مقدمة الحق الدامغ
المقدمة
الحمد لله الذي اصطفى لعباده الدين فوحَّد به بين فئات المؤمنين ، وألَّف بنظامه بين قلوب المخلصين ، سبحانه هو الواحد في ذاته المتقدس في صفاته المتعالي في كبريائه ، الخالق لما في أرضه وسمائه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}1، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وُهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}2 ، الصادق في الوعد والوعيد ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقِّب لحكمه ولا تبديل لكلماته ، ولا إخلاف في ميعاده ، أحمده حمد من آمن بجلاله واعترف بكماله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {لَهُ الحَمْدُ في الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}3، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وصفوته من رسله ، أرسله بأصدق البينات وأظهر الآيات وأبهر المعجزات فأكمل به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين ، صلى الله وسلم تسليماً عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد:
فإن التباين في أحوال الناس سمة من سمات البشر المعهودة ، فلذلك تجدهم متفاوتين في المدارك ، مختلفين في المشارب ، متعاكسين في الأحاسيس ، وإلى ذلك يرجع تعدد مذاهبهم في الأمر الواحد ، وتباين تصوراتهم في القضية الواحدة {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}4، وكثيراً ما تتأصل الحَمِيَّةُ في نفوسهم فلا تلبث مع استمرار الوقت وعوامل الزمن أن تتحول إلى عقيدة راسخة مستحكِمة في العقل والوجدان ، مستعصية على الحجة والبرهان ، لا تتزعزع لمحرك ، ولا تنقاد لداع .
ولذلك كانت دعوات المرسلين عليهم السلام تستفرغ منهم الجهد الجهيد ، وتستغرق منهم الوقت الطويل ، وتظل مع ذلك أفكار أكثر الناس سادِرَة في غيِّها ، غارقة في عَمَاها ، لا تصغى إلى الحجج الصادعة ، ولا تتفتح على المعجزات الساطعة ، بل كلما ازدادت الحجة بياناً ، والمعجزة ظهوراً ، كانوا أشد تصامماً وتعامياً ، وأوغل في العناد والشقاق .
وقد ابتليت كل أمة بالإفتراق فيما بينها والإنشقاق على نفسها ، ولم تَسْلَم من ذلك أمة حتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختصت بمَبْعَث أعظم رسول إليها ، وإنزال أجلّ كتاب عليها ، وحُذِّرت أيما تحذير من الإفتراق ودواعيه ، وبُيِّنَت لها عاقبته السيئة في محكم آيات الكتاب الذي اختصت به ، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}5 ، وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البَيَّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}6، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}7، وقال لنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْء}8، فإنها مع ذلك كله لم تسلم من هذا الدَّاء العُضال الذي أصاب غيرها من الأمم ، غير أن الله سبحانه اختصها بأن حَفِظَ لها كتابها المُنَزَّل عليها من تحريف العابثين وتبديل المناوئين تحقيقاً لوعده الصادق {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}9، ومَكَّنَ لها من معرفة الصحيح الثابت من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وجعل لها مَخْلَصاً من الشقاق والنزاع بالإحتكام إلى الله ورسوله حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}10ولا يكون الإحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه فتُسْتَلْهَم منه الحقيقة ويُسْتَبان به الحق ، وكذلك الإحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا بالرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة .
ومع وجود هذا المَخْلص الذي أُمرنا بأن نَفْزَع إليه من كوارث الإختلاف فإن الخِلاف لم يزل ، والشقاق لم يُسْتَأصَل ، فقد تُؤُوِّل الكتاب تأولات شتى لم تُسْتَمَد إلا من الوهم ، ولم تُستلهم إلا من الهوى ، كما أن للناس مواقف متعددة في معرفة الصحيح من غيره من سنته عليه أفضل الصلاة والسلام ، وفي معرفة نفس مقاصد السنة الثابتة باتفاق الجميع ، ومن هنا نشأ ما نراه بين الأمة من خلاف ونزاع في أصول الدين وفروعه .
وإن أعظمه ضرراً ، وأفدحه خطراً ، وأعمقه أثراً ، وأسوأه عاقبة ما كان في أصول الدين ، فإنها قواعد الإسلام ؛ بها تقوم أركانه ، وعليها يُشاد بنيانه ، وبقدر ما تكون قوتها تكون متانة الدين نفسه ، ولأجل ذلك فإن الأمة كثيراً ما تتسامح في الخلاف الذي يكون بين فئاتها في فروع الشريعة ، ولكن يشتد شقاقها ، ويتعمق نزاعها عندما تختلف في الأصول ، وبقدر ما يكون من التقارب أو التباعد فيها بين طائفة وأخرى بقدر ما بينهما من التلاقي أو الإفتراق ،
وما مصدر ما حدث ويحدث بين طوائف الأمة من التراشق بالتُّهَم والتنابُز بالألقاب ، والترامي بالأحكام القاسية إلا الإختلاف في أصول دينها ، والتباين في منازع استنادها في معتقداتها بين الإفراط والتفريط في التعويل على النقل أو العقل .
