"تحدثت اليه عن الام اليهود فلم يسمعني، وحدثته عن مصالح بريطانيا فترك كأس البرندى الذي كان في يده ولمعت عيناه وبدء يسمعني"....(اللورد شافتسبري في وصف حديثه له مع بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا)
كان "نابليون بونابرت" يعتقد بدراسة الجغرافيا والتاريخ أن مصر هي أهم بلد في العالم، ولكن "نابليون" لم يكن ينظر الى مصر وحدها، وانما كان يراها في اتصال غير قابل للانفصال مع السهل السوري الذي يشكل معها زاوية قائمة تحيط بالشاطيء الشرقي الجنوبي للبحر الأبيض، وهذه الزاوية القائمة بضلعها الجنوبي في مصر تمد تأثيرها بالعرض الى كل الساحل الشمالي لأفريقيا، وبالطول الى الجنوب حتى منابع النيل، ثم انها بضلعها الشمالي في سوريا تلامس حدود بلاد مابين النهرين وشبه الجزيرة العربية والخليج، وحتى الاقتراب البري والبحري الى فارس والهند.
وهكذا فان "نابليون" شأنه شأن من سبقوه من الفاتحين لم يكد يستقر في مصر حتى راح يمد بصره الى سوريا، وحتى تكون الزاوية الجنوبية لشرق البحر الأبيض تحت سيطرته بالكامل. وكان ذلك بالضبط مافعله فراعنة مصر وأباطرة الاغريق وقياصرة الرومان وأكاسرة الفرس. وهو نفسه ماقام به الخلفاء المسلمون في أعقاب عصر النبوة، ثم تواصل بعدهم بامراء المؤمنين من الأمويين والعباسين، ثم حفظ دروسه فيما بعد كل حاكم تولى أمر مصر ابتداء من "أحمد بن طولون" و "صلاح الدين" وحتى مماليك مصر العظام من أمثال "الظاهر بيبرس" و "قلاوون".
أي أنه وعلى طول العصور كان لابد أن تكتمل الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض لتدخل في اطار سياسي واحد يجعل كل ضلع منها تأمينا للضلع الثاني... ضرورة جغرافيا وعبرة تاريخيا!
لكن المعضلة في ظن "نابليون" أن سوريا قريبة بأكثر مما ينبغي من مقر الخلافة في تركيا، وقد يكون ممكنا في يوم من الأيام طبقا لتقديراته أن تتصدى دولة الخلافة لمشروعة وتقاتله في ولايتها السورية، وتجد في ذلك عونا من امبراطوريات أخرى منافسة له، كالامبراطورية البريطانية.
ولكي يظمن "نابليون" عدم التقاء الضلعين (اللذان شرحتهما مسبقا) عربيا واسلاميا، فانه يزرع عند نقطة التقائهما اي عند مركز الزاوية، شيئا اخر لا هو عربي ولا هو اسلامي، لكن هذا الزرع لا يمكن خلقه من العدم، وانما يحتاج خلقه الى بذور حتى وان كانت من جينات حفريات الأنثروبوجيا بحيث يمكن غرسها في التربة، فاذا جرى ريها وأورق بعضها فحينئذ قد يصعب التمييز بين الأصل والدخيل، وبين الطبيعي والهجين.
وهكذا تجيء ورقة "نابليون" اليهودية تصورا للمستقبل ورؤية - ربما لا تتحقق بسرعة - لكنها قابلة للتحقيق في مستقبل الأيام...
وعندما أصبح " نابليون" امبراطورا لفرنسا فان مصر كانت لا تزال في حساباته أهم بلد في العالم، وكانت فكرة اليهود الوطن اليهودي العازل بعدها مستولية عليه، وهكذا فانه دعا سنة 1807 الى عقد مجمع يهودي "سانهردان" يحضره كل يهود أوروبا ممثلين في رؤساء طوائفهم، الى جانب مشاهير حاخاماتهم، ليلم "شمل الأمة اليهودية" على حد قوله، ثم كان ملفتا أن يكون القرار الذي يحمل رقم 3 من قرارات المجمع، قرارا يتحدث بالنص عن "ضرورة ايقاظ وعي اليهود الى حاجاتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من اداء واجبهم المقدس الذي يحتاج اليه دينهم"
ان عجلة التاريخ لم يتوقف دورانها، واستطاعت بريطانيا دحر خطط " نابليون"......، ولكن وبعد سنوات قليلة من الفوضى والارتباك استقر حلم جمع الزاوية الشرقية الجنوبية للبحر الأبيض بضلعها المصري والسوري في يد " محمد علي" والي مصر الكبير.
