صناعة الظنون والنوايا الحسنة
يقول العقاد رحمه الله تعالى : ( حين جاء الإسلام بدعوته كان هناك من هم سريعي المأخذ ، عارية أنفسهم عن الشهوات ، وكانوا هم الأقرب للأخذ والقبول بتعاليم الإسلام ، وبالمقابل كان هناك من تمكنت في أنفسهم الأنفة والكبر والميل إلى الشهوات ، وهم الذين رأوا في الإسلام العدو المهدد لما ألفوا عليه من حياة الغطرسة والعنصرية والعصبية والأنانية والتلذذ ، فلم تكن لدعوة الإسلام قبولا عندهم ..أما الصنف الثالث فكان يراوح بين الاثنين ، فحيث يميل القلب يميل ) بتصرف
إن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعوته لم يكن كما هو الحال الآن حيث نطلع على تعاليم الإسلام مجملا في أصوله وفروعه وشروحاته القديمة والمستحدثة ذلك أنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن الكريم يتنزل وحيا مفرقا في الأوقات ومجاريا للأحداث والأحوال . وما أنا بصدده الآن هو الكيفية التي تلقى بها الناس لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجديد ... حيث يخبر في المرة الأولى عن كائن يغطه حتى يبلغ منه الجهد ، ويأمره بامتثال أوامر معينة ، ثم تتعد سبل الاتصال بالوحي لتأخذ صورا متعدده ، ثم يغيب عنه لفترات وما يلبث أن يعود إليه ، ويكلف الرسول بالأخذ بهذا الوحي والبلاغ لأمته ، فكان يأتي بالخبر المشتمل على تقرير للعقيدة والعبادة والمعاملات ، وأخبار ما حدث للأمم والقرون السابقة ، ثم التنبؤ بأمور حادثة و مستقبلية ، حتى أنه صلى الله عليه وسلم ليحدث المرء بما يخاطر به نفسه ، وتظهر المعجزات بين يديه ، ويظهر أمره ويشتهر بين الناس ، وهكذا يمضي سائر حياته صلى الله عليه وسلم يبين ويفصل الأحكام والأوامر الإلهية ، ويثبت أركان الدين ، ويجعل منه واجبات وسنن ومستحبات وأمور فاضلة ومفضولة ، وينجز مهمته ، ويقوم بأعباء الرسالة ، ويكتمل الدين على يديه صلى الله عليه وسلم ... وفي خضم هذه الأحداث ينقسم الناس إلى مصدق ومكذب . فما هي الأسس التي يقوم عليها كل من هاتين الآليتين ( التصديق والتكذيب ) ...
بداية أقول : أن التصديق والتكذيب المعتبرين عند أي أحد منا هما قرار نفسي فيما لو لم تكن الحقائق التي نعالجها موضوعية ، وأقصد بالموضوعية أي قضية لا يمكن التثبت من صحتها ، وقرار التصديق قد يصدر في عفوية تامة وفي غفل عن القضية ذاتها موضوع الحدث ، كما في الحدث الأول حين عد الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار وهو يرتجف خوفا من أن يكون به مس من الشيطان ، فردت عليه زوجته خديجة رضي الله عنها بقولها : كلا ...... ثم قالت إنك لتعين المكروب إلى نهاية كلامها ، فهي رضوان الله عليها قد دخلت وآمنت بالقضية من خلال ظروف القضية وملابساتها وليس من خلال استعراض قضية الرسالة ذاتها ..أي أنها آمنت من خلال ثقتها بأخلاق وأمانة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تعهده فيه من شيم ومروءة وصدق ...
أما الإنسان الذي يرى في الاختيار جزء من مسؤوليته ، فإنه يقدم على هذا القرار تصديقا أو تكذيبا بعد أن يكون استنفذ جهده وطاقته ، وبالتالي فإن له أن يرفع اللوم عن نفسه فيما لو أساء التقدير ولم يحالفه الحظ ....
