تحولنا إلى حالة أكثر تعاسة كما نرى في كل النظم الثورية والمحافظة المعروفة، وما عليك إلا أن تراجع حالات دول عربية متعددة في التاريخ القريب حتى تكتشف أن فكر «السعادة» لم تكن قط من الأهداف الوطنية والقومية. ولا يوجد في أي من إعلانات الاستقلال العربية، والدساتير العربية ـ إن وجدت ـ إشارة لأمر يماثل إعلان الاستقلال الأمريكي الذي يجعل هدف الدولة الحفاظ على الحقوق الطبيعية للإنسان ومنها الحياة والحرية والبحث عن السعادة.
وعلى العكس فإن الشائع في الحياة السياسية والاجتماعية هو الخجل من الحب واعتباره مقارنا للشهوة، والعزوف عن الحياة باعتبار أن الحفاظ عليها هو نوع من الجبن، واقتران الغنى بالفساد، والسعادة والمرح والفرح باللغو. هذا الخجل العام الذي يقترب أحيانا من حدود العار، يعطينا في النهاية أرواحا جدباء، وعقولا جرداء، وقلوبا صماء؛ ويصبح الإبداع بدعة، والهوى نزقا، والوصل معصية، والوصال خطيئة، والرقة ضعفا، والسلام خيانة، والانتحار استشهادا، والهزيمة صمودا، والتراجع تصديا. فمن يعود إلى الإنسان مرة أخرى ؟!
بو عمران$$e
شاعر الليل$$e
«الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب» و الكراهيــــــــــــــــة
وهذه وتلك راحت تستنفر استدعاء لعاطفة باتت غائبة عن الحديث العام. وكما هى العادة فإن الاستنفار يخلق حالة من التساؤل حول أسباب الغياب، وعما إذا كان ممكنا استعادة أمر كان يغني البشر ويجعلهم أكثر إنسانية، ومقدرة على الفهم واستيعاب حركة الحياة، وربما أيضا فإنها تعطي الحكمة عندما يصير الشأن سياسيا.
وعلى سبيل المقدمة فإن «الحب» ليس وحده الغائب عن حياتنا، فلو تأملنا قليلا فإن «الجمال» ذهب هو الآخر ولم يعد منذ وقت طويل، وكلاهما ينتميان إلى طائفة متنوعة من الحميمية والاقتراب والوصال والتواصل وباختصار العبور إلى آخر روحيا أو ماديا أو فقط عبر شعاع نظر. وباختصار فإن كليهما يفصحان عن حالة من الالتقاء بواقع يجسده أطفال وأوطان وبحار وسماوات، ووجدان مشبع بالطبيعة ينتصر للروح في سجن الجسد ويطلق عنانها إلى ما وراء القيد والتكبيل.
وبالفعل فإن المحلل لحديثنا العام في الصحافة والإذاعة والتلفزيون وحتى على شبكات الإنترنت الحديثة سوف يجد ليس فقط اختفاء الحديث عن «الحب» و«الجمال» وإنما انتشار القول حول «لكراهية» لأمر ما، وتمجيد أنواع مختلفة من «القبح» المعنوي والمادي. وببساطة فإن «الحياة» بكل ما تعج به من إنسانية الوجود ذهبت إلى غير رجعة، وبقي منها نقيضها «الموت» حاصلا على درجات عالية من التمجيد والفخر. وحدث ذلك في اللحظة التي توقف فيها الإنسان عن كونه إنسانا وإنما جزءا من كيانات جمعية تكون هي الوطن والأمة، وفي وقت من الأوقات كانت الطبقة الاجتماعية التي يعبر عنها جمعيا باسم الجماهير. ومن المدهش أن ذلك حدث مرة باسم جماعات ثورية مختلفة أخذت شكل انقلابات عسكرية أو ثورات شعبية أو فورات حضرية وتمردات ريفية كانت ضد الاستعمار، وضد الطغيان، وضد الظلم، ولكنها لم تقرر قط مع ماذا تكون؟ وحدث ذلك مرة أخرى باسم جماعات محافظة على الدين، والملة، والأخلاق، والخصوصية، ولكنها لم تحدد ماذا سيكون عليه الحال بعد كل هذه المحافظة؟
وببساطة فإنه مع زوال الإنسان في هذه المرة أو تلك، وخضوعه لنظرة قبلية للحياة من قبل جماعة توفرت لها حكمة نبيلة من نوع ما، أو هكذا تعتقد بحماس كبير، فإن الحب والجمال والحياة تراجعت لصالح «الدفاع» عن أمور كثيرة ليس من بينها «حقوق الإنسان» التي من بينها خفقان القلوب. ومع الدفاع يأتي الأمن، ومع الأمن تأتي الوصاية، ومع الوصاية يأتي الحديث عن ضرورة «إعادة بناء الإنسان»، ومع إعادة بناء الإنسان يتم السعي لتعقيمه ليس فقط فكريا من الأفكار الخبيثة عن الحرية والعدل، وإنما أيضا معنويا ووجدانيا وعاطفيا من نوازع بدت معصية. فالثورة والفورة والمحافظة كلها لا تعرف مجالا لأصحاب العواطف الرقيقة أو المرهفة أو القلوب الخافقة، وإنما تعرف فقط أصحاب القلوب الغليظة، والجلود السميكة، التي لا تجد غضاضة في القتل والتدمير، والقسوة في التعذيب. وعندما تفتح كتاب «التعذيب في العالم» سوف تجد فيه فصلا عربيا كبيرا جعل بلاد العرب من أشهر المناطق التي يذهب إليها الباحثون عن الحصول على الاعترافات والبوح بالأسرار التي بعدها لا يبقى قلب ولا عقل ولا وجدان.