وليس هذا النزاع في أصول الدين مع وحدة المصدر الذي تَنْهَل منه العقول المتنازعة إلا نتيجة لتباين المدارك واختلاف التصورات عند أئمة الفرق ، ثم يؤصله تعصب الجماهير لأقوال أئمتهم بحيث تجعل كلُّ طائفة قولَ إمامها أصلاً تُطوِّع له الأدلة المخالفة له بكل ما تخترعه من التأويلات المتكلفة ، فتوزعت الأمة شيعاً وأحزابا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}11
ولستُ أبالغ إن قلتُ إن الإباضية - أهل الحق والاستقامة - تمتاز عقيدتهم وتتسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور :
سلامة المَنْزَع ، فإنهم جمعوا في الإستدلال على صحة معتقداتهم بين صحيح النقل وصريح العقل ، فلم يضربوا بالنصوص الصحيحة عرض الحائط بمجرد تعارضها مع مقتضيات العقل بادي الرأي كما هو شأن أصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس ، وأصح وأثبت مما جاء به النبييون عن الله عز وجل ، فعَوَّلُوا عليه في التحسين والتقبيح ، والتعليل والحكم ، كما أنهم لم يُطفئوا شُعلة العقل مستأسرين لظواهر الألفاظ غير مسترشدين به في استكشاف أبعاد معانيها ، والغوص على حقائق مراميها ، كما هو شأن عَبَدَة الألفاظ الذين لا يأخذون من النَّص إلا قُشوره ، لا يتجاوزون شكله إلى جوهره ، ولا يتعدون ظاهره إلى مضمونه ، بل استمسكوا بالعُرَى الوثقى من النصوص ، واتخذوا من العقل السليم دليلاً على فهم مقاصدها ، ومن الأساليب اللغوية شراكاً لاقتناص شواردها ، ولا غَرْوَ فَهُم منطلقون في ذلك من مراشد القرآن نفسه ، فكم تجد فيه {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} و {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} و {لأُولِي الأَلْبَابِ} كما تجد فيه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}12 ، فهو وإن سما فوق بلاغة بلغاء العرب والعجم لم يخرج عن كونه عربي اللسان والأسلوب ، وقد يسره الله للذكر بتفهم آياته واستجلاء مقاصده ، واستلهام مراشده
-1
عدم التعصب لأئمتهم تعصباً يجعلهم يتصاممون عن النُّقُول الصحيحة ، ويتعامون عن العقول الصريحة ، كما نجد ذلك عند كثير من المتفقهة والمتكلمين ، ومن أبشع ما وجدناه في ذلك قولُ العلامة الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين : (ولا يجوز تقليد ماعدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر)) 13فقد باين الإباضية هذا المسلك الضيق فقهاً وعقيدة إلى فسيح النظرة الشمولية للأمة ، ولم يسوغوا لأنفسهم أن يرفعوا كلام أحد من أئمتهم إلى درجة كلام الله أو كلام رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام وإن بلغ في العلم والورع ما بلغ ، فهذا الإمام نور الدين السالمي رحمه الله يقول في كتاب أصول الدين من جوهر نظامه: 14
وهي أمــور تُبْتَنَى عليها صحــة ديننا فمِل إليها
لا دين للمرء إذا لم يعرف ما كان مـنه لازماً فلتعرف
واعْتَمِدَنْ ذلك بالدليـــل في حالة الإجمال والتفصيل
لا دين للمرء إذا لم يعرف ما كان مـنه لازماً فلتعرف
واعْتَمِدَنْ ذلك بالدليـــل في حالة الإجمال والتفصيل
إلى أن قال:15
ولا تُناظــر بكتاب الله ولا كلام المصطفى الأواه
معنــاه لا تجعل له نظيرا ولو يكون عالماً خبـيرا
معنــاه لا تجعل له نظيرا ولو يكون عالماً خبـيرا
ويقول أيضاً :
نُقــدِّم الحديث مهما جاءَ على قياسنا ولا مراء
ونَرْجِعَنْ في بيان الحكم عنه إلى إجماع أهل العلم
ونَرْجِعَنْ في بيان الحكم عنه إلى إجماع أهل العلم
وستجد أخي القارئ الكريم فيما أقدمه إليك ، وفيما دوَّنه غيري من الإباضية ، ما يدلك دلالة قاطعة على صحة ما ذكرته لك ، من أن أهل الاستقامة - والحمد لله - بريئون من هذا الأصل الذي رضيَه الصاوي بأن يكون القاعدة التي يقوم عليها صرح الإسلام ، كما ستجد إن شاء الله أن الصاوي ليس وحيداً في هذا الميدان ، فهناك من مشى على نفس هذا المنهج كما يدل على ذلك مسلكه في النقاش ، وستجد ذلك إن شاء الله أثناء مطالعتك لهذه الدراسة التي أقدمها إليك ، ولا يعني ذلك أن جميع المذاهب الأربعة منغمسون فيما انغمس فيه الصاوي وغيره من حَمَأَةِ التقليد البغيض ، ورفع أقوال الأئمة إلى مستوى أرفع من مستوى كلام الله ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم ، كلا فإن كثيراً منهم تحرروا من ربقة هذا التقليد الأعمى وأنصفوا مخالفيهم في الحكم ، كما ستجد ذلك أيضاً إن شاء الله في هذه الدراسة .16
-2
المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة وإن بلغ الخلاف بينهم وبينهم ما بلغ ، إذ لم يتجرءوا قط على إخراج أحد من الملة وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل ، أما من أسند إلى التأويل - وإن كان أوهى من نسج العنكبوت - فحسبه تأويله واقِيَاً لَهُ من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة ، وخلع ربقة الملة عن عنقه ، ومن هذا المنطلق صدر ذلك الإعلان المنصف - الذي رسم مبدأ الإباضية في نظرتهم إلى الأمة - من أشهر قائد إباضي وهو / أبو حمزة المختار بن عوف السليمي ، في خطبته التي ألقاها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصاخ لها الدهر ، وسجلها الزمن ، وخلدها التاريخ ، إذ قال فيها رحمه الله : ( الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة : مشركاً بالله عابد وثن ، أو كافراً من أهل الكتاب ، أو إماماً جائراً ) 17
وقد مشى الإباضية في هذا النهج السليم ، والتزموا هذا المبدأ القويم في معاملتهم لسائر طوائف الأمة كما يشهد بذلك التاريخ ، ونجد هذه النبرة المنصفة تتردد في أصوات قادة الفكر منهم في الخلف كما كانت من قبل عند السلف ، فهذا الإمام نور الدين السالمي رحمه الله تعالى يحدد لنا موقف الإباضية من سائر الأمة بقــــوله:18
ونحن لا نطالـب العبادا فوق شهادتيهــم اعتقادا
فمن أتى بالجملتـين قلنا إخواننا وبالحقــوق قمنا
إلا إذا ما نقضـوا المقالا واعتقدوا في دينهم ضلالا
قمنا نبين الصواب لهـم ونحسبن ذلك من حقهـم
فما رأيته مـن التحـرير في كتب التوحيد والتقرير
رد مسائل وحـل شـبه جاء بها من ضـل للمنتبه
قمنا نردهـا ونبدي الحقا بجهدنا كي لا يضل الخلقا
لو سكتوا عنا سكتنا عنهم ونكتفي منهم بأن يسلـموا
فمن أتى بالجملتـين قلنا إخواننا وبالحقــوق قمنا
إلا إذا ما نقضـوا المقالا واعتقدوا في دينهم ضلالا
قمنا نبين الصواب لهـم ونحسبن ذلك من حقهـم
فما رأيته مـن التحـرير في كتب التوحيد والتقرير
رد مسائل وحـل شـبه جاء بها من ضـل للمنتبه
قمنا نردهـا ونبدي الحقا بجهدنا كي لا يضل الخلقا
لو سكتوا عنا سكتنا عنهم ونكتفي منهم بأن يسلـموا
وعلى هذه القاعدة بنى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتها ، فكانوا أشد احتياطاً من إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده مادام مبنياً على تأول نص شرعي ، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولا حظ من الصواب ، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الكبير محبوب بن الرحيل - رحمه الله تعالى - على هارون اليماني الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة ، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون ، وجَّه إحداهما إلى إباضية عمان ، وثانيهما إلى إباضية حضرموت 19، وأطبق الرأي الإباضي على تصويبه وتخطئة هارون .
وسُئِل المحقق الخليلي رضوان الله عليه عن حكم هؤلاء المشبهة هل هم مشركون ؟ فكان جوابه لسائله :
إياك ثم إياك أن تعجل بالحكم على أهل القبلة بالإشراك من قبل معرفة بأصوله ، فإنه موضع الهلاك والإهلاك20
هذا في حين تجد أتباع الأئمة الأربعة - الذين جعلهم الصاوي مقياساً لمعرفة الحق من الباطل دون الكتاب والسنة - يكفر بعضهم بعضاً في هذه المسألة ، وناهيك بما في ( السيف الصقيل في الرد على ابن زفِّيل ) للعلامة السبكي الشافعي ، و ( تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم ) للعلامة الكوثري الحنفي ، و ( البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة ) للعلامة القضاعي الشافعي ، وأمثالها من الحكم بإخراج هؤلاء المشبهة عن حظيرة الإسلام ، كما أن أحكام المشبهة على الآخرين لا تقل صرامة وشدة ، وناهيك بقول العلامة ابن القيم في نونيته :
إن المعطل بالعداوة معلن والمشركون أخف في الكفران
وما مراده بالتعطيل إلا رد متشابه الآي والأحاديث إلى محكمها ، حرصاً على التنزيه ، وحملاً لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما تقتضيه أساليب البلاغة في كلام العرب ، ودفعاً لما عسى أن يُتوهم منه من التناقض والاختلاف .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجد المتفقهين على مذهب إمام واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة يشرِّك بعضهم بعضاً في هذه المسألة أو في غيرها ، فهذا الفخر الرازي يسمي كتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة - الذي أسماه كتاب التوحيد - كتاب الشرك 21، وهما شافعيان فقهاً ، وسوف تقف إن شاء الله في المبحث الثالث من هذا الكتاب على نقول حرفية من كلام ابن تيمية في اختلاف الحنابلة في ألفاظ القرآن وحروفه وأصواته ، وتكفير بعضهم بعضاً في ذلك ، ولا أريد أن أطيل في ضرب الأمثلة وتعديد الشواهد في هذا ، فإنني لم أرد بما ذكرته التشهير بأحد ، وإنما هو أمر اقتضته المقارنة بين احتياط الإباضية في الحكم وحذرهم من الاندفاع ، وبين تسرع بعض علماء الأمة الآخرين في إصدار مثل هذه الأحكام التي لا تؤول