إننا حين نتخذ القرار ( تصديق أوتكذيب أمر ما ) فإن قرارنا هذا يكون قد انبثق من خلال عوامل معقدة ، ولكن يمكن إجمالها في عنصر واحد وهوـ التربية وما تتضمنه من علم وخبرة وتنشئة اجتماعية ـ فهذه التربية لها دور بالغ الخطورة في تشكيل هوية الإنسان ..... ولنأخذ مثالا على هذا ، فإن الإنسان القروي الذي يعيش البساطة والوضوح ولم يدخل في تعقيدات الحياة والمواقف الصعبة ، نلاحظ أنه يميل إلى السذاجة في التفكير وسلامة الطبع وحسن النوايا ، ويعكس ذلك ما يحدث عندنا الآن من تندر أهل المدينة بسلوك هذا القروي وتصرفه العفوي لما له من تسطيح وسذاجة ، بينما المدني الذي يعيش المدينة المكتظة بالمواقف والمعاملات اليومية وتعقيداتها والتنافس على الكسب والظفر بإنجاز المهمات الموكولة إليه ، هذه المدنية تفرض على المدني سلوكيات التملق والكذب والخداع والمراوغة في كثيرا من المواقف ، والعجيب أن يحسب هذا التصرف له كنوع من أنواع الذكاء والدهاء والمهارة .. لأنه في النهاية ينجز مهمته ، وإن كان هذا النجاح لم يكن ليتحقق له لو أنه راعى قواعد السلوك والتزم الأخلاق .... إذا نحن الآن أمام نموذجين متضادين من حيث السلوك فرضهما عنصر البيئة الاجتماعية .. فالقروي يميل إلى التصديق لما كانت نفسه ألفت البساطة والوضوح وسلامة الطوية ، بينما المدني ميال إلى التكذيب لما ألفت نفسه الشك والارتياب والتعقيد وسوء الطوية !! ويذكرنا هذا بحديث ( إياكم وخضراء الدمن ) وهي المرأة الجميلة تنبت في منبت السوء ( البيئة ) وإذا أردنا أن نذهب إلى أبعد من هذا حيث البيئة الاجتماعية تكون أقل تأثيرا في مكنونات النفس ، فإننا نلحظ في الطفل ميلا إلى العفوية والتصديق وهو مانسميه البراءة ، في حين أن هذه المسحة من البراءة الطفولية تبدأ في الذبول والاضمحلال حين يتدرج في السن العمري ويكتسب كثيرا من الخبرات وعادات مجتمعه وطريقة تنشئته ..
ومثال ثالث : أن العجائز يميلون إلى التشبث بقناعاتهم البسيطة حين ينحسر عنهم كثير من الأهواء والشهوات والمكر والخداع والعجب الذي كان يصاحبهما في مقتبل العمر .. ولهذا قال أحد الصحابة في دعائه ( أللهم ارزقني إيمان العجائز ..)
على أنني أعترف بأن هذا النهج في التحليل يجب أن يؤخذ بوجه عام ، أي يمثل اتجاه فقط ، وإلا فهناك من العناصر البيئية الاجتماعية ما يعد أكثر خطورة من الآخر مثل العصبية القبلية ، والتطاول على القانون الذي يشيع في المجتمعات الأكثر بساطة ، وكذلك فقدنا لجزء من الحكمة الإلهية في خلق تفكير متطور للشباب عنهم في سن الطفولة وهذا يدفعنا إلى دراسة معمقة في فهم هذا التطور وإيجاد موازنة دقيقة لفقه واقعنا وإدراك سنن الاختلاف بين الناس ..
