
يعد ابن الرومي احد أعلام الشعر العربي، وقد عرف بغزارة شعرهوإبداعه في كل غرض
ولون، فقد أجاد الوصف والتصوير، وبرع في الهجاء، وفاق بذلك كثيرمن معاصريه ، ورثى
أبناءه وغير أبنائه رثاء يعكس اصدق آلام النفس وأعمقها وكان اقدرشعراء عصره على
العتاب بأسلوبه العميق ولا يماثله احد في التحليل النفسي وتصويرالمجتمع.
هو أول شاعر تحدث بالتفصيل عن أنواع الفاكهة فوصف العنب والمشمشوالرمان وأول
شاعر تناول المآكل بالتفصيل فوصف السمك والبيض والدجاج واللوزوالقطا يف والزلابية
وأول شاعر وصف الحياة والناس، فصور الأحدب والأصلع والثقيلوالمتكبر وصاحب الوجه
الطويل واللحية الكثة والأنف الضخم والخباز وقالي الزلابيةوالأغنياء المزيفين ومحدثي
النعمة الجهلة كما جسم الأزهار والإثمار وعبر عن كل شكلمن إشكال الطبيعة وكل حركة
تدب فيها
ميلاده ونشأته:وُلد علي بنالعباس بن جريج، المعروف بابن الرومي، ببغداد في (27 من جمادى الأولى 221 هـ = 19
من مايو 836م)، وكان جده "جريج" من أصل رومي، وكان مولى لعبد الله بن عيسى بن جعفربن
المنصور العباسي.
أما أمه فقد كانت فارسية، وهو ما جعله في فخره يدّعي نسبهإلى ملوكهم والساسانيين حيثما يفتخر بأصوله
وخؤوله من الفرس، كما كان يفتخر بنسبهالرومي، وينسب نفسه إلى اليونان كثيرا في شعره.
وكان أبوه ميسور الحال، وهو ماهيأ له أن يتجه إلى التعليم وهو في سن صغيرة، فالتحق ببعض الكتاتيب
ليحفظ القرآنالكريم ويتلقى شيئا من علوم النحو واللغة والأدب والحساب، وأبدى شغفا بالعلموالمعرفة منذ
حداثة سنه، وكان مثالا نادرا للحفظ والاستيعاب. إلا أن المآسيوالتعاسة لازمتاه طوال حياته ويتضح
أثرهما في شعره، كقوله:
أنا ذاك الـذيسقته يـد السقم كــؤوسـا مــن المـرار رواءورأيت الحِمام في الصّور الشنع وكانتلولا القضاء قضاءورمــاه الزمـان في شقّة النفس فأصمي فـؤادهإصماءفالشاعر فقد والده باكراً فكفله أخوه الوحيد (محمد) ومن بعد وفاةأباه فقد خاله الذي كان صديقه وثقته، ثم
فجع بأمه وأخيه محمد. ورث ضيعة ودارين فيبغداد. تزّوج في سن متأخرة، ورزق ثلاثة من الذكور
تخطّفهم الموت الواحد تلو الآخروهم صغاراً وما لبثت الزوجة أن لحقت بالأولاد. فغدا يرثيهم. أما أراضيه
(الضيعةالتي ورثها) فأتلفتها الحريق وأُجبر على بيع داره.
صفاتهوأخلاقه:
برغم ما تميز به ابن الرومي من الذكاء والفطنة والأدب ألا إنه كان شاحباللون، ضئيل البنية، معتل
البدن، دميم الوجه، قبيح الملامح فلا ينبئ مظهره عن حقيقةجوهره وشاعريته الفذة، ومع ذلك فقد كان ابن
الرومي مدركًا لتلك العبقرية الفذةوالشاعرية الفياضة التي حباه الله بها، فكان كثير الفخر بشاعريته وسعة
علومه،وتبحره في العلوم والفلسفة. فضلا عن تطلعه من اللغة العربية كما يتبين من المفرداتالتي
يستخدمها
وقد اتخذ من قبح مظهره ودمامة ملامحه دعابة وسخرية من نفسه،فيقول:
يصلح وجهي إلا لـذي ورع شغفت بالخدر الحسان وماولا يشهد فيها مساجدالجمع كي يعبد الله في الفــلاة
وعرف ابن الرومي بتطيره وتشاؤمه، ولعله كانيبالغ في ذلك ليتجنب الخروج من منزله و المجالس التي
لا يرغب في حضورها، حتى إنهكان يلزم داره أياما كثيرة، وقد اشتهر بذلك حتى غدا أكبر شاعر متطير
في عصره، وهناكالعديد من الروايات والأخبار التي تروي ذلك.