إلا إلى صدع جدار الأمة وتمزيق شملها ، وهو أمر يستدعي أسف اللبيب وحسرته ، كيف تنزل هذه الأمة إلى ميدان الشقاق والنزاع بينها ، متجاهلة ما فرض الله عليها من الوحدة والوئام ، والألفة والانسجام ، ألم يأمرها الله بذلك في محكم كتابه بقوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها 22 ؟! ألم يحذرها من عاقبة التفرق بقوله : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )23؟! ألم يبعث فيها نبياًّ كريماً ، ورسولاً أميناً يدعو إلى الوحدة دعوته إلى التوحيد فضرب فيها أروع الأمثال بصهر كل ما كان من قبل بين قومه من خلاف ونزاع في بوتقة الإيمان ، فآخى بالإيمان بين الفئات المتناحرة ، وألَّف بالإسلام بين القلوب المتنافرة ، وبيَّن أن هذه الوحدة هي وحدة عقيدة وعمل ، ومبدأ وغاية ، وأمل وألم ، وصوَّر ذلك أبدع تصوير عندما قال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وقال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
-3
أليست هذه الوحدة الإيمانية التي نادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لوائها بين أصحابه رضي الله عنهم وهي التي رفعت من شأن هذه الأمة فأبدلها الله بذلها عزا ، وبضعفها قوة ، وبضعتها رفعة ، فتمكنت من فتح الدنيا مع قلة عددها وعدتها ، وكثرة خصومها ، ووفرة العُدَدِ عندهم ؟
أو ليس ما بليت به من الشقاق هو الذي عكس عليها ما نشهده من آثار سلبية في أوضاعها ، فتشتتت بعد الوحدة ، وذلت بعد العزة ، وضعفت بعد القوة ، فازدرتها الأعين التي كانت تكبرها ، وطمعت فيها الأمم التي كانت لا تصطلي بنارها ؟ ليت شعري ! ألا صحوة بعد هذه السكرة ، ويقظة بعد هذه النومة التي غرقت فيها عقول هذه الأمة وفي مقدمتها علماؤها الذين ائتمنهم الله دينه وأخذ عليهم العهد أن يأخذوا بأيدي أمتهم إلى سبيل الرشد .
يا ساسة الدين عـلام وهنكـم وأنتـم في عـدة وعـــدِّ ؟
تختلفـون الرأي فيما بينكــم والحال إخفاق ونقض عهــد
وخَلفكــم من يستغل خُلفكـم في وثبة السمع وسمـع الخلد
يخالكــم كالشاء في مسرحها فإن دعــاها رئمت لولــد
هلم في صدق العــزوم إنها ســلاح كل أمة وفـــرد
يا للضـلال أن نضل قصدنا كالسادة النادي وشيخ نجــد
نرتع في غيبوبة من أمــل ونرتضي من العلى بالوهــد
نحس بالآلام في أنفســـنا لكــنها مني عليَّ وحــدي
ونغمد السيف عن الخصم ولا نقــره عن دمنا في غمــد
أهكـــذا قالت لنا عقولنا ؟ أم أنها قد أخطأت عن قصد ؟
أم أنها ليست لها بصـيرة ؟ أم أنها بصيرة لا تجـــدي؟
يا حالة قد أفقدتني عصـبي رميت فيمن كنته بالفقـــد
مولاي عبد تاه في مرامـه عن نهجه وأنت مولى العـبد
فخذ بضبعه وأمة هــوت تحت الخلافات وبثق الســد
مستفتحين بأياديك الغــنى والعز والنصر وكل جَـــدِّ
فاجمع شتاتنا وأصلح شأننـا واقض لنا على ظلوم نـــد 24
تختلفـون الرأي فيما بينكــم والحال إخفاق ونقض عهــد
وخَلفكــم من يستغل خُلفكـم في وثبة السمع وسمـع الخلد
يخالكــم كالشاء في مسرحها فإن دعــاها رئمت لولــد
هلم في صدق العــزوم إنها ســلاح كل أمة وفـــرد
يا للضـلال أن نضل قصدنا كالسادة النادي وشيخ نجــد
نرتع في غيبوبة من أمــل ونرتضي من العلى بالوهــد
نحس بالآلام في أنفســـنا لكــنها مني عليَّ وحــدي
ونغمد السيف عن الخصم ولا نقــره عن دمنا في غمــد
أهكـــذا قالت لنا عقولنا ؟ أم أنها قد أخطأت عن قصد ؟
أم أنها ليست لها بصـيرة ؟ أم أنها بصيرة لا تجـــدي؟
يا حالة قد أفقدتني عصـبي رميت فيمن كنته بالفقـــد
مولاي عبد تاه في مرامـه عن نهجه وأنت مولى العـبد
فخذ بضبعه وأمة هــوت تحت الخلافات وبثق الســد
مستفتحين بأياديك الغــنى والعز والنصر وكل جَـــدِّ
فاجمع شتاتنا وأصلح شأننـا واقض لنا على ظلوم نـــد 24
ولعله مما يفاجئ كثيراً من القراء أن يطلعوا لأول مرة على عناية قادة الفكر من الإباضية بلمِّ شعث هذه الأمة وجمع شتاتها بعدما أثخنتها الخلافات المذهبية ، ومزقتها النزعات العصبية ، وكم تمنوا أن يحس سائر أعلام الأمة بمثل أحاسيسهم ، ويشاركوهم في هذه الهموم التي تنوء بها صدورهم ، وتؤرق ليلهم ، وتقض مضجعهم ، وقد كانت منهم محاولات ، للخطو في هذا الطريق والاستعداد لهذه المهمة بنفقات مالية يرصدونها من جيوبهم وجيوب المخلصين من سائر أبناء الأمة ، وأصدق مثال على ذلك ما يجده القارئ في هذا السؤال الذي صدر من عالم مفكر وقائد محنك ، ذلكم هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن يحيى الباروني ، عضو مجلس المبعوثان بالدولة العثمانية ، المشهور بسليمان باشا الباروني ، وهو من إباضية جبل نفوسة بالقطر الليبي ، وقد توجه بسؤاله هذا إلى عالم الإباضية بالمشرق ، ومرجعهم في أمور الدين ، الإمام عبدالله بن حميد السالمي ، ونص السؤال :