وللعودة على بدء أقول: أن الإنسان ميال إلى التصديق بالأمور الخبرية الغيبية ، كلما كانت نفسه ميالة إلى الخير والعفوية وحسن الطوية ، فمن شأن الأخير هذا وأقصد به حسن الطوية أن يحدد مساحة الاستجابة ويقصر الظنون ، وبالعكس فإن النفس تميل إلى التكذيب كلما كانت إلى الخبث و سوء الظن وإضمار الشر أسرع ، لأنها مردت على التحقق والاستقصاء وهذا يزيد من مجال الظنون ومدى الاستجابة ، والناس الذين يمتازون بالذكاء المفرط قادرون على استعمال الحيل ومخادعة الآخرين وقادرون على تسييس الناس البسطاء لصالح تحقيق أمجادهم الشخصية ، مستغلين هذه الطيبة والعفوية فيهم .. ولكنه استعمال للخير( الذكاء ) في غير محله ، وهو ما يعود بالخسران عليهم إن عاجلا أو آجلا ... وقد ظهر مثل أولئك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أن منهم من آمن أو ادعى الإيمان ولكن بطريقته الخاصة ، وليس الإيمان الناجزالذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أن إيمانهم لم ينفعهم ولم يكسبهم خيرا لأنفسهم ، فهو لم يحجزهم عن ارتكاب المنكرات والمعاصي ، ولم يسيطروا به على أهوائهم ونزواتهم ... وإنما أرادوا به تحقيق المزيد من الإنجاز لحساب رغائب أنفسهم . فنفى الله عنهم هذا الإيمان ، قال تعالى ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .. )
ومثال ذلك بنو إسرائيل المشهور عنهم اللدادة في الخصومة والجدال وذلك حين أمرهم الله بذبح بقرة فشددوا في المسألة فشدد الله عليهم ، والذي يفهم من الآيات أنه كان يجب على بني إسرائيل تنفيذ أمر الله الواضح وليس البحث في الفروض والإبهامات التي لم يطالبوا بها ، وابن باعوراء ومجادلة قوم نوح ، وغيرهم ... على أن لا يظن أن بين سلوك الناس وأخلاقهم حد قاطع يفصل بينهم فينتمون إما إلى هذا أو إلى هذا بل هو أمر متدرج من هنا إلى هناك وهو مما يذيب القطيعة والفواصل بين الناس .. . فالإيمان يمتد من الضعف إلى القوة والظلم أيضا يمتد من البسيط المتجاوز عنه إلى الظلم العظيم الذي لا يغفره الله سبحانه وتعالى !!
ولما جاء الإسلام إلى الناس كان منهم من هو قريب المأخذ ، حسن الطوية ، ميال إلى الخير ، فقبل به وارتضاه دينا ، وكان منهم من هو شر مكانا ، خبيث الطوية ، ميال إلى الشر والنزاع ، فلم يقبل به . وتتعدد الموانع من قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتشعب وتتفاضل حتى أننا لا نستطيع حصرها ، فهي موانع عقدية لما هم عليه من عبادة الأوثان وتقليد الآباء ، وموانع للعصبية وللحمية الجاهلية ، وموانع للمكانة خوفا من انتزاع الملك والسيادة ، وموانع لما أشربت عليه بعض الأنفس من حب للمال و الشهوات ، إنها موانع يصعب حصرها ، اجتماعية واقتصادية و نفسية ...
وحين جاء الإسلام بعقيدة مغايرة وتعاليم جديدة ، كان الشرط الأولي للإسلام أن يتحرر الإنسان من العوائق والموانع النفسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها حتى يكون قراره صائبا ، وكانت الفكرة التربوية الإسلامية أن هذا التحرر لا يتم إلا من خلال السيرعلى التعاليم الإسلامية ، وأن اتباع تعاليم الإسلام لما تشيع من روح المحبة وحسن الظن هي جزء من إسلامنا.. وهي الموصلة إلى القناعة والرضا والقبول بدين الإسلام الدين الحق ...
