دراسة واقعية تؤكد إصابة أبناء المطلقين بأمراض عضوية نتيجة حالتهم النفسية
]
الطلاق قد يكون في بعض الأحيان حلاً لخلافات زوجية لا يمكن علاجها إلا به، لكنه في أحيان كثيرة فتنة، ينبغي أن نستشعر أضرارها اللاحقة بضحايا لا ذنب لهم في هذه القضية وهم الأبناء، الذين يمثلون رمز وحدة الأسرة، ومستقبل نهضة الأمة.
وفي دراسة بعنوان: "الحرمان العاطفي وعلاقته بالاضطرابات النفسية العضوية لدى أطفال الطلاق" أعدها الباحث "رضي الحمراني" اختصاصي نفسي، بيّن فيها سبق القرآن والسنة إلى التنبيه إلى خطورة هذه المعضلة الاجتماعية، وتركيز القرآن الكريم في مواضع كثيرة، على السبب الرئيس الذي أهلك الأمم والشعوب السابقة، ألا وهو الشقاق والفرقة، فقال سبحانه وتعالى: ]واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا] (آل عمران: 103)، لقد أمر رب العالمين في هذه الآية، عباده المسلمين بالتزام الجماعة ومن مظاهرها الزواج، ونهاهم عن الفرقة ومن تجلياتها الطلاق.
وتحاول هذه الدراسة الجواب على سؤال مركزي وهو: كيف يولّد الحرمان مثل هذه الاضطرابات لدى الطفل في حالة فراق والديه؟
الحرمان العاطفي
يعني هذا المفهوم في الاصطلاح النفسي، معاناة الإنسان الناتجة عن غياب الأسباب الضرورية لتلبية حاجاته ورغباته النفسية، والمقصود بالحرمان العاطفي، فقدان الطفل لرعاية وحماية والديه بعد الطلاق.
الاضطرابات النفسية العضوية
هي أعراض مرضية تلحق بعض أعضاء الجسم، ويكون السبب في نشأتها ليس عضوياً، بل مصدره صراعات ومشكلات نفسية، فشل المصاب في التعبير عنها لغوياً، فلجأ إلى تفريغ هذه الانفعالات في شكل اضطرابات جسدية.
إن موضوع هذه الدراسة، يتناول الاضطرابات النفسية العضوية التي تصيب أطفال المطلقين، كالاضطرابات الغذائية، والجلدية، واضطرابات النوم... إلى غيرها من الأعراض الأخرى، سواء كانت مؤقتة أو مزمنة.
ولقد اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الإكلينيكي، الذي ينبني على التحليل المعمق لشخصية الفرد، لذلك يكون عدد الحالات المدروسة محدوداً، وقد وظفت تقنيات متعددة ومتنوعة، حتى اقتربت من الشمولية للموضوع، عبر استعمال الأدوات التالية:
المقابلة نصف الموجهة، الملاحظة الإكلينيكية، الاختبارات الإسقاطية، سواء منها التي تشخص بنية الشخصية كالرورشاخ (Test Rorschach)، أو تلك التي تدرس طبيعة العلاقات التفاعلية التي ينسجها الفرد مع الآخرين، كاختبار تفهم الموضوع (Children Apperception Test).
أما فيما يخص عينة البحث، فتتكون من ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين سن السادسة والثالثة عشرة، تمت دراسة حالاتهم خلال سنة كاملة، بالجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة بمدينة الرباط، وبالموازاة مع الدراسة التشخيصية والتحليلية لمشكلاتهم النفسية، اعتمدت برنامجاً علاجياً.
وتتناول هذه الدراسة، نوعاً محدداً من الانعكاسات السلبية للحرمان العاطفي على أطفال الطلاق، وهي الاضطرابات النفسية العضوية.
دراسة حالة نموذجية
التعريف بالحالة: أ. المجتمع : فتى يبلغ من العمر ثلاث عشرة سنة، ينحدر من أسرة فقيرة مكونة من أب يعمل خادماً لدى أسرة غنية، وأم ربة بيت. انفصل والدا الصبي وهو ابن سنتين، والسبب في ذلك راجع إلى إهمال أبيه لمسؤولياته العائلية بعد أن طرد من عمله لإدمانه المزمن على شرب الخمر.