هل توافقون على أن من أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينها ؟ على فرض عدم الموافقة على ذلك فما هو الأمر الآخر الموجب للتفرق ؟ على فرض الموافقة فهل يمكن توحيدها بالجمع بين أقوالها المتباينة وإلغاء التعدد في هذا الزمن الذي نحن فيه أحوج إلى الاتحاد من كل شيء ؟ وعلى فرض عدم إمكان التوحيد فما الأمر القوي المانع منه في نظركم ، وهل لإزالته من وجه ؟ على فرض إمكان التوحيد فأي طريق يسهل الحصول على النتيجة المطلوبة ؟ وأي بلد يليق فيه إبراز هذا الأمر ؟ وفي كم سنة ينتج ؟ وكم يلزم من المال تقريباً ؟ وكيف يكون ترتيب العمل فيه ؟ وعلى كل حال فما الحكم في الساعي في هذا الأمر شرعاً وسياسة ؟ مصلح أم مفسد ؟ .. وكان هذا السؤال في عام 1326هـ .
فكان من جواب ذلك الإمام له :
نعم نوافق أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب وتشعب الآراء ، وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة على حسب ما اقتضاه نظركم الواسع .
وللتفرق أسباب أخرى منها ، التحاسد والتباغض ، والتكالب على الحظوظ العاجلة ، ومنها طلب الرئاسة .
وجمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلاً مستحيل عادة ، وإذا أراد الله أمراً كـان (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )25والساعي في الجمع مصلح لا محالة ، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ويحضهم على التسمي بالإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام )26، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين ، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه ويكون الحق أولاً عند آحاد من الرجال ثم يفشو شيئاً فشيئاً حتى يرجع إلى الفطرة .وهي دعاية الإسلام التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام ، وتضمحل البدع شيئاً فشيئاً ، فيصير الناس إخواناً ( ومن ضل فإنما يضل عليها )27، ولو أجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع الناس في قبوله ، وكفيتم مؤونة المغرم ، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسير والمغرم كثير .وأوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي ومتردد الملائكة ، ومقصد الخاص والعام ، حرم الله الآمن ، لأنه مرجع الكل . وليس لنا مذهب إلا الإسلام ، فمن ثم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به وإن كان بغيضاً ، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيباً ، ونعرف الرجال بالحق ، فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه ، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهباً ، وإنما نسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق . اهـ 28
وللتفرق أسباب أخرى منها ، التحاسد والتباغض ، والتكالب على الحظوظ العاجلة ، ومنها طلب الرئاسة .
وجمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلاً مستحيل عادة ، وإذا أراد الله أمراً كـان (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )25والساعي في الجمع مصلح لا محالة ، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ويحضهم على التسمي بالإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام )26، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين ، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه ويكون الحق أولاً عند آحاد من الرجال ثم يفشو شيئاً فشيئاً حتى يرجع إلى الفطرة .وهي دعاية الإسلام التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام ، وتضمحل البدع شيئاً فشيئاً ، فيصير الناس إخواناً ( ومن ضل فإنما يضل عليها )27، ولو أجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع الناس في قبوله ، وكفيتم مؤونة المغرم ، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسير والمغرم كثير .وأوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي ومتردد الملائكة ، ومقصد الخاص والعام ، حرم الله الآمن ، لأنه مرجع الكل . وليس لنا مذهب إلا الإسلام ، فمن ثم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به وإن كان بغيضاً ، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيباً ، ونعرف الرجال بالحق ، فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه ، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهباً ، وإنما نسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق . اهـ 28
وهذا كلام غني عن التعليق بشيء فإنه إن لم يكن شاهداً عادلاً ومعلماً واضحاً على نبل قصد السائل والمجيب وسمو فكرهما ، وحسن أنشودتهما ، فليس يصح في الأذهان شيء.