قال تعالى ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) !! وهكذا جاءت التربية الإسلامية بخطوات عملية لتثبيت العقيدة الإسلامية ، وأما النظر والاستدلال العقلي المجرد فهو طريقة غير مضمونة النتائج ، فهاهم أهل الكتاب وهاهم المشهورون بالفكر والنظر الثاقب ، والحكماء والفلاسفة ، لم تسعفهم دلالاتهم وقرائنهم النظرية في الاهتداء ، لأن عقولهم صيغت خارج نطاق التربية الهادية الهادفة التي جاء بها الإسلام . وأما الفلاسفة فإنهم يتبعون منهجا مخالفا لما جاء به الإسلام ، حيث أنهم يجعلون من الدين قضية قابلة للطرح والدراسة ، ويجعلون لها مقدمات من عند أنفسهم ، ويسمونها بقضايا أولية أو بدهية أو ضرورية ، وقد لا تكون كذلك إلا في عقولهم ، ثم يناجزون بعلومهم هذه ليثبتوا أمرا غيبيا ويسمونه ( العلم الفيزيقي ) أو الإلهيات ... فيضعون العقل فوق ما كلف به من استدلال ويزجون به في غير دائرته المعتبرة ، وعلى كل هو مخالف للمنهج الإسلامي الذي يقدم تصورا ويجعل من قيام الإنسان بما كلف به من أمور شرعية هي الأساس في تثبيت هذا التصور . قال تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )
وحين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر من ربه ، فرض على الناس أمرين لا ثالث لهما وهي إما التصديق وإما التكذيب ..فمن كانت نفسه أقرب إلى الطهارة ونقاء السريرة ومنعتقة من التأثيرات المسبقة كانت أقرب إلى التصديق ، بينما النفوس المسجونة في أسر الأحكام المسبقة والشهوات وسيطرة الأهواء والخوف على المكانة كانت أقرب إلى التكذيب .. فها نحن نعود إلى جعل عامل التربية الذي يخلق النوايا الحسنة أو السيئة هو العامل الرئيس في صناعة القرار تصديقا أو تكذيبا .. فالإنسان لا يكون مصدقا لمجرد أنه يريد أن يكون مصدقا ، ولا يكون مكذبا لمجرد أنه لا يصدق ـ لأن هاتين الآليتين هي من أفعال القلب التي لا يمكننا السيطرة عليها , والإسلام جاء ليخلق النية الحسنة والطوايا الطيبة وهي لا تتم إلا من خلال تربية معينة ... تلك هي الأخذ بتعاليم هذا الإسلام واتباع مايمليه من أوامر وأخلاق وعبادات .. أما أن يظن بأن هذه النوايا تتم أو تتشكل في الهواء أو أننا نتحكم فيها دون أن يبذل جهد مدروس لتشكيلها فهو أمر بعيد عن الصحة .. فأنا لا أحسن الظن بشخص ما لمجرد أنني أريد أن أحسن الظن به ، ولا العكس أيضا .. فإحسان الظن أو إساءته يخضع لعدة اعتبارات متمكنة في النفس حتى وإن لم استطع ترصدها ... قال تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) أي ليس الأمر موقوفا على ما تقررون بألسنتكم ، بل بما استقر في قلوبكم ، وما استقر في قلوبكم الله أعلم به منكم .. ومن المعلوم أن الإيمان ثمرة للعمل الصالح ...
وفي النهاية أخلص إلى القول بأن الإسلام لم يأتي كقضية من القضايا الأخرى أو كنظرية من النظريات ، تقرأها وتطلع على مجملها وتفصيلها ثم لك أن تقبل بها أو أن ترفضها ، لأنه إن تناولته بهذه الطريقة ، فلا يتعدى قبولك بها أو رفضها رأيا ، والرأي يدور مع الهوى فحيث يكون الهوى يكون الرأي ، بل جاء ليقول لك أنك ستصل إلى عقيدة معينة وقناعة ثابتة وتصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من خلال ممارستك لهذه الأفعال ( الشرائع والنسك والعبادات الإسلامية ) فمن خلال التطبيقات العملية نصل إلى اليقينات القلبية أو العقلية ! قال تعالى ( قل إن تحبون الله ، فاتبعوني يحببكم الله .....) فالقول بدون العمل يظل مجرد ادعاء لا مصداقية له إلا بالتطبيق ...قال تعالى ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم سراطا مستقيما ) قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ذلك أنها تتدخل في تشكل نفور النفس وانجذابها نحو اتجاه معين ....