بعد الطلاق، استقرت الأم برفقة ابنها في منزل والديها، واضطرت للعمل خارج البيت حتى توفر ضروريات الحياة، لكنها لم تتمكن من الاستمرار في رعاية طفلها، لذلك تركته في بيت جديه وعمره آنذاك عشر سنوات، لتتزوج برجل مسن يملك ثروة لا بأس بها.
بعد مرور سنة على زواج الأم، ظهرت على الطفل اضطرا بات جلدية (Eczma) في عدة مناطق من جسمه، ولم يتماثل هذا العرض المرضي للشفاء، رغم خضوع الحالة للعلاج بالأدوية لفترة تجاوزت ستة أشهر.
ولوحظ أن أ. المجتمع يتميز بشراهة مرضية عند تناول الأغذية (Boulimie)، وقد علق على هذا الاضطراب بقوله: "إن كثرة الأكل تملأ بطني وتشعرني بالسعادة".
بالموازاة مع هذا الاضطراب النفسي العضوي، لوحظ تشبث الطفل بممارسة بعض العادات التي تنتمي إلى المرحلة الرضيعية، كمصّ الأصبع "إبهام يده اليمنى" رغم أنه بلغ من العمر13سنة.
تحليل الحالة
خلال السنتين الأوليين من عمره، عانى الطفل من حرمان مادي ومعنوي، ناتج عن إهمال الأب لمسؤولياته تجاه الزوجة والابن بسبب تعاطيه الخمر، وقد أدى هذا العامل إلى اهتزاز الاستقرار العائلي بشكل تدريجي، فقد أثر أولاً على التوازن النفسي للأم، ثم انتقل هذا الاضطراب من خلالها إلى الابن، وقد بين علماء النفس في هذا الإطار أن الطفل في مرحلة الرضاعة، لا يكتفي بالغذاء البيولوجي المتمثل في حليب أمه، بل يتشرب أيضاً الإيماءات الرقيقة والمشاعر الدافئة التي تبدو على وجهها وهي تداعبه أثناء الرضاعة.
إن غياب هذا الغذاء النفسي، هو ما أفسد على الحالة المدروسة شهية الأكل، فالطفل يمتص الحليب من ثدي أمه ثم يتقيؤه، لعدم شعوره بالعطف والحنان المصاحبان لعملية الإرضاع البيولوجي، وحرمانه العاطفي هذا ناجم عن التوتر النفسي الذي عانت منه الأم من جراء المشكلات التي عاشتها في علاقتها بالأب.
إن شدة المشاعر السلبية التي تلقاها الطفل من أمه، جعلته لا يكتفي بتفريغ هذه الانفعالات عبر الاضطرابات الغذائية "التقيؤ"، بل تجاوزها إلى تعابير نفسية عضوية أخرى، مثل اضطرابات النوم، مما يدل على أنه كان يشعر بالفقدان التام للطمأنينة والسكينة النفسية، في ظل أجواء أسرية ملبدة بسحب المشكلات الزوجية.
بعد انفصال الوالدين، عانى الطفل من نوع آخر من الحرمان لمدة ثماني سنوات، وهو افتقاده لأمه بسبب غيابها عن البيت وتركيزها على كسب لقمة العيش، وهذا ما يفسر لماذا كان أ. المجتمع يتناول الأغذية بشراهة غير عادية. فحسب الدراسات النفسية المنجزة حول موضوع الاضطرابات الغذائية، تبين أن الطفل يملأ بطنه بالأكل ليعوض الشعور المؤلم بالفراغ العاطفي الذي يعاني منه، وهذا ما يبين من جهة معنى قوله: "إن كثرة الأكل تملأ بطني وتشعرني بالسعادة"، ويوضح من جهة أخرى العلة في الاختيار اللاشعوري للاضطرابات الغذائية، كوسيلة للتعبير عن توتراته النفسية لارتباطها بالفم، وهو مصدر إشباع الحاجات البيولوجية بامتياز في مرحلة طفولته الأولى، التي ذاق فيها أقصى مظاهر الحرمان وهو رضيع.
