رائحة الذنوب

    • رائحة الذنوب

      رائحة الذنوووبهذه القصةليست ضرباً من الخيال، ولكنها قصة واقعية لعل في أبعادها وقفة نقف بها مع أنفسنافبطلها قريب ليس ببعيد... فقد كان هذا الرجل مريضاً بمرض لم يُعرف له علاج لأكثر منعشر سنوات، فكلما جلس في مكان قال له الناس: "رائحتك كريهة"... ألاتستحم؟!
      فبرغم أنه يتردد على الحمام عدة مرات، ويغتسل بأغلى العطور.. إلاّ أنهذه الوسائل لم تُجْدِ معه شيئاً، فلا يكاد يخرج إلى الناس حتى يتحول إلى نتن يهربمنه الصديق قبل العدو..
      فتردد على الأطباء ليفحص الأنف والجيوب والحلق والأسنانواللثة، والأمعاء.. وكانت النتيجة: لا مرض ولا سبب عضوياً لهذه الرائحةالكريهة.
      وشاء الله أن يذهب في رحلة عمل مع رجل صالح فحكى له حكايته فقال له ذلكالرجل الصالح:
      -
      هذه ليست رائحة جسدك.. ولكن رائحة أعمالك؛ فتعجب صاحبنا قائلاً: وهل للأعمال رائحة؟!!!
      فقال له الرجل: يبدو أن الله أحبك وأراد لك الخير، وأحبأن يمهّد لك الطريق للتوبة.
      فقال له: والله إن حياتي مليئة بكل شيء، فأنا أختلسوأزني وأسكر وآكل الربا وأقارف المنكرات.
      فقال الرجل: أرأيت.. فهذه رائحةأعمالك.
      فقال له: ولكن ما الحل؟!
      قال الرجل: الحل واضح، أن تصلح أعمالك وتتوبإلى الله توبة نصوحى.
      ولأن الله تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه ويسّرطريقه، فقد تاب الرجل حقاً وأقلع عن كل المنكرات.. ولكن بقيت الرائحة كما هي.. فعادإلى صاحبه: مرة أخرى ولكن في هذه المرة يبكي إليه فقال له صاحبه: لقد أصلحت أعمالكالحاضرة.. أما أعمالك الماضية فقد أصابت منك مقتلاً... ولا خلاص إلا بمغفرة.
      فقال له: وكيف السبيل إلى المغفرة.
      فقال له: نعم لقد أقلعت عن المعاصي، ولكنلا بد من الندم على ما فات وعلى ما فرّطت في سالف الوقت. ثم اعلم أن الحسنات يُذهبنالسيئات فتصدق وحج البيت حجاً مبروراً فالحج يخرج صاحبه من الذنوب كيوم ولدته أمه،واسجد لله.. وابكِ خطيئتك.
      ...
      وتصدق الرجل وخرج إلى الحج وبكى أياماً مضت وسنينخلت... وظل حاله على ما هو عليه تعافه حتى الهوام.. فخلد إلى نفسه يعاتبها تارةويحاسبها أخرى حتى غشيته حالة من الانكسار لله والتذلل له والندم علىحياته.
      فأجهش بالبكاء حتى لا يكاد يُعرف صوته فجاءه صديقه قائلاً: هل تبكي علىخطيئتك ومعصيتك، أم إنك تبكي القدر وتتهم العدالة الإلهية في حظك؟.. فهل ترى أنالله كان عادلاً في حقك؟!
      فقال له: لا أفهم ما تقول؟فقال الرجل: إن عدل اللهأصبح محل شبهة عندك.. فقلبت الموازين فجعلت الله مذنباً وتصورت نفسك بريئاً.. وبهذاكنت تزيد إلى الذنوب ذنوباً، في الوقت الذي ظننت فيه أنك تحسن العمل.
      فقال له: ولكني أشعر أني مظلوم!!!
      فقال الرجل: لو اطلعت على الغيب لوجدت نفسك تستحقعذاباً أكبر، ولعرفت أن الله الذي ابتلاك رحيم لطيف بك... ولكنك اعترضت على ما تجهلواتهمت ربك بالظلم.. فاستغفر وطهر قلبك وأسلم وجهك.. فإنك بالرغم من صلاتك وصومكوتوبتك وحجك لم تُسلم بعد.
      فقال له: كيف.. ألستُ مسلماً؟!
      فقال الرجل: نعم،الإسلام هو الاستسلام قبل كل شيء... ولا يكون ذلك إلا بالقبول وعدم الاعتراضوالاسترسال لله في مقاديره، وعندما يستوي عندك المنع والعطاء، وعندما ترى حكمة اللهورحمته في منعه كما تراها في عطائه، فلا تغترّ بنعمة، ولا تعترض على حرمان.. فعدلالله واحد في جميع الأحوال... عندها قل "لا إله إلا الله".. ثم استقم..
      فقال له: ولكني أقول "لا إله إلا الله"... في كل وقت.
      فقال الرجل: نعم، تقولها بلسانك.. ولا تقولها بقلبك ولا تقولها بموقفك وعملك.
      فقال له: كيف؟!
      فقال الرجل: إنكتناقش الله وكأنك إلاه مثله، وتحاسبه وكأنك نِدّ له فتقول: استغفرت فلم تغفر لي. سجدت فلم ترحمني... بكيت فلم.. ... صليت فلم.. حججت فلم..
      ثم أخذ صاحبه بيدهوقال: يا أخي هذا ليس توحيداً.. التوحيد أن تكون إرادة الله هي عين ما تهوى، وفعلهعين ما تحب...
      التوحيد هي أن تقول: نعم لهذا الدين وتصدع بما تؤمر ... وتُعرضعن المشركين.. لأن "لا إله إلا الله" تعني أنه هو الوجود.. وأنت العدم، فلا عادلولا رحيم ولا حق سواه... عندها، عندها فقط يسجد قلبك قبل جسدك ويحمد فؤادك قبللسانك..
      عندها فقط الزم....... الآن وقد عرفت فالزم وقل "لا إله إله الله".. ثماستقم.
      فبكى الرجل ثم بكى ثم بكى ثم بكى...
      وقال: "لا إله إلا الله" فتضوّعالياسمين... وانتشر العطر وملأ العبير الأجواء.. من رائحة ذلك الرجل وتلفت واصبحالناس يقولون: مَن هناك ؟ مَنْ ذلك الملَك؟فقال الرجل: بل هو رجل تاب الىالله...