وإذا كان الأدب مرآة تعكس ما في نفس الأديب من كوامن الأحاسيس فإن الأدب الإباضي قديمه وحديثه طافح بعصارات مشاعر الألم الذي يحسون به بسبب تشتت الأمة وانحلال عقد نظامها ، وإذا كنت أخي القارئ شاهدت صورة من ذلك فيما نقلته لك من قول أديب معاصر فإليك صورة أخرى تعكس مشاعر أديب بارع وعالم جامع من أدباء هذه الطائفة وعلماءها الغابرين ، وهو العلامة الكبير شاعر الإسلام والمسلمين أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني الرواحي الذي طالما انساب يراعه الموهوب ليصور لنا بعبارته الإيمانية همومه وأحاسيسه تجاه أمته ودينه ودونك هذا المقطع من قصيدة له بعنوان ( أفيقوا بني القرآن ) : 29
فيا لبني القرآن أين عقولكــــم وقد عصفت هذي الرياح الزعازع ؟
أمسلوبة هذي النهى من صدورنا ؟ وهل فقدت أبصارنا والمسامــع ؟
أمسلوبة هذي النهى من صدورنا ؟ وهل فقدت أبصارنا والمسامــع ؟
* * *
فليت بني الإسلام قرَّت صفاتهــم فما زعزعتها للغرور الزعـازع
وليتهمُ ساسوا بنور محمـــــد ممالكهم إذ باغتتها القواقــــع
وليتهمُ لم ينحروا بسلاحهــــم نحورَهم إذ جاش فيها التقاطــع
لقد مكَّن الأعداءَ منا انخـداعُنــا وقد لاح آل في المهامه لامــع
وسورة بعض فوق بعـض وحملة لزيد على عمــروٍ وما ثم رادع
وتمزيق هـذا الدين كـل لمذهـب له شِيَع فيما ادعاه تشايـــــع
وما الدين إلا واحــد والذي نرى ضلالات أتباع الهوى تتقــارع
ومــا ترك المختارُ ألفَ ديانــة ولا جاء في القرآن هذا التنـازع
فيا ليت أهل الدين لم يتفرقـــوا وليت نظام الدين للكل جـــامع
لو التزموا من عزّة الدين شرطـها لما اتضعت منها الرعان الفـوارع
وما ذبحَ الإسلامَ إلا سُيُوفــــنا وقد جعلت في نفسها تتـــقارع
ولو سلت السيفين يمنى أخـــوة لدكت جبال المعتدين المصـارع
وما صدعة الإسلام من سيف خصمه بأعظم مما بين أهليه واقــــع
فكم سيف باغ حزَّ أوداج دينـــه بأفظع مما سيف ذي الشرك باخع
هراشاً على الدنيا وطيشاً على الهوى وذلك سمٌّ في الحقيقة ناقــــع
وما حرَّش الأضغان في قلب مسلم على مسـلم إلا من النعي وازع
ولو نصـــع القلبان لم يتباغضا ولا ضام متبوع ولا ضيم تابـع
وما هذه الدنيا لها قدر قيمــــة يضاع له ذخر من الله نافـــع
وما نال منها طائلاً غير إثمــها وأكدارها المستأثرون الأمانــع
ولو بعدت في النفس منزعة التقى لما نزعت نحو الشقاق المـنازع
وليتهمُ ساسوا بنور محمـــــد ممالكهم إذ باغتتها القواقــــع
وليتهمُ لم ينحروا بسلاحهــــم نحورَهم إذ جاش فيها التقاطــع
لقد مكَّن الأعداءَ منا انخـداعُنــا وقد لاح آل في المهامه لامــع
وسورة بعض فوق بعـض وحملة لزيد على عمــروٍ وما ثم رادع
وتمزيق هـذا الدين كـل لمذهـب له شِيَع فيما ادعاه تشايـــــع
وما الدين إلا واحــد والذي نرى ضلالات أتباع الهوى تتقــارع
ومــا ترك المختارُ ألفَ ديانــة ولا جاء في القرآن هذا التنـازع
فيا ليت أهل الدين لم يتفرقـــوا وليت نظام الدين للكل جـــامع
لو التزموا من عزّة الدين شرطـها لما اتضعت منها الرعان الفـوارع
وما ذبحَ الإسلامَ إلا سُيُوفــــنا وقد جعلت في نفسها تتـــقارع
ولو سلت السيفين يمنى أخـــوة لدكت جبال المعتدين المصـارع
وما صدعة الإسلام من سيف خصمه بأعظم مما بين أهليه واقــــع
فكم سيف باغ حزَّ أوداج دينـــه بأفظع مما سيف ذي الشرك باخع
هراشاً على الدنيا وطيشاً على الهوى وذلك سمٌّ في الحقيقة ناقــــع
وما حرَّش الأضغان في قلب مسلم على مسـلم إلا من النعي وازع
ولو نصـــع القلبان لم يتباغضا ولا ضام متبوع ولا ضيم تابـع
وما هذه الدنيا لها قدر قيمــــة يضاع له ذخر من الله نافـــع
وما نال منها طائلاً غير إثمــها وأكدارها المستأثرون الأمانــع
ولو بعدت في النفس منزعة التقى لما نزعت نحو الشقاق المـنازع
* * *
فما بيعنا الحسنى ومرضاة ربـنا بها بيعة يَمنى بها الربح بائــع
على أي شيء يقتلُ البعضُ بعضَنا وتذكى فظاظات النفوس المطامع
على أي شيء يقتلُ البعضُ بعضَنا وتذكى فظاظات النفوس المطامع
* * *
ولو أشربت منا النفوس تبصراً لما كان منها للشرارة ناقــع
بلى أشربت داءً دخيلاً أصارها كما كمنت في جحرهن الأقارع
بلى أشربت داءً دخيلاً أصارها كما كمنت في جحرهن الأقارع
وقد كان من بشائر الخير التي لاحت للأمة مع تباشير إشراقة الصحوة الإسلامية المعاصرة ما كان - بادئ ذي بدء - من التعاطف والتواد والتراحم بين الشباب المسلم الذي أشرقت عليه أنوار هذه الصحوة ، فقد كانوا في بادئ أمرهم لا يلتفتون إلى الخلافات المذهبية ، ولا يشتغلون بالنعرات الطائفية إلا قليلاً منهم ، وهم الذين لم تصقل آثار تلك الصحوة ما تراكم على قلوبهم من الصدأ ، وهؤلاء كانوا مغمورين بالكثرة الكاثرة التي ينصب همها في محيط الإسلام الواسع الذي يجمع ولا يفرق ، ويُوَحِّد ولا يشتت ، وكادت القضايا الخلافية تُلقى في زوايا الإهمال لتصبح في خبر كان ، حتى إذا نضرت هذه الألفة وكادت تؤتي ثمارها الطيبة هاجت عليها أعاصير العصبية العمياء - بعدما حركتها أحقاد غصت بها نفوس ساءتها وحد الأمة - فلفحتها بسمومها التي أذبلت نضارتها ، وقضت على رونقها ، فإذا بالتواد تباغض ، وبالتعاطف تباعد ، وبالترابط تقاطع ، وبالرحمة عذاب .