مما سبق يتجلى أيضاً السر في عدم تخلص الطفل من عادة مصّ الأصبع، رغم بلوغه سن الثالثة عشرة؛ لأن تعاقب مظاهر الحرمان التي عاشها دون أن يفهمها، أدى إلى تراكم هذه التجارب المؤلمة، لتشكل حواجز نفسية منعته من تحقيق نموه النفسي بالموازاة مع نموه الجسمي، فكان أكثر قرباً من التعبير بلغة جسدية سطحية، وأكثر بعداً عن تفريغ انفعالاته في قالب لغوي منطوق، يساعده على فهم معاناته وبالتالي تجاوزها.
إضافة لكل هذا، فقد تعمق شعور الطفل بالحرمان العاطفي لاضطراب صلته بأمه بعد زواجها الثاني، مما انعكس عليه في شكل أعراض جلدية(Eczema) لقد أكد الخبراء في مجال العلاقة الثنائية بين الطفل وأمه، أن الرعاية النفسية الأمومية تكسب الطفل قوة نفسية تعزز مناعته الجسمية ضد الأمراض العضوية، لكن الطفل موضوع الدراسة، ونظراً لضعف تنشئته الاجتماعية التي تلقاها، اختل توازنه النفسي فصارت مناعته الجسمية عموماً والجلدية خصوصاً، هشة ومعرّضة للإصابة بالاضطرابات النفسية والعضوية.
نتائج البرنامج العلاجي
في المشروع العلاجي لحالة أ.م، تم التركيز على ثلاثة أهداف رئيسة:
أولاً: تدريب الطفل على استعمال وسائل تعبيرية سوية عن معاناته النفسية، كالتعبير الشفوي "الحوار" والتعبير الرمزي "الرسم"، حتى يتخلص تدريجياً من التعابير المرضية التي تعود عليها.
ثانياً: تم تتبع الحالة، بتنظيم زيارات تجمع الأم بطفلها في فضاء الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة، لإذابة التوتر الذي خيم على العلاقة بينهما منذ زواجها الثاني.
ثالثاً: حاولنا إدماج الطفل في بيت زوج أمه، بعد إقناع هذا الأخير بالظروف النفسية التي مر بها، ليساهم بدوره كبديل للأب في إنجاح البرنامج العلاجي.
إن هذه المجهودات العلاجية، لم تؤدِّ إلى شفاء الطفل من الاضطرابات النفسية العضوية التي يعاني منها، لكنها مكنت على الأقل من التخفيف من حدتها.
توصيات الدراسة
على المتزوجين والشباب المقبل على الزواج زيادة ثقافتهم الدينية والنفسية المرتبطة بشؤون الأسرة، حتى يعبدوا الله على علم في حياتهم الأسرية.
ينبغي للمؤسسات المهتمة بالشأن التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية، عقد دورات تكوينية للشباب، لا تكتفي فيها ببيان الشروط الشرعية والنفسية الضرورية لنجاح مشروع بناء الأسرة المسلمة، بل تعرض بالإضافة إلى ذلك تجارب واقعية سواء الناجحة منها والفاشلة على وجه الخصوص وتطرحها للنقاش؛ لأن التجربة الصحيحة تتحقق بالاستفادة من التجارب الخاطئة.
تنظيم حملات إعلامية لتوعية الشباب غير المتزوج بأهمية الإقبال على التكوين المؤهل للزواج، وإشعار المتزوجين بضرورة التكوين المستمر لضمان استمرارية وحدة الأسرة.
إنشاء مراكز نفسية واجتماعية متخصصة في علاج المشكلات الأسرية.
اجتهاد الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين في نشر ثقافة نفسية أصيلة داخل المجتمع، تهدف إلى تقوية وحدة الأسرة.