المدح في شعره:
من الطبيعي أنيمدح الشاعر الخلفاء والوزراء والأمراء كما شاع في عصره و قد عاش مع الخلفاء
: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد ولكنه لميمدح غير
المتوكل ومع هذا عجز في الحصول على مكانة في نفس الخليفة وسائر الأمراءلأنه كان غريب الأطوار
ومجلبة للنحس كما كان يظن هو نفسه ويظن به معاصروه.
وهويقول في إساءة الممدوحين معاملته و ردهم قصائده إليه لأنها غير صالحة أو في تمنعهمعن بذل العطايا له:
قد بلينا في دهرنا بملوكأدباء علمتهم شعراءإن أجدنافي مدحهم حسدونافحرمنا منهم ثواب الثناءأو أسأنا في مدحهم انبوناوهجوشعرنا اشد الهجاء
الهجاء:
من نادر شعره الساخر،وهو في قمة الروعة، والغرابةفي المعنى، والبراعة في دقة الملاحظة والوصف،
شعره الذي قاله في الأحدب الذي كانيطالعه، قريباً من منزله، في معظم الأحيان، فتطير الشاعر منه.
ويقول فيه:
قصرتْأخادعُه وغارَ قذالُه فكأنّه متربّصٌ أنْ يُصفعاوكـأنّما صُفعتْ قفاه مـرّةًفـأحسَّ ثانيةً لها فتجمّعا*
الرثاء :
نظم ابن الرومي أروع الرثاء وأندره،وأجوده، وأصدقه عاطفة والتعبير عن نفسه، وأرقّه عبارة، وأشده
حزنا.
رثاء ابنالرومي لابنه محمد يشهد بقدرته على صياغة الأحاسيس الصادقة والتعبير عن لوعة
الأسى.فيقول:
وآنست من أفعالهآية الرشد على حين شمت الخير من لماحتهولا قبلة أحلى مذاقا من الشهد كأني مااسـتمتعت منك بنظـرةولا شمة في ملعب لك أو مهد* كأني ما اسـتمتعت منكبضـمة
الطعام:
عرف عن ابن الرومي نهمه وشدة شهوته إلى الطعام والحلوىوالثمار وكثر في شعره وصف الأطعمة
والأشربة من كل لون وصنف، كما يصف الطهاةوالخبازين وصنعتهم. ومن أبدع الوصف ونادره جودة
وبراعة، وصفه الخباز الذي مرَّ بهيبسط الرقاق بيديه بمهارة، وكان ابن الرومي يقول: انظروا إذا
وصفت، أين يقع الناسكلهم مني، وهل أحد قط أملح من قولي في صفة الرقاقة:
يدحو الرقاقة وشك اللمحبالبصر ما أنس لا أنس خبازا مررت بهوبيـن رؤيتهـا زهـراء كالقمر ما بين رؤيتهـافي كفـه كـرةفي صفحة الماء يُرمَى فيه بالحجر* إلا بمقـدار مـا تنـداحدائـرة
ولشدة نهم ابن الرومي، وإعجابه بأطايب الطعام والفاكهة، فإن الموز فيشعره حيزاً لا ينكر، يدل على
ذلك قوله فيه، وهو من نادر الشعر:
ليس بمعدود ولامحسوب للموز إحسان بلا ذنوبيـدفعه البلع إلى القـلوب* يكاد من موقعهالمحبوب
وتوفي ابن الرومي في (28 جمادى الأولى 283 هـ / 13 يوليو 896م) عن عمربلغ نحو ستين عاما،
وقيل: إن "القاسم بن عبيد الله" دسّ له السُمّ في طعام قدّمهإليه، فلما أحس بالسم في بطنه نهض مسرعا،
فقال له القاسم: إلى أين؟ فأجابه إلى حيثأرسلتني. فقال له متهكما: سلّم على والدي عبيد الله. فأجابه: ما
طريقي علىالنار!