يقول العقاد رحمه الله تعالى : ( حين جاء الإسلام بدعوته كان هناك من هم سريعي المأخذ ، عارية أنفسهم عن الشهوات ، وكانوا هم الأقرب للأخذ والقبول بتعاليم الإسلام ، وبالمقابل كان هناك من تمكنت في أنفسهم الأنفة والكبر والميل إلى الشهوات ، وهم الذين رأوا في الإسلام العدو المهدد لما ألفوا عليه من حياة الغطرسة والعنصرية والعصبية والأنانية والتلذذ ، فلم تكن لدعوة الإسلام قبولا عندهم ..أما الصنف الثالث فكان يراوح بين الاثنين ، فحيث يميل القلب يميل ) بتصرف
إن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعوته لم يكن كما هو الحال الآن حيث نطلع على تعاليم الإسلام مجملا في أصوله وفروعه وشروحاته القديمة والمستحدثة ذلك أنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن الكريم يتنزل وحيا مفرقا في الأوقات ومجاريا للأحداث والأحوال . وما أنا بصدده الآن هو الكيفية التي تلقى بها الناس لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجديد ... حيث يخبر في المرة الأولى عن كائن يغطه حتى يبلغ منه الجهد ، ويأمره بامتثال أوامر معينة ، ثم تتعد سبل الاتصال بالوحي لتأخذ صورا متعدده ، ثم يغيب عنه لفترات وما يلبث أن يعود إليه ، ويكلف الرسول بالأخذ بهذا الوحي والبلاغ لأمته ، فكان يأتي بالخبر المشتمل على تقرير للعقيدة والعبادة والمعاملات ، وأخبار ما حدث للأمم والقرون السابقة ، ثم التنبؤ بأمور حادثة و مستقبلية ، حتى أنه صلى الله عليه وسلم ليحدث المرء بما يخاطر به نفسه ، وتظهر المعجزات بين يديه ، ويظهر أمره ويشتهر بين الناس ، وهكذا يمضي سائر حياته صلى الله عليه وسلم يبين ويفصل الأحكام والأوامر الإلهية ، ويثبت أركان الدين ، ويجعل منه واجبات وسنن ومستحبات وأمور فاضلة ومفضولة ، وينجز مهمته ، ويقوم بأعباء الرسالة ، ويكتمل الدين على يديه صلى الله عليه وسلم ... وفي خضم هذه الأحداث ينقسم الناس إلى مصدق ومكذب . فما هي الأسس التي يقوم عليها كل من هاتين الآليتين ( التصديق والتكذيب ) ...
بداية أقول : أن التصديق والتكذيب المعتبرين عند أي أحد منا هما قرار نفسي فيما لو لم تكن الحقائق التي نعالجها موضوعية ، وأقصد بالموضوعية أي قضية لا يمكن التثبت من صحتها ، وقرار التصديق قد يصدر في عفوية تامة وفي غفل عن القضية ذاتها موضوع الحدث ، كما في الحدث الأول حين عد الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار وهو يرتجف خوفا من أن يكون به مس من الشيطان ، فردت عليه زوجته خديجة رضي الله عنها بقولها : كلا ...... ثم قالت إنك لتعين المكروب إلى نهاية كلامها ، فهي رضوان الله عليها قد دخلت وآمنت بالقضية من خلال ظروف القضية وملابساتها وليس من خلال استعراض قضية الرسالة ذاتها ..أي أنها آمنت من خلال ثقتها بأخلاق وأمانة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تعهده فيه من شيم ومروءة وصدق ...
أما الإنسان الذي يرى في الاختيار جزء من مسؤوليته ، فإنه يقدم على هذا القرار تصديقا أو تكذيبا بعد أن يكون استنفذ جهده وطاقته ، وبالتالي فإن له أن يرفع اللوم عن نفسه فيما لو أساء التقدير ولم يحالفه الحظ ....