استحداث وحدات للبحث خاصة بالأسرة في0المجتمع
]
الطلاق قد يكون في بعض الأحيان حلاً لخلافات زوجية لا يمكن علاجها إلا به، لكنه في أحيان كثيرة فتنة، ينبغي أن نستشعر أضرارها اللاحقة بضحايا لا ذنب لهم في هذه القضية وهم الأبناء، الذين يمثلون رمز وحدة الأسرة، ومستقبل نهضة الأمة.
وفي دراسة بعنوان: "الحرمان العاطفي وعلاقته بالاضطرابات النفسية العضوية لدى أطفال الطلاق" أعدها الباحث "رضي الحمراني" اختصاصي نفسي، بيّن فيها سبق القرآن والسنة إلى التنبيه إلى خطورة هذه المعضلة الاجتماعية، وتركيز القرآن الكريم في مواضع كثيرة، على السبب الرئيس الذي أهلك الأمم والشعوب السابقة، ألا وهو الشقاق والفرقة، فقال سبحانه وتعالى: ]واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا] (آل عمران: 103)، لقد أمر رب العالمين في هذه الآية، عباده المسلمين بالتزام الجماعة ومن مظاهرها الزواج، ونهاهم عن الفرقة ومن تجلياتها الطلاق.
وتحاول هذه الدراسة الجواب على سؤال مركزي وهو: كيف يولّد الحرمان مثل هذه الاضطرابات لدى الطفل في حالة فراق والديه؟
الحرمان العاطفي
يعني هذا المفهوم في الاصطلاح النفسي، معاناة الإنسان الناتجة عن غياب الأسباب الضرورية لتلبية حاجاته ورغباته النفسية، والمقصود بالحرمان العاطفي، فقدان الطفل لرعاية وحماية والديه بعد الطلاق.
الاضطرابات النفسية العضوية
هي أعراض مرضية تلحق بعض أعضاء الجسم، ويكون السبب في نشأتها ليس عضوياً، بل مصدره صراعات ومشكلات نفسية، فشل المصاب في التعبير عنها لغوياً، فلجأ إلى تفريغ هذه الانفعالات في شكل اضطرابات جسدية.
إن موضوع هذه الدراسة، يتناول الاضطرابات النفسية العضوية التي تصيب أطفال المطلقين، كالاضطرابات الغذائية، والجلدية، واضطرابات النوم... إلى غيرها من الأعراض الأخرى، سواء كانت مؤقتة أو مزمنة.
ولقد اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الإكلينيكي، الذي ينبني على التحليل المعمق لشخصية الفرد، لذلك يكون عدد الحالات المدروسة محدوداً، وقد وظفت تقنيات متعددة ومتنوعة، حتى اقتربت من الشمولية للموضوع، عبر استعمال الأدوات التالية:
المقابلة نصف الموجهة، الملاحظة الإكلينيكية، الاختبارات الإسقاطية، سواء منها التي تشخص بنية الشخصية كالرورشاخ (Test Rorschach)، أو تلك التي تدرس طبيعة العلاقات التفاعلية التي ينسجها الفرد مع الآخرين، كاختبار تفهم الموضوع (Children Apperception Test).
أما فيما يخص عينة البحث، فتتكون من ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين سن السادسة والثالثة عشرة، تمت دراسة حالاتهم خلال سنة كاملة، بالجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة بمدينة الرباط، وبالموازاة مع الدراسة التشخيصية والتحليلية لمشكلاتهم النفسية، اعتمدت برنامجاً علاجياً.
وتتناول هذه الدراسة، نوعاً محدداً من الانعكاسات السلبية للحرمان العاطفي على أطفال الطلاق، وهي الاضطرابات النفسية العضوية.
دراسة حالة نموذجية
التعريف بالحالة: أ. المجتمع : فتى يبلغ من العمر ثلاث عشرة سنة، ينحدر من أسرة فقيرة مكونة من أب يعمل خادماً لدى أسرة غنية، وأم ربة بيت. انفصل والدا الصبي وهو ابن سنتين، والسبب في ذلك راجع إلى إهمال أبيه لمسؤولياته العائلية بعد أن طرد من عمله لإدمانه المزمن على شرب الخمر.