الديواننموذج من شعره يعاتب صديقاًلهْ:
كان ابن الرومي صديقاً لأبي القاسم التوزيِّ، أحد مشاهير عصره في لعبةالشطرنج، حدث بينهما خلاف
فأنشأ قصيدة طويلة يعاتب فيها أبا القاسم، منها هذهالأبيات:
( ا)يا أخي، أين عَهدُ ذاكَ الإخاءِ؟ أين ما كان بيننا منصفاءِ؟كَشَفتْ منكَ حــاجتي هَنــَوات غُطِّيتْ بُرْهَة ً بـِحُسْن اللقاءِتركتني ولم أكــُنْ سَيِّئَ الـظــ ــَّنِّ أُسئُ الظنونَ بالأصدقاءِياأخي، هَبْكَ لم تهب لي من سعـــيكَ حظّاً كسائرِ البُخَلاءِأّفــلاَ كــانَمــنْكَ رَدٌّ جَمـيلٌ فـيه للنفسِ رَاحـة مـِنْ عـَنَاءِ؟يا أبا القاسمِ الذيكُنْت أرجوهُ لِدَهْرِي قَطَعْتَ مَتْنَالـرجاءِ(ب(رُبــَّمَا هـَالَنـيوَحـَيــَّرَ أمـْرِى أخـذُكَ الــلاَّعبِينَ بـالبَأْسـَاءِواحتراسُ الدُّهاةمنك وإِعصا فــُك بـالأقـويـاءِ والضـعفاءِغَلِطَ الناسُ لستَ تَلْعَبُ بالشِّطرَنـــجِ، لكن بـأَنـفُسِ الـلُّعَباءِلَكَ مَكْر يَدبُّ في القوم أخْفَى مندَبيب الغِناء في الأعضاءِتَقتلُ (الشاهَ) حيثُ شئتَ مـن الـرُّقـــعة طَبّاًبالقِتْلَةِ النَّكراءِغَيْرَ ما ناظرٍ بعينيكَ في الدّسْــ ـــتِ، ولامُقْبِلٍعلى الرُّسَلاءِ)ج(أنْتَ أدْوَيْتَ صَدْرَ خِلِّك فَاعذرْه على النَّفْث. إِنَّهُ كالدَّواءِقَدْ قَضَيْنَا لُبانَةً من عِتَاب وجَميِلٌ تَعَاتُبُالأكفاءِشرح الأبيات:
( أ )1- يعاتب الشاعرُ صديقَه على تَنَكُّره له،وعدم قيامهِ بما تقضِى به واجبات الصداقة:
1. فيتساءَل متحسراً: اين عهد الإخاءالذي كان يربط بين قلوبنا؟ وأين أيام الصفاء التي نعمنا بها حينا؟ لقد انقضى ذلككله.
2 ، 3 كانت بي حاجة إليك، وكنت آمل أن يتحقق على يدكن ولكن هذه الحاجة كشفتعن حقيقة نفسك التي كانت تختفي تحت ستار من البشاشة الخدَّاعة. وقد نالت هذه الصدمةمن نفسي، فجعلتني مع حسن ظَنِّي بالناس أُسِئُ الظن حتى بالأَصدقاءِ.
4 ، 5. وإذاكانت هِمَّتُك قد قَصُرت بك عن الاستجابة إلى ما طلبت،شأن البخلاء الذين يضنون علىالناس بما يملكون- أفما كان يجدر بك أن تردَّ ردّاً جميلا يريح النفس، ويُجَنِّبُهاالشعور بالخيبة؟
6 - لقد كنت الصديق الذي أدَّخرهُ لدهري، واستعين به على نوائبالأيام، ولكنك بدَّدت الأمل، وقطعت كل رجاء.
الأبيات تفيض بشعور المرارةلموقف أبي القاسم، إلى جانب هذا الشعور العاتب، صراحة الصديق لصديقه، حين يعملجاهداً على بقاء الصداقة، وانقاذها بالمصارحة والمكاشفة.
والصور في الأبياتقليلة، لكنها معبرة عن مرارة العتاب وقسوته، كقوله في البيت الثاني: (كشفت منكحاجتي هنوات) فيه استعارة مكنية شخصت هذه الهنوات وجعلتها تطل بمرآها القبيح وتظهرللعيان، بعد أن كانت خفية تسترها البشاشة الكاذبة.
وقوله في البيت السادس: (قطعتمتن الرجاء) استعارة مكنية خَيَّلَت للرجاء متنا يقصمه إخلاف الموعد، وفيه تصويرلخيبة امل الشاعر.
وألفاظ الابيات عذبة رقيقة، وعباراتها لينة سلسلة، ويظهر فيبعضها الطباق النابع من الموقف المتناقض الذي واجه الشاعرمثل: كشفت – غطيت. لمأكن سيئ الظن – أسئ الظن. راحة- عناء.
كما يتكرر اسلوب الاستفهام : يحمل فيالبيت الأول معنى المرارة والعتاب والتحسر، ويحمل في البيت الخامس معنى السخطوالإنكار.