إننا حين نتخذ القرار ( تصديق أوتكذيب أمر ما ) فإن قرارنا هذا يكون قد انبثق من خلال عوامل معقدة ، ولكن يمكن إجمالها في عنصر واحد وهوـ التربية وما تتضمنه من علم وخبرة وتنشئة اجتماعية ـ فهذه التربية لها دور بالغ الخطورة في تشكيل هوية الإنسان ..... ولنأخذ مثالا على هذا ، فإن الإنسان القروي الذي يعيش البساطة والوضوح ولم يدخل في تعقيدات الحياة والمواقف الصعبة ، نلاحظ أنه يميل إلى السذاجة في التفكير وسلامة الطبع وحسن النوايا ، ويعكس ذلك ما يحدث عندنا الآن من تندر أهل المدينة بسلوك هذا القروي وتصرفه العفوي لما له من تسطيح وسذاجة ، بينما المدني الذي يعيش المدينة المكتظة بالمواقف والمعاملات اليومية وتعقيداتها والتنافس على الكسب والظفر بإنجاز المهمات الموكولة إليه ، هذه المدنية تفرض على المدني سلوكيات التملق والكذب والخداع والمراوغة في كثيرا من المواقف ، والعجيب أن يحسب هذا التصرف له كنوع من أنواع الذكاء والدهاء والمهارة .. لأنه في النهاية ينجز مهمته ، وإن كان هذا النجاح لم يكن ليتحقق له لو أنه راعى قواعد السلوك والتزم الأخلاق .... إذا نحن الآن أمام نموذجين متضادين من حيث السلوك فرضهما عنصر البيئة الاجتماعية .. فالقروي يميل إلى التصديق لما كانت نفسه ألفت البساطة والوضوح وسلامة الطوية ، بينما المدني ميال إلى التكذيب لما ألفت نفسه الشك والارتياب والتعقيد وسوء الطوية !! ويذكرنا هذا بحديث ( إياكم وخضراء الدمن ) وهي المرأة الجميلة تنبت في منبت السوء ( البيئة ) وإذا أردنا أن نذهب إلى أبعد من هذا حيث البيئة الاجتماعية تكون أقل تأثيرا في مكنونات النفس ، فإننا نلحظ في الطفل ميلا إلى العفوية والتصديق وهو مانسميه البراءة ، في حين أن هذه المسحة من البراءة الطفولية تبدأ في الذبول والاضمحلال حين يتدرج في السن العمري ويكتسب كثيرا من الخبرات وعادات مجتمعه وطريقة تنشئته ..
ومثال ثالث : أن العجائز يميلون إلى التشبث بقناعاتهم البسيطة حين ينحسر عنهم كثير من الأهواء والشهوات والمكر والخداع والعجب الذي كان يصاحبهما في مقتبل العمر .. ولهذا قال أحد الصحابة في دعائه ( أللهم ارزقني إيمان العجائز ..)
على أنني أعترف بأن هذا النهج في التحليل يجب أن يؤخذ بوجه عام ، أي يمثل اتجاه فقط ، وإلا فهناك من العناصر البيئية الاجتماعية ما يعد أكثر خطورة من الآخر مثل العصبية القبلية ، والتطاول على القانون الذي يشيع في المجتمعات الأكثر بساطة ، وكذلك فقدنا لجزء من الحكمة الإلهية في خلق تفكير متطور للشباب عنهم في سن الطفولة وهذا يدفعنا إلى دراسة معمقة في فهم هذا التطور وإيجاد موازنة دقيقة لفقه واقعنا وإدراك سنن الاختلاف بين الناس ..
