لماذا ( أحمد أمين )

    • لماذا ( أحمد أمين )

      لماذا؟

      لماذا تري الرجل عاقلاً حكيماً، صادق الرأي في الحكم علي الأشياء، صحيح التقويم لها، عادلاً في تقديرها- وذلك كله إذا كان الشيء الذي يحكم عليه أو يقدره غير متصل بذاته، ولا يمس مصلحة من مصالحه، ولا يناله منه خير أو شر؛ فإذا اتصل هذا الشيء بنفسه، أو كان يتوقع منه ضراً أو نفعاً، فسد حكمه، وساء تقديره، وفقد حكمته، وأصبح مثله مثل السفيه في الرأي، الكاذب في النظر، السيئ التقدير؟

      لأن الإنسان في الأعم الأغلب لا يستطيع أن يجرد الأشياء عند الحكم عليها من عواطفه؛ وقد لاحظ الفلاسفة هذا الخطأ في الأحكام، فحاولوا تجريد الأشياء المحكوم عليها مما يتصل بها من العوطف؛ وأدرك هذا علماء، المنطق، فرأوا أن الألفاظ في القضية قد يتصل بها شيء من العواطف يفسد حكمهم، فحاولوا أن يعبروا عن هذه القضايا ب: أ، ب، ج، د. حتى يكون حكمهم مجرداً فيكون أقرب إلي الصدق.

      ومما يؤسف له أن مداخل العواطف في تقويم الأشياء والحكم عليها مداخل في منتهي الخفاء؛ وليس الكذب مقصوراً علي الكذب علي الآخرين، بل أشد منه خطراً كذب الإنسان علي نفسه؛ فهو يخدعها، ويظن أنه ينصحها؛ ويجور في حكمه، ويظن أنه يعدل. ولم يستطيع أن يتحرر من هذا إلا القليل النادر.

      وما سبب النزاع في العالم إلا الوقوع في هذا الخطأ، وما ملأ المحاكم بالقضايا إلا هذا الخطأ؛ فليست المحاكم والمجالس القضائية وغير القضائية مقصورة علي الشريرين والباغين الذين يدعون الحق ويعلمون أنهم مبطلون، ولكن أكثر من هؤلاء، المتخاصمون الذين يختلفون علي الأمر الواحد ويعتقد كل منهم أنه علي حق؛ ذلك أن كلا منهم ينظر إلي المسألة من زاويته هو، لا من زاوية خصمه، والزاوية التي ينظر منها كل متخاصم عمل في تكوينها عقله ومنطقه وبواعثه وعواطفه، والخير الذي يرتجيه والشر الذي يهرب منه.

      وهذا هو سر الخلاف بين الشرق والغرب، بل سر الخلاف بين الدول كلها الآن، بل هو سر الخلاف بين الممثلين لهذه الأمم، مع أن المفروض فيه أنهم من أرقي الناس عقلاً وأصدقهم حكماً، وأعدلهم تقويماً للأشياء؛ وإنما المسألة أن العقل وحده ليس الذي يحكم، وليس الذي يقدر، ولكن العامل الأكبر في الحكم والتقدير هو ما تراه كل أمة ومن يمثلها، مراعياً ما يعود من الرأي علي أمته من مصالح أو مضار، ولو أنك جمعت هؤلاء الممثلين وجردتهم من عواطفهم لاتفقوا علي رأي واحد في تقدير الأشياء وخيرها وشرها، وما يجب أن يعمل، وما يجب أن يترك، في أقرب زمن.

      وإن شئت فقل إن الحروب في العالم وويلاتها سببها هذا الخطأ في الحكم من حفنة من قادة الرأي والسياسة، قدر كل زعيم أمة مصلحة أمته، وما ينالها في الحرب إن دخلت الحرب، أو السلم إن جنحت إلي السلم، ثم أصدر حكمه غير مصغ إلي عقله المجرد، وغير مقدر للحقائق كما ينبغي أن تقدر، وقد يؤثر في رأيه هوي شخصي، أو ناحية من نواحي ضعفه الخلقي، أو رغبته في المجد الوطني الكاذب، أو خضوعه تحت تأثير قوم من الرأسماليين الشريرين، أو نحو ذلك من شهوات أو مطامع ومطامح، يتأثر بها عدد قليل من القادة، فيوقعون العالم الإنساني كله في كوارث لا تقدر خطورتها.

      ولو أتيح للعالم يوماً من الأيام أن يكون قادته من المناطقة أو الفلاسفة الذين يستطيعون أن يتجردوا في حكمهم علي الأشياء من هوي أو مطمع أو مطمح، وأن يقدروا المسائل حسب قيمتها الذاتية لا حسب ما يغلفها من أعراض وأغراض، فإن كان ولابد من اشتراك العواطف والمشاعر في الحكم، فالعواطف للإنسانية لا للوطنية، والمشاعر للعالمية لا للقومية- لعم العالم السلم، وعاش في رفاهية، وكان الناس بنعمة الله إخواناً.

      ولكن أني لنا ذلك والقول ما قال بديع الزمان: والله ما فسد الناس، ولكن أطرد القياس .


      من كتاب فيض الخاطر احمد أمين