بعد الطلاق، استقرت الأم برفقة ابنها في منزل والديها، واضطرت للعمل خارج البيت حتى توفر ضروريات الحياة، لكنها لم تتمكن من الاستمرار في رعاية طفلها، لذلك تركته في بيت جديه وعمره آنذاك عشر سنوات، لتتزوج برجل مسن يملك ثروة لا بأس بها.
بعد مرور سنة على زواج الأم، ظهرت على الطفل اضطرا بات جلدية (Eczma) في عدة مناطق من جسمه، ولم يتماثل هذا العرض المرضي للشفاء، رغم خضوع الحالة للعلاج بالأدوية لفترة تجاوزت ستة أشهر.
ولوحظ أن أ. المجتمع يتميز بشراهة مرضية عند تناول الأغذية (Boulimie)، وقد علق على هذا الاضطراب بقوله: "إن كثرة الأكل تملأ بطني وتشعرني بالسعادة".
بالموازاة مع هذا الاضطراب النفسي العضوي، لوحظ تشبث الطفل بممارسة بعض العادات التي تنتمي إلى المرحلة الرضيعية، كمصّ الأصبع "إبهام يده اليمنى" رغم أنه بلغ من العمر13سنة.
تحليل الحالة
خلال السنتين الأوليين من عمره، عانى الطفل من حرمان مادي ومعنوي، ناتج عن إهمال الأب لمسؤولياته تجاه الزوجة والابن بسبب تعاطيه الخمر، وقد أدى هذا العامل إلى اهتزاز الاستقرار العائلي بشكل تدريجي، فقد أثر أولاً على التوازن النفسي للأم، ثم انتقل هذا الاضطراب من خلالها إلى الابن، وقد بين علماء النفس في هذا الإطار أن الطفل في مرحلة الرضاعة، لا يكتفي بالغذاء البيولوجي المتمثل في حليب أمه، بل يتشرب أيضاً الإيماءات الرقيقة والمشاعر الدافئة التي تبدو على وجهها وهي تداعبه أثناء الرضاعة.
إن غياب هذا الغذاء النفسي، هو ما أفسد على الحالة المدروسة شهية الأكل، فالطفل يمتص الحليب من ثدي أمه ثم يتقيؤه، لعدم شعوره بالعطف والحنان المصاحبان لعملية الإرضاع البيولوجي، وحرمانه العاطفي هذا ناجم عن التوتر النفسي الذي عانت منه الأم من جراء المشكلات التي عاشتها في علاقتها بالأب.
إن شدة المشاعر السلبية التي تلقاها الطفل من أمه، جعلته لا يكتفي بتفريغ هذه الانفعالات عبر الاضطرابات الغذائية "التقيؤ"، بل تجاوزها إلى تعابير نفسية عضوية أخرى، مثل اضطرابات النوم، مما يدل على أنه كان يشعر بالفقدان التام للطمأنينة والسكينة النفسية، في ظل أجواء أسرية ملبدة بسحب المشكلات الزوجية.
بعد انفصال الوالدين، عانى الطفل من نوع آخر من الحرمان لمدة ثماني سنوات، وهو افتقاده لأمه بسبب غيابها عن البيت وتركيزها على كسب لقمة العيش، وهذا ما يفسر لماذا كان أ. المجتمع يتناول الأغذية بشراهة غير عادية. فحسب الدراسات النفسية المنجزة حول موضوع الاضطرابات الغذائية، تبين أن الطفل يملأ بطنه بالأكل ليعوض الشعور المؤلم بالفراغ العاطفي الذي يعاني منه، وهذا ما يبين من جهة معنى قوله: "إن كثرة الأكل تملأ بطني وتشعرني بالسعادة"، ويوضح من جهة أخرى العلة في الاختيار اللاشعوري للاضطرابات الغذائية، كوسيلة للتعبير عن توتراته النفسية لارتباطها بالفم، وهو مصدر إشباع الحاجات البيولوجية بامتياز في مرحلة طفولته الأولى، التي ذاق فيها أقصى مظاهر الحرمان وهو رضيع.