وللعودة على بدء أقول: أن الإنسان ميال إلى التصديق بالأمور الخبرية الغيبية ، كلما كانت نفسه ميالة إلى الخير والعفوية وحسن الطوية ، فمن شأن الأخير هذا وأقصد به حسن الطوية أن يحدد مساحة الاستجابة ويقصر الظنون ، وبالعكس فإن النفس تميل إلى التكذيب كلما كانت إلى الخبث و سوء الظن وإضمار الشر أسرع ، لأنها مردت على التحقق والاستقصاء وهذا يزيد من مجال الظنون ومدى الاستجابة ، والناس الذين يمتازون بالذكاء المفرط قادرون على استعمال الحيل ومخادعة الآخرين وقادرون على تسييس الناس البسطاء لصالح تحقيق أمجادهم الشخصية ، مستغلين هذه الطيبة والعفوية فيهم .. ولكنه استعمال للخير( الذكاء ) في غير محله ، وهو ما يعود بالخسران عليهم إن عاجلا أو آجلا ... وقد ظهر مثل أولئك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أن منهم من آمن أو ادعى الإيمان ولكن بطريقته الخاصة ، وليس الإيمان الناجزالذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أن إيمانهم لم ينفعهم ولم يكسبهم خيرا لأنفسهم ، فهو لم يحجزهم عن ارتكاب المنكرات والمعاصي ، ولم يسيطروا به على أهوائهم ونزواتهم ... وإنما أرادوا به تحقيق المزيد من الإنجاز لحساب رغائب أنفسهم . فنفى الله عنهم هذا الإيمان ، قال تعالى ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .. )
ومثال ذلك بنو إسرائيل المشهور عنهم اللدادة في الخصومة والجدال وذلك حين أمرهم الله بذبح بقرة فشددوا في المسألة فشدد الله عليهم ، والذي يفهم من الآيات أنه كان يجب على بني إسرائيل تنفيذ أمر الله الواضح وليس البحث في الفروض والإبهامات التي لم يطالبوا بها ، وابن باعوراء ومجادلة قوم نوح ، وغيرهم ... على أن لا يظن أن بين سلوك الناس وأخلاقهم حد قاطع يفصل بينهم فينتمون إما إلى هذا أو إلى هذا بل هو أمر متدرج من هنا إلى هناك وهو مما يذيب القطيعة والفواصل بين الناس .. . فالإيمان يمتد من الضعف إلى القوة والظلم أيضا يمتد من البسيط المتجاوز عنه إلى الظلم العظيم الذي لا يغفره الله سبحانه وتعالى !!
ولما جاء الإسلام إلى الناس كان منهم من هو قريب المأخذ ، حسن الطوية ، ميال إلى الخير ، فقبل به وارتضاه دينا ، وكان منهم من هو شر مكانا ، خبيث الطوية ، ميال إلى الشر والنزاع ، فلم يقبل به . وتتعدد الموانع من قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتشعب وتتفاضل حتى أننا لا نستطيع حصرها ، فهي موانع عقدية لما هم عليه من عبادة الأوثان وتقليد الآباء ، وموانع للعصبية وللحمية الجاهلية ، وموانع للمكانة خوفا من انتزاع الملك والسيادة ، وموانع لما أشربت عليه بعض الأنفس من حب للمال و الشهوات ، إنها موانع يصعب حصرها ، اجتماعية واقتصادية و نفسية ...
وحين جاء الإسلام بعقيدة مغايرة وتعاليم جديدة ، كان الشرط الأولي للإسلام أن يتحرر الإنسان من العوائق والموانع النفسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها حتى يكون قراره صائبا ، وكانت الفكرة التربوية الإسلامية أن هذا التحرر لا يتم إلا من خلال السيرعلى التعاليم الإسلامية ، وأن اتباع تعاليم الإسلام لما تشيع من روح المحبة وحسن الظن هي جزء من إسلامنا.. وهي الموصلة إلى القناعة والرضا والقبول بدين الإسلام الدين الحق ...