هذه الفكرة «الدفاعية» عن الحياة لا يتم اشتقاقها من النزعة الطبيعية للدفاع عن النفس إزاء أعداء حقيقيين أو محتملين، وإنما يتم تركيبها وتجويدها من خلال خلق حالة مستمرة من الفزع الدائم إزاء عالم لا يوجد فيه إلا الأعداء. ولم يكن العرب ولا المسلمون وحدهم هم الذين عانوا من الاستعمار والاستغلال والتجزئة من قبل الغرب، ومع ذلك فإن حديثهم الممتلئ بالكراهية والرغبة في الانتقام لا تجده في أي من بلاد العالم الأخرى. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين فإنه لا توجد منطقة في العالم تتحدث عن الاستعمار والاستغلال والفقر قدر ما يتحدث العرب، أما بقية العالم فيتحدث عن التواصل والاتصال، والاعتماد المتبادل والاستثمار، والأهم من ذلك خلق الثروة والغنى. ولو أنك بحثت عن تعليق عربي على تقرير التنمية البشرية في العالم لوجدته فورا يشير إلى حقيقة أن هناك مليارا ومائتي مليون من البشر يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، ثم يفصل في حالة الأمراض والمآسي التي يعيشونها. أما إذا ذهبت إلى بلدان أخرى كثيرة فسوف تجد التعليق يدور حول كيف نجح خمسة مليارات من البشر في الحصول على أكثر من دولارين في اليوم؟!
القضية هنا ليست من ينظر إلى نصف الكوب الفارغ، أو من ينظر إلى نصف الكوب الممتلئ، كما أنها ليست قضية التفاؤل أو التشاؤم، وإنما القضية هي الآلية التي تكون شخصية سوداوية ظلامية. وهنا لا تجد الحكومات غضاضة في أن تكون قضيتها هي محاربة الفقر وليس تحقيق الغنى، وحماية الكادحين وليس العمل على خروجهم من هذه الحالة التعيسة، ومن ثم فإن برامج الدعم الحكومي، والتأمين الاجتماعي، نادرا ما أخرجت إنسانا من فقره لأنها عملت في كل الأحوال على تكريس هذا الفقر وجعله حالة دائمة تبحث عن الدعم والتأمين، وتعطي الدولة العتية سببا دائما للدفاع عن الفقراء الممتلئين دائما بأسباب الحقد والكراهية.
لا أظن أننا خرجنا كثيرا عن موضوع «الحب» و«الجمال» و«الحياة» و«الغنى»، فاختفاء هذه المشاعر الإيجابية لم يحدث صدفة، أو بسبب اختلاف العصور والأزمان، أو حتى بسبب الأجيال الجديدة الشقية، وإنما حدث عندما بتنا نكره أنفسنا لأننا عاجزون أمام التغيير والتعامل مع من هم أكثر معرفة وعلما وقدرة. وتكون النتيجة هي حالة من المغامرة التي كثيرا ما تحولنا إلى حالة أكثر تعاسة كما نرى في كل النظم الثورية والمحافظة المعروفة، وما عليك إلا أن تراجع حالات دول عربية متعددة في التاريخ القريب حتى تكتشف أن فكر «السعادة» لم تكن قط من الأهداف الوطنية والقومية. ولا يوجد في أي من إعلانات الاستقلال العربية، والدساتير العربية ـ إن وجدت ـ إشارة لأمر يماثل إعلان الاستقلال الأمريكي الذي يجعل هدف الدولة الحفاظ على الحقوق الطبيعية للإنسان ومنها الحياة والحرية والبحث عن السعادة.
وعلى العكس فإن الشائع في الحياة السياسية والاجتماعية هو الخجل من الحب واعتباره مقارنا للشهوة، والعزوف عن الحياة باعتبار أن الحفاظ عليها هو نوع من الجبن، واقتران الغنى بالفساد، والسعادة والمرح والفرح باللغو. هذا الخجل العام الذي يقترب أحيانا من حدود العار، يعطينا في النهاية أرواحا جدباء، وعقولا جرداء، وقلوبا صماء؛ ويصبح الإبداع بدعة، والهوى نزقا، والوصل معصية، والوصال خطيئة، والرقة ضعفا، والسلام خيانة، والانتحار استشهادا، والهزيمة صمودا، والتراجع تصديا. فمن يعود إلى الإنسان مرة أخرى ؟!
بو عمران$$e
شاعر الليل$$e