مما سبق يتجلى أيضاً السر في عدم تخلص الطفل من عادة مصّ الأصبع، رغم بلوغه سن الثالثة عشرة؛ لأن تعاقب مظاهر الحرمان التي عاشها دون أن يفهمها، أدى إلى تراكم هذه التجارب المؤلمة، لتشكل حواجز نفسية منعته من تحقيق نموه النفسي بالموازاة مع نموه الجسمي، فكان أكثر قرباً من التعبير بلغة جسدية سطحية، وأكثر بعداً عن تفريغ انفعالاته في قالب لغوي منطوق، يساعده على فهم معاناته وبالتالي تجاوزها.
إضافة لكل هذا، فقد تعمق شعور الطفل بالحرمان العاطفي لاضطراب صلته بأمه بعد زواجها الثاني، مما انعكس عليه في شكل أعراض جلدية(Eczema) لقد أكد الخبراء في مجال العلاقة الثنائية بين الطفل وأمه، أن الرعاية النفسية الأمومية تكسب الطفل قوة نفسية تعزز مناعته الجسمية ضد الأمراض العضوية، لكن الطفل موضوع الدراسة، ونظراً لضعف تنشئته الاجتماعية التي تلقاها، اختل توازنه النفسي فصارت مناعته الجسمية عموماً والجلدية خصوصاً، هشة ومعرّضة للإصابة بالاضطرابات النفسية والعضوية.
نتائج البرنامج العلاجي
في المشروع العلاجي لحالة أ.م، تم التركيز على ثلاثة أهداف رئيسة:
أولاً: تدريب الطفل على استعمال وسائل تعبيرية سوية عن معاناته النفسية، كالتعبير الشفوي "الحوار" والتعبير الرمزي "الرسم"، حتى يتخلص تدريجياً من التعابير المرضية التي تعود عليها.
ثانياً: تم تتبع الحالة، بتنظيم زيارات تجمع الأم بطفلها في فضاء الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية غير مستقرة، لإذابة التوتر الذي خيم على العلاقة بينهما منذ زواجها الثاني.
ثالثاً: حاولنا إدماج الطفل في بيت زوج أمه، بعد إقناع هذا الأخير بالظروف النفسية التي مر بها، ليساهم بدوره كبديل للأب في إنجاح البرنامج العلاجي.
إن هذه المجهودات العلاجية، لم تؤدِّ إلى شفاء الطفل من الاضطرابات النفسية العضوية التي يعاني منها، لكنها مكنت على الأقل من التخفيف من حدتها.
توصيات الدراسة
على المتزوجين والشباب المقبل على الزواج زيادة ثقافتهم الدينية والنفسية المرتبطة بشؤون الأسرة، حتى يعبدوا الله على علم في حياتهم الأسرية.
ينبغي للمؤسسات المهتمة بالشأن التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية، عقد دورات تكوينية للشباب، لا تكتفي فيها ببيان الشروط الشرعية والنفسية الضرورية لنجاح مشروع بناء الأسرة المسلمة، بل تعرض بالإضافة إلى ذلك تجارب واقعية سواء الناجحة منها والفاشلة على وجه الخصوص وتطرحها للنقاش؛ لأن التجربة الصحيحة تتحقق بالاستفادة من التجارب الخاطئة.
تنظيم حملات إعلامية لتوعية الشباب غير المتزوج بأهمية الإقبال على التكوين المؤهل للزواج، وإشعار المتزوجين بضرورة التكوين المستمر لضمان استمرارية وحدة الأسرة.
إنشاء مراكز نفسية واجتماعية متخصصة في علاج المشكلات الأسرية.
اجتهاد الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين في نشر ثقافة نفسية أصيلة داخل المجتمع، تهدف إلى تقوية وحدة الأسرة.
استحداث وحدات للبحث خاصة بالأسرة في0المجتمع