قال تعالى ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) !! وهكذا جاءت التربية الإسلامية بخطوات عملية لتثبيت العقيدة الإسلامية ، وأما النظر والاستدلال العقلي المجرد فهو طريقة غير مضمونة النتائج ، فهاهم أهل الكتاب وهاهم المشهورون بالفكر والنظر الثاقب ، والحكماء والفلاسفة ، لم تسعفهم دلالاتهم وقرائنهم النظرية في الاهتداء ، لأن عقولهم صيغت خارج نطاق التربية الهادية الهادفة التي جاء بها الإسلام . وأما الفلاسفة فإنهم يتبعون منهجا مخالفا لما جاء به الإسلام ، حيث أنهم يجعلون من الدين قضية قابلة للطرح والدراسة ، ويجعلون لها مقدمات من عند أنفسهم ، ويسمونها بقضايا أولية أو بدهية أو ضرورية ، وقد لا تكون كذلك إلا في عقولهم ، ثم يناجزون بعلومهم هذه ليثبتوا أمرا غيبيا ويسمونه ( العلم الفيزيقي ) أو الإلهيات ... فيضعون العقل فوق ما كلف به من استدلال ويزجون به في غير دائرته المعتبرة ، وعلى كل هو مخالف للمنهج الإسلامي الذي يقدم تصورا ويجعل من قيام الإنسان بما كلف به من أمور شرعية هي الأساس في تثبيت هذا التصور . قال تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )
وحين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر من ربه ، فرض على الناس أمرين لا ثالث لهما وهي إما التصديق وإما التكذيب ..فمن كانت نفسه أقرب إلى الطهارة ونقاء السريرة ومنعتقة من التأثيرات المسبقة كانت أقرب إلى التصديق ، بينما النفوس المسجونة في أسر الأحكام المسبقة والشهوات وسيطرة الأهواء والخوف على المكانة كانت أقرب إلى التكذيب .. فها نحن نعود إلى جعل عامل التربية الذي يخلق النوايا الحسنة أو السيئة هو العامل الرئيس في صناعة القرار تصديقا أو تكذيبا .. فالإنسان لا يكون مصدقا لمجرد أنه يريد أن يكون مصدقا ، ولا يكون مكذبا لمجرد أنه لا يصدق ـ لأن هاتين الآليتين هي من أفعال القلب التي لا يمكننا السيطرة عليها , والإسلام جاء ليخلق النية الحسنة والطوايا الطيبة وهي لا تتم إلا من خلال تربية معينة ... تلك هي الأخذ بتعاليم هذا الإسلام واتباع مايمليه من أوامر وأخلاق وعبادات .. أما أن يظن بأن هذه النوايا تتم أو تتشكل في الهواء أو أننا نتحكم فيها دون أن يبذل جهد مدروس لتشكيلها فهو أمر بعيد عن الصحة .. فأنا لا أحسن الظن بشخص ما لمجرد أنني أريد أن أحسن الظن به ، ولا العكس أيضا .. فإحسان الظن أو إساءته يخضع لعدة اعتبارات متمكنة في النفس حتى وإن لم استطع ترصدها ... قال تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) أي ليس الأمر موقوفا على ما تقررون بألسنتكم ، بل بما استقر في قلوبكم ، وما استقر في قلوبكم الله أعلم به منكم .. ومن المعلوم أن الإيمان ثمرة للعمل الصالح ...
وفي النهاية أخلص إلى القول بأن الإسلام لم يأتي كقضية من القضايا الأخرى أو كنظرية من النظريات ، تقرأها وتطلع على مجملها وتفصيلها ثم لك أن تقبل بها أو أن ترفضها ، لأنه إن تناولته بهذه الطريقة ، فلا يتعدى قبولك بها أو رفضها رأيا ، والرأي يدور مع الهوى فحيث يكون الهوى يكون الرأي ، بل جاء ليقول لك أنك ستصل إلى عقيدة معينة وقناعة ثابتة وتصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من خلال ممارستك لهذه الأفعال ( الشرائع والنسك والعبادات الإسلامية ) فمن خلال التطبيقات العملية نصل إلى اليقينات القلبية أو العقلية ! قال تعالى ( قل إن تحبون الله ، فاتبعوني يحببكم الله .....) فالقول بدون العمل يظل مجرد ادعاء لا مصداقية له إلا بالتطبيق ...قال تعالى ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم سراطا مستقيما ) قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ذلك أنها تتدخل في تشكل نفور النفس وانجذابها نحو اتجاه معين ....