( ب )ينتقل الشاعر في هذه الأبيات إلى الحديث عن براعةصديقه في لعبة الشطرنج، دهِشاً من أنه يتورط في هذه السقطة مع ذكائه. يقول:
7 ، 8. إنه لممَّا يحيرني، ويأخذ بلُبِّي، أنّك تتغلب في قوة مذهلة على كل من ينافسكعلى الشطرنج برغم احتراس الدهاة منك، وأن الأقوياء والضعفاء أمام اكتساحك لهمسواءٌ.
9 ، 10. لقد أخطأ من وصفك بأنّك لاعب شطرنج، فما أنت في الحقيقة إلا لاعببالنفوس، تحرك مشاعر منافسيك كيف تشاء، بين يأس ورجاءٍ وأنَّ لديك من الدهاءِ فوقما لهم منه، ومن المكر ما يسري إلى عقولهم في خفاءٍ يُذهلها، مثلما تسري نشوةُالغناءِ في النفوس، فتشغلها عن كل شئٍ.
11 ،12. فأنت تصرع (الشاه) في أي وقت،وفي أي موقع شئت من رقعة الشطرنج، خبيراً بالضربة القاضية التي لا قياممنها.
وقد بلغت بك براعتك أنك تلعب ولا تنظر إلى الرقعة، ولا تُقبٍلُ علىمنافسيك؛ لأنَّ لك من الثقة بنفسك ما يجعلك غير مكترث بهم.
ينتقل الشاعر إلىلعبة الشطرنج انتقالة مفاجئة، ولكنه في قرارة نفسه يرى تناقضا بين مقدرته العقليةالفذة في هذه اللعبة، وخطئه الغريب في معاملة صديقه.
ومن الصور التي عبَّرت عنمهارة صديق الشاعر قوله في البيت الثامن: (وإعصافك بالأقوياء والضعفاء) وفيهاستعارة تصريحية في كلمة (إعصافك) جعلت هجومه كاندفاع العاصفة التي تجتاح في طريقهاكل شئٍ.
وقوله في البيت العاشر (لك مكر يدب في القوم أخفى) فيه تشبيه جعل المكريؤثر في القوم كتأثير الغناء في النفوس، وان كان أخفى من ذلك.
وفي قوله (تقتلالشاه) في البيت الحادي عشر استعارة مكنية شخَّصت قطعة الشطرنج، وجعلت لها حياةتنتهي على يدي أبي القاسم حين يشاء.
وفي قوله: (غير ما ناظر بعينيك في الدست) كناية عن الثقة بالنفس وعدم المبالاة بخطط اللاعبين.
والألفاظ واضحة المعاني،دقيقة في مواضعها غاية الدقة، الى جانب ذلك هي موحية بالشعور في كثير من المواطن،ومن ذلك: (هالني – أخذك اللاعبين – طبّاً – النكراءِ)( ج )
يعود الشاعر، بعدالحديث عن الشطرنج، إلى موقف العتاب الذي استولى على نفسه فيقول:
13 ، 14. لقدملأت نفسي بالأسى، فكان لابد أن تنفِّس عما بها بالنفث، فمعذرة، فإن الإفضاء بمايُمِضُّ النفس شفاءٌ لها.
ولعلِّي بهذا أكون قد أرحت نفسي، وبلغت الغاية التييحققها العتب الجميل بين الأصدقاء.
والشاعر في هذين البيتين يجنح إلى الهدوءوالتلطفن ويفتح باب الأمل لعودة الصفاء بينه وبين صديقه.
والاسلوب الخبري يميلإلى التقرير، ويشير بحالة الرضا والراحة بعد الإفضاء بما كان في النفس.
والصورةفي قوله: (فاعذره على النفث،إنه كالدواء) تشبيه صادق من الناحية النفسية، لان النفثكثيرا ما يخفف الغيظ المكظوم.
وكان الشاعر دقيقا في قوله: (لُبانة)؛ فهي توحيبأنه كان يتطلع إلى بثِّ ما في نفسه من شجن.
التعليق:
· يتميز الشاعر بحدة الحس، والمقدرة على استقصاءافكاره ومعانيه، فهو إذا عرض لفكرة تناولها من كل جوانبها.
· يُجَسِّمُالمعنويات، كهنوات، والرجاء.
· أنه ذو خيال بارع، يجعل افكاره صورا مُحَسَّة لهاتأثيرها في النفوس.
· ألفاظه عذبة سائغة، وهي في الوقت نفسه دقيقة غاية الدقةنوعباراته تتدفق في سلاسة مع مقدرة على الاداء البارع والايحاءوالتأثير.