وقد نجح "محمد علي" في تأسيس دولة عصرية مصرية وعربية قادرة على أسباب القوة، وقادرة على أسباب الوحدة في العالم العربي.
والواقع أن "محمد علي" لم يدخل سوريا غازيا، وانما دخلها وسط علامات نهضة وطنية سورية تلاقت طموحاتها مع نموذج "محمد علي"، ودفعتها قوة الاشياء وبينها التاريخ الى وضع العلاقة بين مصر وسوريا في وضع متميز.
ولقد أخذ رئيس وزراء بريطانيا اللورد " بالمرستون" عن امبراطور فرنسا " نابليون" وتعلم منه، وكانت تلك ميزة بريطانيا في فترة صعودها... تحفظ الدرس من أعدائها وتطبق ثقافتهم بأفضل منهم.
وكتب "شافتسبري" في يومياته - 14 يونيو 1838 - مانصه:
"أمس تناولت العشاء مع بالمرستون، ورحت بعد العشاء أحدثه عن مأساة اليهود وعذابهم، وكان يستمع الي وعيناه نصف مغمضتان يمسك بيده كأس براندي يرشف منه مابين وقت واخر.
وعندما تركت حديث الماساه اليهوديه ورحت احدثه عن المصالح والمزايا التجاريه والماليه التي تنتظر بريطانيا في الشرق , لمعت عيناه وبدا الاهتمام على وجهه وترك كاس البراندي على المائده بجانبه وراح يسمعني"
ان الوثائق البريطانيه في تلك الفتره حافله بالشواهد على تطور فكر رئيس وزراء بريطانيا حتى وصل الى تحديث ثلاثة اهداف للسياسه البريطانيه في الشرق الاوسط .
1.اخراج "محمد على" من سوريا لفك ضلعي الزاويه المصريه -السوريه.
2.حصر "محمد على" داخل الحدود المصريه وراء صحراء سيناء الى نوع من "سدادة فلين" تقفل عنق الزجاجه المصريه التي يمثلها وادي النيل.
3.قبول وجهة النظر القائله بفتح ابواب فلسطين لهجرة اليهود اليها وتشجيعهم على انشاء شبكه من المستعمرات الاستطانيه فيها ليكون منها ذات يوم عازل يحجز مصر عن سوريا, ويمنع لقائهما في الزاويه الاستراتيجيه الحاكمه !!
الحلقة القادمة باذن الله "محمد علي"
كان "نابليون بونابرت" يعتقد بدراسة الجغرافيا والتاريخ أن مصر هي أهم بلد في العالم، ولكن "نابليون" لم يكن ينظر الى مصر وحدها، وانما كان يراها في اتصال غير قابل للانفصال مع السهل السوري الذي يشكل معها زاوية قائمة تحيط بالشاطيء الشرقي الجنوبي للبحر الأبيض، وهذه الزاوية القائمة بضلعها الجنوبي في مصر تمد تأثيرها بالعرض الى كل الساحل الشمالي لأفريقيا، وبالطول الى الجنوب حتى منابع النيل، ثم انها بضلعها الشمالي في سوريا تلامس حدود بلاد مابين النهرين وشبه الجزيرة العربية والخليج، وحتى الاقتراب البري والبحري الى فارس والهند.
وهكذا فان "نابليون" شأنه شأن من سبقوه من الفاتحين لم يكد يستقر في مصر حتى راح يمد بصره الى سوريا، وحتى تكون الزاوية الجنوبية لشرق البحر الأبيض تحت سيطرته بالكامل. وكان ذلك بالضبط مافعله فراعنة مصر وأباطرة الاغريق وقياصرة الرومان وأكاسرة الفرس. وهو نفسه ماقام به الخلفاء المسلمون في أعقاب عصر النبوة، ثم تواصل بعدهم بامراء المؤمنين من الأمويين والعباسين، ثم حفظ دروسه فيما بعد كل حاكم تولى أمر مصر ابتداء من "أحمد بن طولون" و "صلاح الدين" وحتى مماليك مصر العظام من أمثال "الظاهر بيبرس" و "قلاوون".
أي أنه وعلى طول العصور كان لابد أن تكتمل الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض لتدخل في اطار سياسي واحد يجعل كل ضلع منها تأمينا للضلع الثاني... ضرورة جغرافيا وعبرة تاريخيا!
لكن المعضلة في ظن "نابليون" أن سوريا قريبة بأكثر مما ينبغي من مقر الخلافة في تركيا، وقد يكون ممكنا في يوم من الأيام طبقا لتقديراته أن تتصدى دولة الخلافة لمشروعة وتقاتله في ولايتها السورية، وتجد في ذلك عونا من امبراطوريات أخرى منافسة له، كالامبراطورية البريطانية.