وكان أول ضحية لهذا التآمر البغيض هو الإسلام الحنيف ثم الشبيبة المسلمة التي كادت تقلب مجرى التأريخ ، وتعيد إلى حاضر الأمة المشرق ماضيها العريق بضربها أروع الأمثال في الوحدة الإسلامية والترابط الديني ، فقد انتزعت انتزاعاً من حظيرة الوفاق الإسلامي ليدفع بها إلى متاهات من الخلاف والشقاق كان لها بد وأي بد من الدخول فيها والهيام في أرجائها . وليت الأمر وقف عند حدود الجدل والمناظرات ، ولم يصل إلى التكفير وإصدار الأحكام التعسفية الجائرة على كثير من المسلمين ، بإخراجهم من الملة ، وتعريتهم من لباس الإسلام .
وقد لُزَّ الإباضية فيمن لُزَّ إلى مضائق هذه الفتنة على كره منهم ، فقد كانوا في مقدمة المستبشرين بطلائع الوحدة الإيمانية بين الأمة ، المرتاحين إلى روح الإخاء التي كانت تسود الشباب المسلم على اختلاف فئاته ، فما شعروا إلا ويُكفأ على رؤوسهم وقود هذه الفتنة وتضرم عليهم نيرانها بما صدر فيهم من أحكام التضليل والتبديع والتكفير ، واعتبارهم داءً عضالاً في جسم الأمة يجب استئصاله ولو ببتر الأعضاء التي أصيبت به (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)30، إذ لم ينقموا منهم إلا تنزيههم الخالق تبارك وتعالى ، وتصديقهم بما نزل في كتابه الكريم وما ثبت من سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وكثيراً ما تعرض طلبتهم في بلاد الإسلام وغيرها لأنواع المضايقات من قبل إخوانهم وزملائهم - مع ملاحظة ما يكنونه لهم من الود ويضمرونه لهم من الصفاء والخير - حتى بلغ الأمر ببعض سفهاء الأحلام أنهم كانوا يدعون الطلبة الإباضيين إلى إعلان الشهادتين ليكونوا في عداد المسلمين ، كأنهم - في نظر أولئك - من الملاحدة والمشركين .
وهو أمر يستدعي أسف كل ذي لب ، وحسرة كل من كان له قلب ، كيف ينزل الإباضية أهل الحق والإستقامة هذه المنزلة مع رسوخ قدمهم في التوحيد ، وصفاء مصدرهم في العقيدة ، وما عُرِفوا به بين الخاص والعام من الورع في الدين والخشية من بأس الله ، وما الذي ارتكبه الإباضية حتى ينزل بهم هذا الحكم ، ويُعاملوا بهذه الطريقة ؟؟
إن أهم ما تذرع به أولئك الذين أصدروا فيهم تلك الأحكام الرهيبة ، وعاملوهم بهاتيك المعاملة النكراء ثلاث قضايا كان للإباضية فيها موقف لم يتفق مع رغبات أولئك الحاقدين ، فعدوا كل قضية منها مبررة للحكم عليهم بالكفر وقطع حبال الصلة بينهم وبين سائر الأمة مع أن الإباضية لم ينفردوا بموقفهم دون سائر طوائف الأمة ، فثم الكثير من الذين رأوا في هذه القضايا رأيهم وأيدوا موقفهم كما سيتضح ذلك من خلال هذه الدراسة إن شاء الله ، على أنهم في كل قضية منها أخذوا بحجز النصوص القرآنية والسنة الثابتة عن الرسولعليه أفضل الصلاة والسلام .. والقضايا الثلاث هي :
إنكار رؤية الله تعالى
-أ
القول بخلق القرآن
-ب
إعتقاد تخليد الفسَّاق في النار
-ج
وقد انهالت عليَّ أسئلة الطلبة من هنا وهناك عن موقف أصحابنا في هذه القضايا الثلاث ، وما يستندون إليه من دليل ، ونظرتهم إلى أدلة من يقولون بخلاف قولهم ، ولم يكن لطلبتنا من قبل أي اهتمام بالقضايا الخلافية وبحثها ماعدا المتخصصين منهم في دراستها ، وإنما دعاهم إلى هذا الإلحاح في طلب كشف النقاب عن وجه الحقيقة فيها ما يلقونه من عنت ويواجهونه من إحراج من قوم لا يهمهم إلا إثارة شحناء كانت نائمة ، وتسعير فتنة كانت خامدة ، فدعاني ذلك إلى تحرير هذه العجالة التي سوف يجد فيها القارئ الكريم إن شاء الله دراسة وافية لكل قضية من هذه القضايا بتلخيص أدلة كل فريق وبحثها على ضوء قول الله عز وجل وقول رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، مع استلهام فهم مقاصدهما بالرجوع إلى قواعد اللسان العربي المبين ، الذي شرّفه الله بأن جعله وعاءً للقرآن الكريم وطبع عليه لسان نبيه الخاتم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وستدرك أخي القارئ - إن شاء الله - من خلال دراستك لما أقدمه إليك ، أن الإباضية لم يستمدوا عقيدتهم من فلسفة اليونان وغيرها من أساطير الأولين كما يحلو زعم ذلك للذين يهرفون بما لا يعرفون ، وإنما استمدوه من أصفى ينابيع الحق ، وأَنْوَر أشعة الحقيقة ، فقد احتكموا إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، عملاً بقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )31
وإذا خفيت عن الغبي فعاذر أن لا تراني مقلة عمياء
وقد كنت حريصاً من قبل على عدم الخوض في مثل هذه القضايا الجانبية وعدم اتخاذ موقف من هذه المهاترات إلا الصمت ، فالحق أصفى وأبين من أن تكدر الشُّبَهُ صَفْوَه أو تحجب نوره .