ولكي يظمن "نابليون" عدم التقاء الضلعين (اللذان شرحتهما مسبقا) عربيا واسلاميا، فانه يزرع عند نقطة التقائهما اي عند مركز الزاوية، شيئا اخر لا هو عربي ولا هو اسلامي، لكن هذا الزرع لا يمكن خلقه من العدم، وانما يحتاج خلقه الى بذور حتى وان كانت من جينات حفريات الأنثروبوجيا بحيث يمكن غرسها في التربة، فاذا جرى ريها وأورق بعضها فحينئذ قد يصعب التمييز بين الأصل والدخيل، وبين الطبيعي والهجين.
وهكذا تجيء ورقة "نابليون" اليهودية تصورا للمستقبل ورؤية - ربما لا تتحقق بسرعة - لكنها قابلة للتحقيق في مستقبل الأيام...
وعندما أصبح " نابليون" امبراطورا لفرنسا فان مصر كانت لا تزال في حساباته أهم بلد في العالم، وكانت فكرة اليهود الوطن اليهودي العازل بعدها مستولية عليه، وهكذا فانه دعا سنة 1807 الى عقد مجمع يهودي "سانهردان" يحضره كل يهود أوروبا ممثلين في رؤساء طوائفهم، الى جانب مشاهير حاخاماتهم، ليلم "شمل الأمة اليهودية" على حد قوله، ثم كان ملفتا أن يكون القرار الذي يحمل رقم 3 من قرارات المجمع، قرارا يتحدث بالنص عن "ضرورة ايقاظ وعي اليهود الى حاجاتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من اداء واجبهم المقدس الذي يحتاج اليه دينهم"
ان عجلة التاريخ لم يتوقف دورانها، واستطاعت بريطانيا دحر خطط " نابليون"......، ولكن وبعد سنوات قليلة من الفوضى والارتباك استقر حلم جمع الزاوية الشرقية الجنوبية للبحر الأبيض بضلعها المصري والسوري في يد " محمد علي" والي مصر الكبير.
وقد نجح "محمد علي" في تأسيس دولة عصرية مصرية وعربية قادرة على أسباب القوة، وقادرة على أسباب الوحدة في العالم العربي.
والواقع أن "محمد علي" لم يدخل سوريا غازيا، وانما دخلها وسط علامات نهضة وطنية سورية تلاقت طموحاتها مع نموذج "محمد علي"، ودفعتها قوة الاشياء وبينها التاريخ الى وضع العلاقة بين مصر وسوريا في وضع متميز.
ولقد أخذ رئيس وزراء بريطانيا اللورد " بالمرستون" عن امبراطور فرنسا " نابليون" وتعلم منه، وكانت تلك ميزة بريطانيا في فترة صعودها... تحفظ الدرس من أعدائها وتطبق ثقافتهم بأفضل منهم.
وكتب "شافتسبري" في يومياته - 14 يونيو 1838 - مانصه:
"أمس تناولت العشاء مع بالمرستون، ورحت بعد العشاء أحدثه عن مأساة اليهود وعذابهم، وكان يستمع الي وعيناه نصف مغمضتان يمسك بيده كأس براندي يرشف منه مابين وقت واخر.
وعندما تركت حديث الماساه اليهوديه ورحت احدثه عن المصالح والمزايا التجاريه والماليه التي تنتظر بريطانيا في الشرق , لمعت عيناه وبدا الاهتمام على وجهه وترك كاس البراندي على المائده بجانبه وراح يسمعني"
ان الوثائق البريطانيه في تلك الفتره حافله بالشواهد على تطور فكر رئيس وزراء بريطانيا حتى وصل الى تحديث ثلاثة اهداف للسياسه البريطانيه في الشرق الاوسط .
1.اخراج "محمد على" من سوريا لفك ضلعي الزاويه المصريه -السوريه.
2.حصر "محمد على" داخل الحدود المصريه وراء صحراء سيناء الى نوع من "سدادة فلين" تقفل عنق الزجاجه المصريه التي يمثلها وادي النيل.
3.قبول وجهة النظر القائله بفتح ابواب فلسطين لهجرة اليهود اليها وتشجيعهم على انشاء شبكه من المستعمرات الاستطانيه فيها ليكون منها ذات يوم عازل يحجز مصر عن سوريا, ويمنع لقائهما في الزاويه الاستراتيجيه الحاكمه !!
الحلقة القادمة باذن الله "محمد علي"