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ويجهد أن يأتي لها بضريب
ولن يضر هجر المقال إلا قائله دون من قيل فيه ، فما الذي ضر المرسلين وأتباعهم مما قيل فيهم من الإفك ، ورموا به من التهم ، وهذه هي سنة الله في خلقه ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين ) 32
وإنا وما تلقى لنا من هجاءنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
ولكني رجَّحت جانب الرد على الصمت تبياناً للحث ودفاعاً عن الحقيقة ، ووقوفاً في وجوه الذين يضرمون الفتن ويؤججون الأحقاد بهذه المحاولات ، لتمزيق شمل الأمة وتفتيت وحدتها ، إذ لا يعلم إلا الله عاقبة هذه الفتنة إذا اضطرمت نارها وحَمِيَ أوارها والعياذ بالله .
ولعمر الحق إن ما تعانيه اليوم أمة الإسلام من محن وفتن وتشتت وضياع لجدير بأن يستدر لها عطف عدوها اللدود ، ويعتصر لها الرحمة من قلوب خصومها القاسية ، فكيف تسمح بمضاعفة بلائها وإنكاء جروحها من جديد ، بأمثال هذه المهاترات من غير أن نتصدى لها بالرد المقنع بالحجة والبرهان ، لذلك قمت ، مع اشتغال البال وتراكم الأعمال - بتحرير هذه العجالة تبياناً لحجة ( الحق الدامغ ) واستئصالاً لشبهة الباطل الزاهق ، والله هو الذي يحق الحق ويبطل الباطل ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) 33.. وقد لخصت هذا الرد في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : في رؤية الله
المبحث الثاني : في خلق القرآن
المبحث الثالث : في خلود أهل الكبائر في النار
المبحث الثاني : في خلق القرآن
المبحث الثالث : في خلود أهل الكبائر في النار
الهوامش والتعليقات
الآية 11 من سورة الشورى
1
الآية 103 من سورة الأنعام
2
الآية 88 من سورة القصص
3
الآيتان 118 و 119 من سورة هود
4
الآية 103 من سورة آل عمران
5
الآية 105 من سورة آل عمران
6
الآية 46 من سورة الأنفال
7
الآية 159 من سورة الأنعام
8 الآية 9 من سورة الحجر 9
الآية 59 من سورة النساء
10 الآية 53 من سورة المؤمنون 11
الآية 2 من سورة يوسف
12
حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ج3 ص10 ط دار إحياء التراث العربي
13
جوهر النظام ج1 ص6 ط 10
14
جوهر النظام ج1 ص22
15 إن الإنصاف ليقتضي ذكر رد العلامة الفاضل الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر الشقيقة على كلام الصاوي ، فقد أفرد هذا الرد في كتاب سمَّاه ( تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران ) وقد وضع في هذا الرد المقصل على المفصل 16
الأغاني ج2 ص104 ط بولاق
17 كشف الحقيقة مع أنوار العقول ص25 المطابع العالمية ، سلطنة عمان 18
الرسالتان في الجزء الثالث من كتاب سِيَر المسلمين ، ومحبوب هذا هو أحد كبار أئمة العلم في أواخر القرن الثاني الهجري ، إذ كان واسطة العقد عند الإباضية مشارقتهم ومغاربتهم
19
كتاب تمهيد قواعد الإيمان ج1 ص224 ط وزارة التراث ، سلطنة عمان
20
مفاتيح الغيب ج27 ص150 ط2 - طهران
21 الآية 103 من سورة آل عمران 22
الآية 46 من سورة الأنفال
23
من قصيدة لشاعر عمان الكبير الشيخ عبدالله بن علي الخليلي
24 الآية 63 من سورة الأنفال 25 الآية 19 من سورة آل عمران 26
الآيات 108 من سورة يونس و 15 من سورة الإسراء و 41 من سورة الزمر
27
العقد الثمين من أجوبة نور الدين ج1 ص126/127 ط1
28
ديوان أبي مسلم الرواحي ص262/263 ، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان
29
الآية 8 من سورة البروج
30
الآية 59 من سورة النساء
31
الآيات 29-33 من سورة المطففين
32 الآية 18 من سورة الأنبياء